ظاهر العمر الزيداني.. بين الحقيقة التاريخية وصورة “ملك الجليل”

د. عبد الرازق متاني- استاذ الاثار والعمارة (باحث في الأرشيف العثماني- إسطنبول)
شاركتُ يوم السبت الماضي (6 كانون الأول 2025) في احتفالية ثقافية مميزة بعنوان “ظاهر العمر الزيداني: إرث، ثقافة، وهوية”، نظّمتها بلدية عرّابة البطوف احتفاءً بمرور 250 عامًا على رحيل هذه الشخصية التاريخية التي طبعت تاريخ الجليل بطابعها الخاص، وارتبط اسمها بحسب المنظمين بلقب “ملك الجليل”.
كان هذا اليوم الدراسي غنيًا بفقراته، إذ تضمن عرضًا فنيًا جميلًا جسّد العمائر المختلفة التي أقامها ظاهر العمر في أرجاء فلسطين، وعكس جوانب من الازدهار العمراني الذي شهدته المنطقة في عهده. كما جرى خلال الاحتفالية تكريم وإشهار إصدارين علميين للأستاذ قاسم بدارنة هما: “صفحات من تاريخ عرّابة وسهل البطوف” و”ظاهر العمر: جذور وتحديات”.
في هذا المقام، أتقدّم بخالص الشكر والعرفان لبلدية عرّابة ممثلة برئيسها الدكتور أحمد نصّار، على هذه المبادرة الثقافية الثرية وعلى كرم الضيافة والترحاب الذي عهدناه دائمًا من أهلنا في عرّابة الجليل.
ولا يفوتني أن أخصّ بالشكر الصديق العزيز الأستاذ خالد عوض، مدير جمعية السباط للحفاظ على الثقافة والتراث، على جهوده في خدمة التراث، وعلى جهوده الخاصة في إنجاح هذا اليوم المميز.
وأود أن أشير أن مشاركتي اقتصرت على المحور الأول من اليوم الدراسي المعنون “كيف شكّل إرث ظاهر العمر ملامح الحضارة والسياسة في الجليل”، نظرًا لالتزامات ميدانية أخرى حالت دون إكمال مشاركتي لهذا اليوم الأكاديمي الهام وإبداء مداخلتي المفصّلة، وقد شملت ثلاث محاضرات اكاديمية رصينة، وعلى اثر هذه المحاضرات توجه الي العديد من الأصدقاء مستفسرين حول بعض الطروحات التي أثيرت في الندوات أو تثار عموما حول شخصية ظاهر العمر الزيداني باعتباره “باني فلسطين الحديثة” او “ملك الجليل”، وان “قليل من كانوا يعرفون فلسطين قبل ظاهر العمر” و “هو جالب الحداثة والازدهار لأرض فلسطين (بالمفهوم الأوروبي طبعا) ومنقذها من “التخلف “.
وعلى إثر هذه الاستفسارات، رأيت لزامًا أن أشارك ببعض الملاحظات العلمية التي تصبّ في صلب تخصّصي كباحث في الآثار والعمارة الإسلامية والتاريخ والارشيف العثماني:
– إن ظاهر العمر الزيداني كان قائدًا فذًّا، ذا شخصية مميزة وحس إداري رفيع، أوصله إلى مراتب عالية في سلّم القيادة المحلية. غير أن تصويره في بعض المداخلات أو الكتيبات بأنه “ملك الجليل” أو بأنه المؤسس الأول للنهضة الفلسطينية الحديثة، أمرٌ ينطوي على مبالغة تاريخية ومغالطة علمية. ففلسطين لم تكن أرضًا خاملة كِفار حين “بزغ نجمه”، ولم تكن قُراها تغرق في الجهل أو التخلف، بل كانت جزءًا من نسيج حضاريّ قائم ومتجذّر في إطار الدولة العثمانية، وامتدادًا لطراز عمراني وثقافي عريق تفاعلت فيه العناصر الإسلامية والمشرقية قرونًا عديدة على حدّ سواء.
– تُظهر الوثائق والسجلات العثمانية – ومنها ما ورد في الأرشيف العثماني في إسطنبول – أن ظاهر العمر كان حاكمًا عثمانيًا محليًا (ملتزمًا) خدم تحت راية الدولة العثمانية غالب حياته، وكانت بينه وبين السلطنة علاقات طيبة ومراسلات رسمية عديدة بصفته الإداري المعتمد على الجليل.
– استغل ظاهر العمر تجارة القطن والحبوب مع الأوروبيين لبناء نفوذ واسع في عكا وساحل الجليل، مع اعتراف رسمي عثماني بسلطته بصفته «أمين جمرك عكا». أدّى هذا الثراء إلى تكوين قوة عسكرية وتحالفات محلية جعلته لاعبًا أساسيًا في توازن القوى المحلية في الشام.
– كما تُبيّن تلك الوثائق أنه كان من أوائل من يسددون الضرائب إلى الدولة بانتظام، وأن معظم مشاريعه العمرانية كانت تتم بإذن رسمي وفي إطار السلطة المركزية، وليس بتنصّل عنها أو تمرّد مبكر عليها.
– أما تمرده في أواخر حياته فقد جاء في سياق ظروف سياسية مضطربة، حين دخلت الدولة العثمانية حربها مع روسيا القيصرية (1768- 1774) وما رافقها من اضطراب في الأطراف. وقد تأثر ظاهر العمر بتحالفات علي بك الكبير، والي مصر آنذاك، الذي حاول الاستقلال بمصر والسودان بدعم فرنسي فصار يُنظر إليه كـ«عاصٍ» يجب القضاء عليه بعد تمرده على الدولة. غير أن التمرد لم يلبث أن انتهى سريعًا بعد توقيع معاهدة كوجاك قينارجه عام 1774، لتستعيد الدولة العثمانية سيطرتها على الجليل وتطوي صفحة قصيرة من العصيان المحلي.
– وفي هذا السياق احيلكم الى رسالة الدكتوراه الجادة التي كتبها الدكتور “يحيى كوتش” حول إيالة صيدا في الفترة العثمانية (1700- 1775) والتي تعتبر مرجعا جامعا وهاما قام من خلالها بعرض ومناقشة الكثير من السجلات والمخطوطات والمراسلات المتعلقة بإيالة صيدا وتاريخها في الفترة المعنونة، ومن ضمنها سيرة ظاهر العمر الزيداني.
– العمران الذي خلّفه ظاهر العمر – من مساجد وأسوار ومراكز حكم – يحمل في جوهره سمات العمارة العثمانية التقليدية من حيث النمط والتقنيات والمواد، وهو شاهد على استمرارية الطراز العثماني في المنطقة ويعكس علاقة ظاهر العمر مع الدولة العثمانية، بل ويعتبر بصمة واضحة على هوية الدولة.
– كما ان بعض المباني التي شُيّدت في انحاء الجليل والتي ت تُعَرَّفُ على انها “قلاع” هي في حقيقة الامر ليست قلاعًا عسكرية محصّنة بالمعنى الحربي؛ بل هي مراكز إدارية وسكنية تعكس طبيعة حكم ظاهر العمر المحلي وارتباطه بالتنظيمات المركزية للدولة.
– كل هذا يؤكد انه لا يصحّ، من منطلق البحث التاريخي الرصين، أن نصوّر ظاهر العمر كحاكم منفصل عن الدولة العثمانية أو كمؤسس حضارة جديدة؛ فالحقيقة أنه كان جزءًا من شبكة الحكم والإدارة العثمانية التي امتدّت لأربعة قرون على بلاد الشام.
– أما النهضة العمرانية التي يشير إليها بعض الباحثين في القرن الثامن عشر، فهي تشكل امتدادا للحيوية الاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها فلسطين في الفترات المملوكية والعثمانية المتعاقبة لا ينكره الا جاهل، وليست انطلاقة من فراغ.
كما لا يمكن تناول سيرة ظاهر العمر ودوره في تشكيل عمران الجليل وفلسطين في القرن الثامن عشر دون التذكير أيضًا بأثر الزلازل العنيفة التي ضربت البلاد والمنطقة، والتي تركت بصمات عميقة على النسيج العمراني والمعماري، من بينها:
– زلزال 1759م الذي ضرب شمال فلسطين، وتسبب في دمار كبير في بيسان وطبريا، ووصلت آثاره إلى صفد ونابلس، وخلّف آلاف الضحايا وتسبب في موجة تسونامي من بحيرة طبريا وعلى إثره قامت الدولة العثمانية بحملة تجديد واعمار للمدن الفلسطينية والشام عموما وجزء من هذه المهمة اوكلت للحكام المحليين ومنهم ظاهر العمر الزيداني الذي بدأ بحملة من الاعمار وتجديد المدن كما تشير السجلات.
– زلزال صفد 1837م ويُعرف بـ “نكبة صفد الكبرى”؛ الذي دمر مدينة صفد القديمة بالكامل وتسبب في خسائر فادحة في الجليل، ولا سيما طبريا وصفد، ووصلت أضراره إلى نابلس وسوريا والأردن، وقتل آلاف الأشخاص. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى تجدد دور الدولة العثمانية في أعقاب الكارثة في تنظيم جهود إعادة الإعمار وترميم الأبنية المتضررة، وفي فرض أنماط جديدة من البناء واستخدام المواد وتقوية الأساسات، بما يعكس التفاعل بين الكارثة الطبيعية من جهة، والسياسات العمرانية للدولة من جهة أخرى في رسم ملامح عمارة الجليل والمن الفلسطينية.
– إن ادعاء أحد الباحثين بأن فلسطين لم تكن معروفة، وأن تاريخها بدأ في القرن الثامن عشر حين “انتقلت إلى التحضّر أسوة بالغرب”، هو قول مجافٍ للحقيقة، ينطوي على ازدراء للذات وتبنٍّ غير واعٍ للمنظومة الفكرية الغربية، وفيه مسّ بهويتنا الوطنية وتشويه لتاريخنا العريق الراسخ في هذه الأرض منذ قرون، بما يحمله من عمق حضاري وإسهام إنساني لم ينقطع عبر العصور.
– نحن كشعب فلسطيني نعتزّ بتاريخنا المديد، الممتدّ في عمق الأرض منذ قرون طويلة، ولا نقبل تجيير التاريخ لخدمة توجهات
أو مصالح فكرية أو سياسية آنية.
ففلسطين لم تُعرف من خلال شخص واحد مهما علت منزلته، بل من خلال تراكم الأجيال والحضارات التي توالت على أرضها، ومن ضمنها الدولة العثمانية التي أسهمت الكثير في إعمار البلاد وصون مواردها وتطوير عمرانها، رغم ما شهدته من تحديات متمثلة بالأوبئة والزلازل والهزات التي ألمّت بالبلاد في فترات متفاوتة.
خلاصة القول: إن ظاهر العمر الزيداني كان حاكمًا عثمانيًا بارزًا ترك بصمة واضحة في جليلنا العزيز، خدم البلاد وطوّر عمرانها تحت راية الدولة العثمانية معظم حياته، قبل أن يختلف معها ويعصيها في نهاية مسيرته وحين انشغالها بحرب مصيريه. عمارة الظاهر هي جزء أصيل من النهضة والعمارة العثمانية العريقة في شمال فلسطين خصوصا بعد الزلزال العظيم الذي ضرب البلاد عام 1759م وأحدث اضرارا بالغة في المنطقة وقد أوكلت له اعمال الاعمار كحاكم محلي في الجليل؛ وهذه الحقيقة هي صفحة مشرقة من تاريخنا وليست نقيضًا له. أما محاولات فصله عن سياقه العثماني أو تصويره كـ“مؤسس فلسطين الحديثة” فهي قراءات انتقائية لا تستقيم مع المصادر التاريخية ولا الحقائق على ارض الواقع.
كما وأؤكد أن تناول سيرة ظاهر العمر الزيداني ضمن إطارها التاريخي الصحيح لا يمسّ من قدره، بل يُنصفه ويُظهر إنجازاته في سياقها الواقعي ولا يقلل من تاريخ بلدة او اخرى. وفي نفس السياق أؤكد على أن عائلة الزيادنة والتي انحدر منها ظاهر العمر هي من العائلات العربية العريقة في بلادنا، ذات تاريخ مجيد وماضٍ زاخر يمتد بجذوره في هذه الأرض قبل عهد ظاهر العمر بقرون، وما زالت بصمات أبنائها واضحة وحاضرة في العديد من مدن وقرى الجليل وحاضرنا الذي نعيش. إن قول الحقيقة والتمسك بالمنهج العلمي لا ينتقص من شأنهم، بل يعزز مكانتهم كجزء أصيل من نسيج تاريخنا الوطني والاجتماعي الفلسطيني الاصيل.




