أخبار وتقاريردين ودنياومضات

الطلاق العاطفي.. طلاق بلا أوراق

ليلى غليون

إنه طلاق لا يحتاج إلى تلفظ ولا إلى ضجيج يعلن الفراق بين الزوجين ولا إلى محاكم وأوراق رسمية لثبوته، وقد لا يعلم به أحد من الأهل أو المعارف أو الجيران، إنه طلاق يُبقي على الزوجين علاقتهما الشرعية الرسمية، ولكنه حالة مرضية خطيرة خفية تتسلل إلى عمق الحياة الزوجية دون أن يلاحظها الطرفان في بدايتها، ولكن مع مرور الوقت تحولها إلى علاقة باهتة باردة بلا روح بلا حياة، تحولها إلى روتين جامد يخلو من المشاعر والاهتمام، فيصبح حضور الزوجين فيها مجرد شكليات أو عادة، أو لأجل القيام بالواجبات، والغياب فيها هو الحقيقة التي لا ترى، ليترك في نفسية الزوجين آثارًا وندوبًا قد تكون أعمق من الانفصال الحقيقي، ترى الأنوار الخارجية في البيت مضاءة تتلألأ، ولكن الأنوار الداخلية في قلبيهما مطفأة، لتجد بيتًا يعيش فيه شخصان، يعيش كل منهما عزلة داخلية رغم وجود شريكه بجانبه، ولكن كل واحد منهما يسكن عالمًا مختلفًا.

ففي زحمة وضغوطات ومسؤوليات الحياة المتراكمة، ولهاث الكثير خلف الماديات التي أوقعتهم في أسرها وشباكها، ففي واقع هذه الظروف الشائكة والمتشابكة، قد يعيش الزوجان تحت سقف واحد لسنوات عديدة، تجمعهما حياة مشتركة وفي ظلال أسرة واحدة، لكن مشاعرهما تتآكل تدريجًا، والمسافات بين قلبيهما تتسع بصمت وهدوء، ليغيب الدفء والنظرات الحانية وتصبح الكلمات بالقطارة إلا للضرورة القصوى، ومع مرور الأيام تزداد الهوة والفجوة بينهما بصورة تدعو للقلق.

إنه الطلاق الصامت أو الطلاق العاطفي، وهو لا يعني أن الزوجين لا يلتقيان أو يتحدثان، إنهما يعيشان معًا في نفس البيت، يمران بجانب بعضهما البعض في ممراته أو غرفه أو ساحاته، ويتحدثان حديثًا يخص شؤون البيت والأولاد، ولكنهما يلتقيان كما يلتقي المسافرون ببعضهم في محطة مكتظة بالمسافرين الغرباء دون رابط يجمعهم، يتبادلون الحديث العام ولكن عندما يفترقون ويمضي كل لحال سبيله تصبح أحاديثهم ولقاءاتهم في طي النسيان.

إنهما يتحدثان عن تفاصيل البيت، عن المشتريات عن الأولاد وغيرها، ولكنهما لا يتبادلان شيئًا عن تلك الأحاديث وتلك الكلمات التي تصنع القرب، تصنع المحبة، تصنع الرحمة، تشعل الدفء في البيت.

إنه ليس غيابًا للحضور وليس غيابًا للصوت والحديث، ولم يحصل دفعة واحدة أو من لحظة محددة، لقد تشكل من تراكمات وتفاصيل صغيرة في حياة الزوجين لم يعراها اهتمامًا ولكن لها من الأهمية ما لها، تشكل من كلمة حانية لم تجر على لسان أحدهما أو كليهما، من اهتمام كان يجب أن يعبرا عنه تجاه بعضهما، من انشغال مفرط في العمل والوظيفة وإهمال بعضهما، من ضغوطات اقتصادية أثقلا ميزانية الأسرة بها، من غياب حوار دافئ غاب عن جلساتهما بل انطفأ وتحول إلى صمت قاتل ثقيل، أو في أحسن الأحوال تحول إلى حوار ملزم فقط من أجل التحدث في شؤون البيت والأولاد، لتتحول العلاقة الزوجية إلى مجرد مسؤوليات يومية باردة برودة الزمهرير يديرها الواجب فقط لا المودة والمحبة، لتبذل العلاقة بينهما كما تذبل الزهرة حين لا تجد من يسقيها، إنه غياب الدفء العاطفي في البيوت والأسر والذي بطبيعة الحال له انعكاساته السلبية ليس فقط على الزوجين، بل يمتد إلى فضاء الأسرة كله خاصة الأبناء الذين عادة ما يدفعون الثمن غاليًا من اضطرابات نفسية أو سلوكية.

فالأبناء لا يسمعون فقط الكلمات والعبارات من والديهم، إنهم يلتقطون ويفهمون المشاعر التي تسكن بين السطور ويشعرون بها، ومهما حاول الأهل إخفاء مشاعرهم عن الأبناء، إلا أن الأبناء يشعرون بكل شيء حتى بالحزن الخافت الذي يعم البيت دون أن يفهموا ما الذي يحدث وما الذي يجري.

ومن التأثيرات السلبية للطلاق العاطفي على الأبناء:

  • شعور الأبناء بعدم الأمان العاطفي حيث يتسلل الخوف إلى قلوبهم والتساؤلات إلى عقلوهم الصغيرة، هل ستنهار الأسرة، هل سيُتركون وحدهم يواجهون مصيرهم، فالعلاقة السليمة الدافئة بين الزوجين سر ومفتاح الأمان الذي يحتاجه الأبناء.
  • عندما يرى الأبناء نموذجًا سلبيًا من خلال اضطراب العلاقة بين ذويهم، فإنهم قد يحملون هذا النموذج في المستقبل ويكررونه في علاقاتهم الخاصة مستقبلًا لأن هذا ما شاهدوه وتربوا عليه.
  • غياب الحوار الصحي بين الزوجين، والصمت بدل الحديث والمشاركة وانعدام القدوة الصحية، كل ذلك يعني للأبناء بأنهم يعيشون في أسرة غير متسامحة، وأن المشاعر ليس لها ضرورة، وأن العلاقات ممكن أن تستمر بلا حب، وأن الحياة يمكن أن تعاش بلا مشاركة حقيقية.

إن الحياة الزوجية ليست مجرد عقد متين وميثاق غليظ بين زوجين التقيا على كلمة الله، كما هي ليست بيتًا بُني على أحدث تصميم وطراز نتباهى به أمام الناس، إنها مساحة كبيرة من الأمن والأمان والتقدير والاحترام والدفء مهما كانت مساحة البيت صغيرة، فالعبرة ليست بكبر مساحة البيت أو صغرها، بل بمقدار ما يحمله كلا الزوجين من وعي لقدسية العلاقة التي تجمع بينهما، من وعي لبناء جسور دائمة تربط بين قلبيهما بالألفة والرحمة، من وعي أن البيت هو بمثابة قلعة لهما ولأبنائهما وأن هذه القلعة يجب أن تظل محصنة بحصون منيعة من عاديات الزمان مهما كلف الأمر ومهما أوجب من تضحيات سواء من الزوج أو الزوجة. فالتوكل على الله تعالى والنية الصادقة والكلمة الطيبة والحضور الحقيقي والاهتمام الصادق وتخصيص الوقت المشترك، كلها مفاتيح قادرة على أن تشعل في البيت قناديل المحبة وتبقي على سفينة الزوجية تسير بهدوء على مياه هادئة، كما هي قادرة على فتح أبواب كانت مغلقة لسنوات بين الزوجين، فالطلاق العاطفي ليس نهاية لمشوار الزوجية، ولكنه ضوء أحمر ورسالة خفية تخبر كلا الزوجين أن شيئًا ما يحتاج إلى انتباه ورعاية، ربما يحتاج إلى كلمة، ربما إلى نظرة، إلى وقت، ربما إلى اهتمام، فمتى ما أدرك الزوجان وجود هذا الخلل وعملا بصدق على قطع أسبابه فلا بد للحياة الزوجية أن تستعيد نبضها وروحها من جديد، فطريق الإصلاح ممتد وممهد إذا اجتمع الطرفان على الاصلاح بنية صادقة (إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما).

إن بيوتنا يجب أن تقوم من الداخل قبل أن تقوم من الخارج، فهي ليست مجرد جدران وسقف، هي دفء يجب أن يحافًظ عليه، هي قلوب يجب أن تظل تُسقى وتُتعهد، هي مشاعر يجب أن تظل نابضة بالحياة وبالحب والأمل لتبقى قائمة راسخة مهما هبت عليها أعاصير الحياة.

هي دعوة بل رجاء لكل زوجين أن يتوقفا لحظة وينظران لبعضهما البعض لا كمسؤوليات متبادلة ولا كحقوق وواجبات، بل كقلبين يستحقان العناية وكزوجين وشريكين يمكن إحياء ما خبا وفتر ما دامت الرغبة والارادة الصادقة موجودة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى