الانتخابات كأداة لإعادة إنتاج الحلقة ذاتها وتدوير الوهم
ساهر غزاوي
من الطبيعي أن تشكل الانتخابات عاملًا حاسمًا في رسم سياسة الدولة وتحديد رؤيتها للمرحلة المقبلة، فهي ليست مجرد محطة إجرائية، بل لحظة تُعاد فيها صياغة أولويات السلطة ومساراتها في التعامل مع مختلف الملفات.
وفي مقدمة هذه الملفات محاولة تحسين الصورة العامة للسياسات الإسرائيلية أمام الرأي العام العالمي، ولا سيّما الغربي، بعد أن تضررت هذه الصورة على نحو غير مسبوق خلال عامين من الحرب الإبادية على غزة، وبقيت متصدعة رغم الإعلان الهش عن وقف إطلاق النار. ومن هنا تبرز الانتخابات الإسرائيلية المقبلة، المقرر عقدها في أكتوبر 2026، ما لم تُحل الكنيست قبل موعدها، كفرصة لإعادة ترميم هذه الصورة وإعادة تسويق السياسات ذاتها بخطاب أكثر ليونة، دون أي تغيير جوهري في بنية المشروع الصهيوني أو ممارساته على الأرض.
وفي هذا الإطار، تتشكل ملامح المرحلة المقبلة عبر مجموعة سيناريوهات تتمحور حول مستقبل معسكر اليمين وقيادة بنيامين نتنياهو، ويبرز بينها سيناريو تحالف يمين–وسط بدفع أمريكي لإنتاج حكومة تبدو أكثر اعتدالًا وقادرة على إدارة مسار “التحالف الإبراهيمي الموسع”.
ورغم محدودية قدرة واشنطن على التأثير المباشر في نتائج الانتخابات، فإنها تضغط عبر أدوات سياسية وإعلامية وتفضيل شخصيات “براغماتية” مقبولة غربيًا وعربيًا. في المقابل، يحاول نتنياهو إعادة التموضع وخطب ود شخصيات من خارج معسكره، غير أن المؤشرات تدل على أن الانتخابات المقبلة ستعيد إنتاج هيمنة اليمين وإن بصيغة أكثر تكيّفًا مع المرحلة الأميركية، فحالة الاستقطاب وتآكل الثقة بالمؤسسات لم تفرزا بديلًا قياديًا قادرًا على كسر معادلة الأمن والهوية.
وتبعًا لذلك، ينحصر الجدل في إسرائيل حول شكل اليمين لا حول إسقاطه، فيما يواصل نتنياهو تحصين موقعه عبر تشريعات تُقيد الجهاز القضائي وتحول محاكمته إلى رافعة تعبئة انتخابية تحت شعار “استهداف الزعيم والمنقذ الوحيد”.
وقد تجلى ذلك بوضوح في الطلب العلني الذي طُرح وتداولته وسائل الإعلام بشأن سعي نتنياهو إلى الحصول على عفو رئاسي من يتسحاق هرتسوغ من دون أن يغادر الحياة السياسية، وهو تطور يكشف عمق مأزقه القانوني والسياسي، ويُظهر في الوقت ذاته حجم الشرخ الذي أحدثته محاكمته داخل معسكر اليمين نفسه، وفي الشارع الإسرائيلي بالعموم الذي بات أكثر انقسامًا بين من يرى في نتنياهو عبئًا سياسيًا وأخلاقيًا، وبين من لا يزال يعتبره الضامن الوحيد للأمن والاستقرار.
وانطلاقًا من هذه المعطيات، يُرجح أن تتجه إسرائيل نحو إعادة تشكيل اليمين لا تغييره، فاستمرار هيمنة نتنياهو يبقى السيناريو الأقرب في المدى القريب، اعتمادًا على قدرته في توحيد معسكره واستثمار خطاب “الخطر الوجودي” في ظل الحرب على غزة والجبهة الشمالية، إلى جانب تحكمه الواسع بأدوات الائتلاف والتشريع.
غير أن تحقق هذا المسار سيعني مزيدًا من الانزياح نحو اليمين الديني–القومي، وتآكل ما تبقى من “الطابع الديمقراطي” الشكلي للنظام السياسي الإسرائيلي، في ظل قيادة باتت تُعيد تعريف القانون والمؤسسات وفق احتياجات بقائها لا وفق معايير وقواعد الحكم.
وعلى وقع هذه التحولات الإسرائيلية الداخلية، ومع اقتراب موعد الانتخابات وبدء “رائحة الصناديق” تزكم الأنوف في المجتمع الفلسطيني في الداخل، تتفاعل الساحة العربية في الداخل بصورة تكشف انفصالًا متزايدًا بين واقع المرحلة وخطاب الأحزاب.
فبدل استشعار حجم التحولات في البنية السياسية الإسرائيلية، تعود الأحزاب العربية وقوائمها الانتخابية إلى تكرار المشهد ذاته الذي أرهق الناس وأفقد السياسة معناها. وفي خضم هذا الضجيج، تعمل أدوات الإعلام وخطابات التعبئة على هندسة الوعي بطريقة تُربك القدرة على التمييز بين ضرورة فهم الواقع السياسي المركب، وبين اختزال السياسة في صندوق الانتخابات و”عجقة” التحالفات والمقاعد الموسمية، بحيث يُصنف كل من يرفض هذا الإطار باعتباره “منعزلًا” أو “مقاطعًا مريحًا”.
وبدل قراءة المرحلة بما تحمله من أخطار بنيوية، تستمر القوائم العربية في جر مجتمعنا إلى معارك وهمية وصراعات فئوية وحسابات انتخابية ضيقة، تستند إلى استطلاعات متناقضة وشعارات مُدغدغة للمشاعر حول “التغيير” و”التأثير”. غير أن هذا الخطاب لا يبدل شيئًا في معادلات الحكم الإسرائيلية، لا في اتجاهات التأثير الأميركي على شكل الحكومة المقبلة كما أسلفنا، ولا في مواقف الشارع الإسرائيلي والأحزاب اليمينية وما يُسمى “المركز” التي ترفض، بغالبيتها الساحقة، أي دور مؤثر للعرب، وليس عنا تصريحات بينيت ولبيد وغيرهما ببعيدة.
ومن هنا، يتحول خطاب المشاركة إلى أداة لإعادة تشكيل وعي الجمهور وتهيئته لقبول الهامش الضيق الذي يسمح به النظام، لتُقزم القضايا الجوهرية وتُحصر في مربع الخدمات الضيقة، داخل منظومة أمنية–قومية لا ترى العربي إلا رقمًا انتخابيًا.
وهذه القوائم، بمختلف تسمياتها، تستمر في تسويق الوهم القديم–الجديد، بأن الكنيست قادر على حماية الأرض والهوية والحقوق الجماعية، رغم أنه الإطار ذاته الذي أحبط كل جهد عربي سابق، وأعاق بناء قوة سياسية–اجتماعية قادرة على المواجهة والصمود.
وبذلك يُعاد إنتاج الحلقة ذاتها؛ نظام إسرائيلي يندفع أكثر نحو اليمين بلا كوابح، وقوائم عربية تتنازع على هوامش ضيقة، فيما يُترك مجتمعنا ليواجه التحديات الوجودية وحيدًا، وبوعي يُعاد تشكيله بما يخدم حاجات السلطة، لا بما ينسجم مع مصلحته الوطنية الحقيقية.
وهنا، كما هو متوقع، سيأتي السؤال التقليدي: ما هو البديل؟ وللإجابة أقول إنني لست بصدد إعادة ما قيل وكُتب مرارًا حول البدائل السياسية خارج إطار المشاركة في الكنيست، ولا استعراض الطروحات التي نوقشت في العقود الأخيرة.
ما أريده في هذا المقام هو التأكيد على ضرورة أن تكف القوائم العربية الانتخابية، ومعها بعض وسائل الإعلام المحلية ومراكز استطلاعات الرأي، عن مواصلة إنتاج خطاب الانقسام والتنافس الضيق، وعن تشتيت المجتمع تحت شعارات “التأثير” و”التغيير”.
فالكل بات يعلم، بما في ذلك هذه القوائم الانتخابية نفسها، أن المشاركة في الكنيست لا تتجاوز كونها معارك دونكيشوتية تدور في فلك المشروع الصهيوني واستراتيجيته لإدارة أزماته، ولا تحمل أي قدرة حقيقية على تغيير البنية السياسية أو إعادة تعريف موقعنا كفلسطينيين داخل هذا النظام.



