أخبار عاجلةدين ودنياومضات

على خُطى سير أعلام النبلاء (4)

الشيخ أمير نفار – عضو حركة الدعوة والإصلاح

سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه، كان سهميًا في نسبه، داهية في عقله وذكائه، سيدًا في قومه قبل أن يسلم، وعندما اختار الإسلام، ولد من جديد.

في أصعب الفترات وأحلكها على الأمة، وقد همس البعض باستحالة محاربة المرتدين بل صرّح، هتف يومها صدّيق هذه الأمة رضي الله عنه بهتاف المجد الشهير الذي لا يرى المستحيل إلا حكايات مزورة: “أينقص الدين وأنا حيّ”، وصل صداها بمداد العزم إلى سيدنا عمرو بن العاص لا لمحاربة المرتدين فحسب! بل لفتح بلاد الشام، فسطّر سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه جوابًا ينبغي أن يحوّل شعارًا بل منهاجًا، قال فيه: “إني سهمٌ من سهام الإسلام، وأنت عبد الله الرامي بها، والجامع لها، فانظر أشدّها وأخشاها فارمِ بي فيها”.

ولكي لا يُظن أن هذه الإجابة من نوادره رضي الله عنه فقد نقل الإمام ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية، أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أرسل إلى الوليد بن عقبة بمثل ذلك، وردّ عليه مثله.. فهي أمة بعضها من بعض.. فإذا فهم العبد دوره، وأدرك في هذه الحياة رسالته، اختار لنفسه أرفع المنازل، وأكثر الأدوار تحقيقًا لغايته… سهمٌ.. متأهب للانطلاق، جاهز وتوّاق.. وفي يد أمينةٍ، ارتضاها راميًا.. وسلّمها للاختيار..

أما الانسحاب إلى الساحات والمساحات الآمنة – وهي على كثرتها، بدأت تتقلص – فهو أسهل الخيارات، والتقوقع على الذات مع تضخيم مصلحتها سلوكٌ مُزيّن.. لكنهما ينسجمان مع من كانت الدنيا همه، ومبلغ علمه.

وإذا لم يُحصّن الإنسان قلبه، بوردٍ من القرآن، وصحبةٍ تذكره بالله، ومجالسةٍ لأهل الإيمان، فإن حياة المدنية الحديثة “الغُربة المأهولة” ستبتلعه في دوامة لا نهاية لها، وتلقي به في مجاهل الزحام، حتى يغدو رقمًا في طابور طويل من المستهلكين، لا يميّزه إلا نوع هاتفه، وعدد متابعيه…

فنحن كما كتب أحدهم نعيش في زمن “خصخصة الباطن”، حيث يعاد تشكيل الإنسان على مستوى الذكورة والأنوثة، والعقيدة والانتماء، ليُقدَّم منتجًا في السوق ويكون سهمًا في جعبة المادة الصمّاء ليُهشّم نفسه أولًا ثم كل إنسان مستقيم، لأنه لا يُدرُ ربحًا، ولا يُنتج سوقًا.

أما أهل الآخرة، فلا تزال أقدامهم مرابطة على الثغور، يحتسبون الهمّ، ويوقدون الهمة، ويوقنون بأن الله وعد، فلم تثقلهم الطاعات، ولم يجزعوا من الابتلاءات، لأنهم عرفوا أن الأثمان العظيمة لا تُدفع إلا لأجل الجزاء العظيم، وأن دقائق الفوز تُستحق سنوات الجهد، وأن الخلود في النعيم لا يُنال إلا بالعمر الذي يبذل لله.

وليس العاقل من ينظر إلى تعب الطريق، بل من يرقب بهجة الوصول.

ولذلك ينبغي أن تُستحضر مثل هذه القدوات لا بوصفها قصصًا وحكايات عن جيلٍ قرآني فريد فحسب، بل بوصفها أداة استنهاض كبرى للوعي، وركيزة مفاهيمية تعيد ترتيب تصورات الوجود من الجذور، وتستنهض الإنسان من موته المعنوي {أومن كان ميتًا فأحييناه}.

فاللهم أعنّا على تدارس كتابك، وفهم سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، وارزقنا صدق اتباع الصحب الكرام رضوان الله عليهم، وهمة البلاغ، ووضوح الرؤية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى