جروح المصابين الملتهبة تشبه رائحة الزيت الفاسد… منظمة أطباء بلا حدود تنقل رواية طواقمها وسط الحرب

سلط تقرير إنساني جديد لـ “منظمة أطباء بلا حدود” الضوء على الوضع الإنساني والصحي السيئ في قطاع غزة، بسبب استمرار الحرب الإسرائيلية التي دخلت شهرها العاشر، وأدت إلى استشهاد أكثر من 38,000 فلسطيني أكثرُ من نصفِهم نساءٌ وأطفال، وجُرِح 87,000 آخرون.
نقص الإمكانيات الطبية
وذكرت المنظمة الطبية الدولية أن المستشفيات قطاع غزة تفتقر لأبسط الأساسيات، محذرة من أن هذا الأمر سيؤدي إلى موت المزيد من المواطنين في كل ثانية تستمر فيه الحرب، وأشارت إلى أنه منذ 9 أشهر يشهد قطاع غزة “موتا وصدمات نفسية شبه مستمرة، ولم يسلم أي مكان من إراقة الدماء”، لافتة إلى أن الطواقم الطبية في غزة تتعرض مع كل هجوم لضغوط لا تطاق وسط نظام صحي مستنزف.
وتطرقت إلى عمل فرقها الطبية في أنحاء قطاع غزة، لتأمين الرعاية الأساسية والمنقذة للحياة للمصابين في الهجمات الإسرائيلية الشعواء، وقالت إنهم “يضطرون هم أيضا إلى الفرار للنجاة بحياتهم”.
وفي تقرير موسع نشرته هذه المنظمة الطبية، نقلت شهادات عن فريقها والمرضى التي وردت على مرّ الأشهر التسعة الماضية، حيث كشفت الشهادات بوضوح عن عدم وجود أي مكان آمن في غزة.
ورغم ذلك قالت إن طواقمها لا تزال تعمل في أنحاء قطاع غزة، على تأمين الرعاية الأساسية والمنقذة للحياة للمصابين في الهجمات الإسرائيلية الشعواء، ويضطرون هم أيضًا إلى الفرار للنجاة بحياتهم.
ونقلت المنظمة قصة كل من كامل الذي يعمل ممرض طوارئ، وحيدر المسؤول عن حراسة الأمن من أفراد فريقها المعني بعلاج الإصابات البليغة في مستشفى الشفاء في مدينة غزة، عندما رزحت تحت القصف في شهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني. وقد اضطرا مجتمعين إلى النزوح 18 مرة لغاية اليوم.
ويشير التقرير إلى أن أولئك الذين نجوا من انفجارات القنابل والقصف والأعيرة النارية التي تنهال عليهم بلا هوادة، “دفعوا مقابل حياتهم تنقلًا مستمرًا من مكان إلى آخر حاملين ما تيسَّرَ لهم من احتياجات أساسية”.
جرحى الحرب
ويشرح كامل عمله قائلا “المرضى الذين رأيتهم خلال هذه الحرب يختلفون عن الحروب السابقة، فمعظمهم يعاني من حروق عميقة ومن إصابات بالشظايا، كما فقد كثر أطرافهم أو أصيبوا بجروح ملتهبة، ولن أنسى رائحتها التي تذكرني برائحة الزيت الفاسد”.
ويقول حيدر عن الأوضاع الصعبة في غزة “كنا نستقبل 30 إلى 40 مريضًا يوميًا في العيادة، كما كنّا نعمل في مستشفى الشفاء ونعالج العشرات هناك، بقينا على هذه الحال لمدة 40 يومًا إلى أن صارت الأوضاع خطيرة للغاية، فقد بدأ الجيش الإسرائيلي بالتحرك صوب مستشفى الشفاء، باتجاهنا”.
وتطرق التقرير الذي أوردته هذه المنظمة الدولية، إلى وصول فريقها الطبي وعوائلهم إلى جنوب قطاع غزة، بعد رحلة مريرة، سبقها رفض إسرائيلي لعبور قوافلهم من الحاجز العسكري الذي يفصل شمال قطاع غزة عن جنوبه، وما واجهوه بعد رفض محاولة النزوح الأولى من استهداف قافلتهم بالقرب من مشفى الشفاء بمدينة غزة، واستشهاد أحد أفراد طاقهما الطبي، وكيف حوصر طاقمها في مكتبه في مدينة غزة، وكيف عاشوا بعد نفاد الطعام والماء هم وعائلاتهم.
وقالت إنه حين وصل فريق أطباء بلا حدود إلى جنوب غزّة مكثوا في “ملجأ اللوتس” التابع لأطباء بلا حدود في مدينة خان يونس وتابعوا عملهم.
وكان كامل الممرض الذي يعمل لديها يذهب يوميًا إلى مستشفى غزة الأوروبي ليقدّم الرعاية للمصابين بجروح بليغة إذ كانوا يصلون بأعداد كبيرة، فيما واصل حيدر قيادة السيارة ونقل الفرق الطبية إلى المستشفى الإندونيسي والاهتمام بالشؤون الأمنية.
ولكن ما لبث حيدر أن تلقّى أنباءً مفجعة بعد أسبوع، ويوضح “بدأت وقتها معاناةٌ من نوعٍ جديد، إذ تلقيت خبر مقتل أختي وأطفالها في مدينة غزة، فدخلت في حالة اكتئاب، ثم قُتلت ابنة أخي وأطفالها”.
ويضيف، “ثم في الجنوب، قتل ابن أخي وزوجته وأطفالهما بعد أن اجتاحت الجرافة بيتهم، وقتل عشرون فردًا من عائلتي ذلك الأسبوع”، ويتابع “حزنت جدتي وسرعان ما فارقت الحياة هي الأخرى، اسودّت الدنيا في عينيّ حين حدث كلّ هذا، لكنني حاولت مواصلة عملي”.
استهداف أماكن العمل
في الثامن من يناير/كانون الثاني، أي بعد حوالي شهرين على وصول كامل وحيدر إلى جنوب غزة، أصابت قذيفة من دبابة إسرائيلية “ملجأ اللوتس” وقتلت ابنة أحد أفراد الفريق وهي في الخامسة من عمرها، كما جرحت ثلاثة آخرين، وبعد الهجوم نُقل ما يزيد عن 125 شخصًا من فريق أطباء بلا حدود وأسرهم إلى الكلية العربية للعلوم التطبيقية في رفح، والتي تبعد كيلومترًا واحدًا عن الحدود المصرية، ومكثوا هناك لمدة شهرين.
ويقول حيدر “كنا نعيش في خوفٍ دائم، لكن لم يكن أمامنا خيارٌ آخر، إذ استمر القصف وإطلاق النار، حتى إنهم قصفوا بناءً مجاورًا لنا فأصيب مبنى الكلية بشظية. بقينا على حالنا لمدة، إلى أن أعلنوا عن اجتياح رفح”.
ومنذ اجتياح رفح، لم يتوقف كامل وحيدر عن النزوح من مكان لآخر شأنهم شأن آلاف الفلسطينيين الآخرين بسبب القصف والهجوم المتواصل في مناطق جنوب ووسط القطاع، حيث يتنقل حيدر من مكانٍ لآخر في منطقة المواصي، ويعيش في خيمة.
ويقول حيدر “نزحت قسرًا ثماني مرات، بمعدل مرة شهريًا، وكان آخرها قبل يومين، ولم أنم لمدة 24 ساعة لأننا كنا نتنقل من مكان لآخر بسبب الانفجارات، ويقول “لا أكفّ عن التفكير بزوجتي وأطفالي في شمال غزة، وأعاني يوميًا”.
ومنذ أن أُجبر كامل وأطفاله على ترك رفح، تنقّلوا أكثر من مرة في منطقة المواصي وبالقرب منها وفي مخيم البريج ومناطق وسط القطاع. يُشار إلى أنّهم يقيمون في البريج حاليًا ويؤكد كامل أن لا مأمن في غزة من القصف.
كفى قتلا
كما لا يعرف كامل ماهيّة الصدمات النفسية التي تعرّض لها أطفاله جرّاء ما مروا به، ويقول، “هذا الوضع يؤدي إلى الصدمات”، ويوضح أنه قبل عدة أيام كان أطفاله يلعبون مع أبناء أخيه وسمعتهم يروون لهم ما حدث مع علاء، ويضيف “لا يكفّون عن سرد قصة علاء، وما زالت الصدمة تتملّكهم إلى اليوم”.
وقد نقلت “أطباء بلا حدود” بيانات الأمم المتحدة التي تشير إلى أن 90 في المئة من سكان غزة نزحوا مرّة واحدة على الأقل منذ اندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس، علمًا أن معظمهم مجبرون على العيش في ظروف مروّعة.
وفي هذا الوقت لا يأمل حيدر سوى أن يلتم شمله بأسرته في مدينة غزة وبأن “ينتهي حمام الدم هذا”، ويقول حيدر “لقد طفح الكيل، كفى قتلًا، كفى قصفًا، كفى إطلاقًا للنيران، يمكننا إعادة إعمار بيوتنا وإصلاح كل شيء، لكن لا نستطيع أن نعيد من فارقونا، لقد رحلوا بلا رجعة”.
هذا وقد رصدت كاميرات هذه المنظمة الطبية الدولية، إقامة سكان قطاع غزة في هذا الوقت وسط الأنقاض، بسبب الدمار الإسرائيلي، ونشرت صورا لإحدى مركباتها وهي تتحرك في شارع غمرته مياه الصرف الصحي، حيث تضرر نظام الصرف الصحي بأكمله بعد أشهر من القتال العنيف والقصف المكثف من قبل القوات الإسرائيلية.


