لغز الرد الإيراني المعلّق.. كيف سيدعم “محور المقاومة” حزب الله؟
مع زيادة الضربات الإسرائيلية الموجعة لحزب الله في لبنان، يزيد الغموض حول موقف إيران من تنفيذ “وعيدها” وتهديداتها بالرد على إسرائيل ثأرا لاغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الراحل إسماعيل هنية على أراضيها، أو دعمًا لحزب الله الذي يتعرض لضغوط عسكرية شديدة.
فبعد اغتيال هنية في طهران يوم 31 يوليو/تموز 2024، الذي عدّه الإيرانيون أنفسهم “إهانة صارخة” تستوجب ردا مناسبا، يواجه حزب الله “وهو بيضة القبان في محور المقاومة” حربا إسرائيلية غير مسبوقة قد تؤدي إلى إضعافه كثيرا، إذا لم يكن الهدف “اقتلاعه والقضاء عليه” -وفق صحيفة يديعوت أحرونوت- ومن ثم تغيير المعادلات العسكرية والسياسية في لبنان والمنطقة برمتها.
وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد صرح عقب هجوم “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 بأنه “سيعمل على تغيير الشرق الأوسط”، ولا يتعلق الأمر في نظره بالقضاء على حركة حماس فقط، بل بتفكيك أطراف “المحور” الذين يدعمونها، وفرض حقائق جديدة في المنطقة، وفق حساباته.
مخاطر الغموض
وحسب صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية (عدد 19 سبتمبر/أيلول 2024)، فإن إسرائيل “انتقلت إلى مرحلة جديدة في حربها في الشمال، تهدف إلى اقتلاع منظمة حزب الله والقضاء عليها”، لذلك يخوض الحزب بدوره معركة وجود ضد إسرائيل، وفق تقدير الصحيفة.
ويتضح أن إسرائيل بقيادة نتنياهو، من خلال عملياتها المكثفة الأخيرة، لم تعد تكترث لأي نوع من الخطوط الحمراء وقواعد الاشتباك والردع المرسومة ضمنيا، وهو ما يفتح الباب أمام مستوى جديد من المواجهة، تزيد معها الأسئلة عن موقف إيران.
فطوال أشهر، راهنت طهران على سياسة الغموض وتأجيل الرد كورقة ضغط على نتنياهو للموافقة على وقف إطلاق النار في غزة، الذي كان يمثل بشكل ما مخرجا مناسبا لها من أعباء الرد، لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي رفض كل المبادرات، ومضى قدما في جرائمه في غزة ولبنان، وكثف عملياته ضد حزب الله، وهو ما أحرج إيران أكثر وزاد من أعبائها.
ويشير محللون أيضا إلى أن إستراتيجية الصمت الإيراني والغموض حول الرد كعامل تأثير نفسي وعسكري لم يردع إسرائيل ولم يخفف اندفاعاتها لمحاولة تقويض حزب الله، ونفذت تفجيرات “البيجر” التي أصيب فيها السفير الإيراني في بيروت، واغتالت قبل ذلك فؤاد شكر، ثم إبراهيم عقيل وقادة آخرين كبارا في قوة الرضوان الوحدة العسكرية الأبرز في حزب الله.
وهذه الإستراتيجية القائمة على الوعيد وتأجيل “الانتقام” وانتظار تراجع إسرائيل تراها بعض التحليلات مجرد ذريعة وكسبا للوقت، وهو ما ترك حرية المبادرة لدى نتنياهو الذي زاد في وتيرة التصعيد مستخفا بالرد الإيراني المنتظر، ومشككا فيه.
“محور المحور” تحت الضغط
ويرى محللون أن استمرار وجود “محور المقاومة” يرتبط بنتائج الحرب على غزة، لكنه متصل أكثر ببقاء حزب الله قويا عسكريا وفاعلا سياسيا، وهو ما يعني بالضرورة نتائج اليوم التالي من الحرب الإسرائيلية المتصاعدة على الحزب، بعد أن نقلت معظم جهدها وتركيزها العسكري إلى الجبهة الشمالية.
ومن المؤكد أيضا أن النفوذ الإيراني في المنطقة -وربما دوليا- يرتكز على وجود وفاعلية الأطراف التي تشكل “محور المقاومة” في مواجهة إسرائيل، سواء في العراق أو اليمن أو سوريا، لكن حزب الله يعدّ قطب الرحى في ذلك المحور، نظرا لوجوده المباشر بمواجهة إسرائيل وقوته العسكرية التي طورها طوال عقود، وتاريخ صراعه مع إسرائيل، ونفوذه في لبنان وكذلك سوريا وما بناه من معادلة ردع خدمت بشكل ما إيران.
ويعد الحزب الحليف الإقليمي الأهم لإيران في المنطقة كلها والفصيل الأقوى الذي تراهن عليه، ومن ثم يفترض أن يصبح تهديد قوته البشرية -كما يحدث حاليا- وموقعه وسلاحه خطا أحمر إيرانيا يستدعي تخفيف الأعباء عليه.
وتكمن أهمية حزب الله أيضا في المكانة الخاصة والكاريزما التي يتمتع بها أمينه العام حسن نصر الله ضمن محور المقاومة، والتي منحته “مساحة تأثير خاصة” في كل الجبهات، مثل سوريا واليمن والعراق.
كما أصبحت خبرة حزب الله القتالية والعسكرية وإدارته الصراع مع إسرائيل بشكل ما مرجعا لأطراف محور المقاومة، ومركز ارتكاز بالنسبة لإيران.
وبينما نقلت صحيفة يديعوت أحرونوت أن إسرائيل تدفع بعد العمليات الأخيرة حزب الله نحو “التراجع وفك ارتباطه مع قطاع غزة، أو الحرب الشاملة”، ويبدو أن الحزب اختار المواجهة “حفاظا على وحدة الساحات ومحور المقاومة”، حسب تصريحات الأمين العام للحزب حسن نصر الله.
ومع ذلك، تشير الوقائع الراهنة حتى الآن إلى أن إيران ألقت بأعباء المواجهة مع إسرائيل على كاهل حزب الله، مع عمليات إشغال محدودة وغير مؤثرة عسكريا لكنها مزعجة، يقوم بها الحوثيون في اليمن والفصائل الأخرى في العراق مساندة لغزة، دون أن يتدخلوا حتى الآن لدعم الحزب بشكل فاعل.
ويرى محللون أن إيران ما زالت تعول على قدرات حزب الله وعوامل قوته والخبرات العسكرية التي راكمها في مواجهة إسرائيل، للصمود وإحباط المخطات الإسرائيلية، كما أنه لا يتعرض حتى الآن لخطر وجودي يستوجب تدخلا كبيرا أو مباشرا، تفعل به ردها “المعلق”.
معضلة الرد وخطورة المجازفة
قبل أشهر، كانت إيران قد ردت على استهداف إسرائيل لقنصليتها في دمشق في أول أبريل/نيسان ومقتل عدد من ضباط الحرس الثوري، فأطلقت بعد نحو أسبوعين أكثر من 300 صاروخ ومسيّرة على إسرائيل، لكن ذلك الرد -على أهميته- اعتبر محدودا ومحسوبا عسكريا وسياسيا، ولم تعد “هيبة إيران” بعد اغتيال هنية على أراضيها تسمح أن يكون أي رد آخر محسوبا بالطريقة نفسها.
وإثر اغتيال إسماعيل هنية في طهران، بات الرد -الذي فات أوانه وتأخر أكثر من اللازم وفق محللين- معضلة إيرانية كبيرة، وأصبحت تبحث عن “معادلة صعبة وشائكة” تجمع بين ضربة انتقامية لا تكون رمزية، وليست قوية لتتسبب في حرب شاملة، وتكون في الوقت نفسه مقنعة للرأي العام الإيراني الداخلي و”محور المقاومة” ورادعة لإسرائيل.
وتشير تحليلات وتقديرات إلى غياب إجماع في إيران على ضرورة الرد، فهناك أطراف تخشى أن يجرها أي هجوم إلى حرب شاملة مع إسرائيل، وربما حتى مع الولايات المتحدة، وهناك أصوات -إصلاحية في معظمها- تدعو إلى البحث عن أسس لعلاقات أفضل مع الغرب والولايات المتحدة وجيرانها في المنطقة.
ومع المرحلة الانتقالية التي تعيشها إيران بعد وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي في سقوط طائرة ملتبس، وانتخاب الرئيس الجديد مسعود بزشكيان وتشكيل حكومة جديدة، ما زالت تتحسس ملفاتها، ويصعب عليها اتخاذ قرار كبير بحجم شن حرب لا تعرف مآلاتها، لذلك تسعى طهران لتفويت الفرصة على نتنياهو.
وفي هذا السياق، جاء تصريح المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي عن “كون التراجع التكتيكي أمام العدو لا ضير فيه”، إذ تعتقد إيران أن بنيامين نتنياهو يحاول جرها إلى حرب ستكون لها “تداعيات خطيرة”، باستهداف منشآتها العسكرية والاقتصادية والنووية، خصوصا إذا كانت على “أعتاب امتلاك القنبلة النووية”، قد تشكل رادعا نهائيا لإسرائيل.
وفي هذا السياق، قال محسن رضائي، رئيس الحرس الثوري الإيراني السابق، لشبكة سي إن إن، “لقد حققنا في العواقب المحتملة، ولن نسمح لنتنياهو، الذي يغرق في المستنقع، بإنقاذ نفسه. ستكون الإجراءات الإيرانية محسوبة للغاية”. وبعكس الإستراتيجية الإيرانية، لم يردع ذلك بنيامين نتنياهو الذي قرأ غياب الرد أو تأجيله على أنه عامل ضعف.
وليست الأوضاع الاقتصادية والسياسية الإيرانية في أحسن أحوالها في ظل العقوبات الاقتصادية الأميركية والغربية، ومع زيادة حدة التضخم وتراجع قيمة العملة الإيرانية، ومن شأن حرب مع إسرائيل أن تضغط أكثر على النواة المجتمعية، بما قد يؤدي إلى انفجارها.
وترى صحيفة “اعتماد” الإيرانية -ذات الميول الإصلاحية- (عدد 11 أغسطس/آب 2024) أن إيران لا ينبغي أن تتورط في حرب مباشرة مع إسرائيل، وأن السيناريوهات الممكنة يمكن أن تشمل “العودة إلى سياسة الصبر الإستراتيجي”، أو الحصول على امتيازات محورية من الغرب من خلال تغيير طريقة “الانتقام”.
وتذهب تحليلات إسرائيلية أيضا في هذا الاتجاه أيضا، ففي مقال بصحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية (عدد 22 سبتمبر/أيلول 2024) يرى الكاتب والمحلل السياسي راز تسيمت أن “القيادة الإيرانية تراجعت -على الأقل في الوقت الراهن- عن نيتها تكرار الهجوم الذي نفذته ضد إسرائيل في أبريل/نيسان الماضي، وذلك رغم أن كبار المسؤولين الإيرانيين واصلوا تأكيد التزامهم بالرد على اغتيال هنية”.
وحسب الصحيفة، يرجع ذلك القرار خصوصا إلى “دخول إدارة جديدة في طهران تسعى إلى استئناف المحادثات النووية وحل الأزمة الاقتصادية وكذلك تعزيز القوات الأميركية في المنطقة”، ويمثل هذا الوجود العسكري الأميركي الكثيف عامل ضغط على إيران يدفعها إلى تفضيل المناورة بمسألة الرد.
وأمام الحسابات الكثيرة والمعقدة، من المرجح -وفق المحللين- أن تلقي إيران بأعباء الرد أو مساندة حزب الله على أطراف “محور المقاومة” الأخرى -على محدودية التأثير العسكري- لكنها تدرك أن حجم الضرر الذي قد يلحق بالحزب في هذه الحرب سينعكس تلقائيا على المحور وعلى نفوذها ودورها.