أخبار رئيسيةمقالات

معركة الوعي (184) المشهد الإسرائيلي من الداخل

حامد اغبارية
(1)
في كل مرة يخرج نتنياهو (منفردًا) أو برفقة جلانت وجانتس، في مؤتمر صحافيّ، تتكشف أكثر حقيقة الموقف، ليس فقط في ما يسمى “مجلس الحرب المصغّر” أو الكابينيت الموسع أو الحكومة الإسرائيلية بكليّتها، وإنما في المجتمع الإسرائيلي كلّه.

وحقيقة الموقف أن المجتمع الإسرائيلي يعيش حالة من فقدان البوصلة، وحالة من فقدان الذات، منذ السابع من تشرين الأول الماضي. وأهم ما يميز هذه الحالة أنَّ المجتمع الإسرائيلي يشعر (ويعرف جيدا) أنه دون قيادة حقيقية. إنه أمام “قيادة” تدير معركة خاسرة، وهو يرى أن هذه “القيادة” تسير به نحو المجهول. “قيادة” تتحدث عن نفسها- تلميحا أو تصريحا- أكثر مما تتحدث عن الأحداث الجارية وأكثر من ذلك، تحيط المستقبل بسحابات من الضباب، وكأنها (أي القيادة) تغتنم الظهور الإعلامي لتبييض صفحتها، وتبرير فشلها، وقلب الحقائق، واختراع القصص والوقائع الخيالية التي هي أشبه ما تكون بتبريرات الأطفال الذين يقدمون لوالديهم، في كل مرة، قصة من خيالهم يبررون فيها هروبهم من المدرسة أو فشلهم في الامتحان. وأكثر “بضاعة” رائجة في أوساط الأطفال للتبرير هي بضاعة إلقاء التهمة على المعلم أو المعلمة.

وأكثر من ذلك فإن الجمهور الإسرائيلي يعلم أن قيادته تكذب عليه أكثر مما تقدم له معلومات صحيحة حول الحرب وحول المستقبل، ومع ذلك فإن هذا الجمهور يبدو في أغلب الأحيان منسجما مع قيادته: يصدّق الكذبة ويرددها، لأنه لا يريد أن يعيش الواقع ولا أن يعترف به. فالعيش مع كذبة تعرف أنها كذبة حتى قبل أن تسمعها، أفضل مليون مرة من صدمة الواقع.

(2)
يبدو بوضوح، ومع كل إطلالة إعلامية لنتنياهو، منفردا، أو برفقة جانتس وجلانت، أن الخلافات داخل مجلس الحرب كثيرة وكبيرة، رغم كل محاولات إخفاء هذه الحقيقة من خلال ترديد شعارات الوحدة. ويبدو لي أن الخلافات بين نتنياهو وجلانت من جهة وبين نتنياهو وجانتس من جهة أخرى سنتفجر في لحظة ما غير متوقعة. فكلا الرجلين (جلانت وجانتس) يعرفان نتنياهو جيدا ويعرفان أكاذيبه وألاعيبه وتقلباته وأحابيله. ويعرفان أكثر أنَّ همّه الوحيد هو النجاة بجلده. فقد أضيف إلى ملفاته الجنائية، التي يحاكم بشأنها، ملفٌّ آخر أكثر خطورة قد يكلفه أكثر من اختفائه عن المسرح السياسي الإسرائيلي، وهو مسؤوليته عن الفشل في التعامل مع أحداث السابع من تشرين الأول الماضي. من أجل ذلك يسعى نتنياهو إلى إطالة أمد الحرب على غزة، هروبا من لحظة المساءلة القادمة لا محالة.

(3)
إلى أيّ مدى يستطيع المجتمع الإسرائيلي امتصاص أكاذيب قياداته، وعدم قولهم الحقيقة الكاملة عمّا يجري في ميدان المعارك في غزة؟
هناك أكثر من مصدر، إسرائيلي وغربي، يُلمح إلى أن خسائر الجيش الإسرائيلي في الحرب الجارية أضعاف أضعاف ما يعلن عنه المتحدث العسكري، الذي يردد في مؤتمراته اليومية مطالبته بالالتزام بما يأتي في بيانه اليومي، وعدم الاستماع إلى “الإشاعات”!!

من التجربة فإن المجتمع الإسرائيلي تساوره الشكوك حول حقيقة الأوضاع، ولذلك تجد في أوساطه من يسأل ويستفسر ويشكك ويضع علامات سؤال كثيرة. وهو لا يفعل ذلك عبثا، بل من تجارب الماضي التي سمع خلالها تفاصيل لا علاقة لها بالواقع.

والمجتمع الإسرائيلي مجتمع هش، لا يتحمّل الحروب الطويلة، ولا يتحمل الخسائر الكثيرة، خاصة في أوساط الجنود. ولذلك فإن هذه المسألة لا شك أنها تسبب قلقا كبيرا لنتنياهو وحاشيته، مع علمهم أنه سوف تأتي اللحظة التي يقدمون فيها كشف حساب كامل…

(4)
حتى الآن، وبعد مرور شهرين على الحرب، فإن الإعلان الرسمي يتحدث عما يزيد على 400 جندي قتلوا منذ السابع من تشرين الأول. وهذا الرقم وحده كاف لإحداث هزة داخل المجتمع الإسرائيلي، علما أن الحرب لم تضع أوزارها بعد، وأن الرقم (الرسمي) يتغير على مدار الساعة. فهل يستطيع المجتمع الإسرائيلي تحمل كل هذه الخسائر، وهو الذي لم يتحمل رُبع هذا الرقم في حرب 2006 مع حزب الله، وقرابة نصفه في حرب لبنان الأولى عام 1982؟

إنَّ ما يهم المجتمع الإسرائيلي هو إطلاق الرهائن في غزة. ولا يهمه كيف يتحقق ذلك، مع علمه (من تجارب سابقة) أنه لا يمكن تحرير رهينة واحدة بواسطة استخدام القوة العسكرية، كما لا يهمه الثمن الذي ستدفعه تل أبيب مقابل ذلك. ولذلك تجده، وفي مقدمته ذوو الرهائن، يضغط بكل قوة، وسيزداد الضغط مع مرور الوقت، من أجل استعادة الرهائن في أسرع وقت…
كذلك فإن المجتمع الإسرائيلي لا يستطيع أن يعيش حالة النزوح من الجنوب ومن الشمال، ولا أراه يصبر طويلا على هذا الحال، بل ستأتي لحظة ينفجر الغضب في وجه نتنياهو وحكومته بعد أن اتضح للجمهور- بما لا يدع مجالا للشك- أن هذه الحكومة التي فشلت أمنيا يوم السابع من تشرين الأول الماضي، لم تنجح (حتى الآن) في توفير الأمن (الشخصي والجماعي) لمواطنيها، ولذلك عليها أن تذهب إلى الجحيم، كما يقول لسان حال هؤلاء ولسان مقالهم.

ولا يستطيع المجتمع الإسرائيلي أن يعيش في ظل أوضاع اقتصادية تزداد تدهورا في كل يوم يمضي على هذه الحرب المجنونة. خاصة وأنه ليست لدى هذا المجتمع بارقة أمل في أن للأزمة الاقتصادية نهاية أو مخرج مهما كان متواضعا، بل إن كل البوادر تشير إلى تفاقم الأزمة بسبب الحرب، وأكثر من ذلك بسبب آثارها التي ستظهر لاحقا.

خلاصة القول، إن نتنياهو وحاشيته (الصغيرة والأصغر والكبيرة والأكبر) لم يقدم للمجتمع الإسرائيلي شيئا حقيقيا، لا على مستوى الحرب ولا على مستوى الأمن (الشخصي والجماعي) ولا على مستوى الاقتصاد، بل يبدو أن هذا المجتمع أوصله نتنياهو إلى حائط مرتفع لا يعرف كيف يتجاوزه، أو بتعبير أكثر دقة: لن يستطيع أن يتجاوزه.

(5)
هناك مسألة أخرى في غاية الأهمية، وربما هي الأكثر أهميّة، لا تخدم أجندة نتنياهو (الشخصية والسياسية)، وهي الموقف الدولي. فقد بدأت أصوات مختلفة تتعالى في العواصم الغربية، وفي مقدمتها واشنطن، تختلف عما كان عليه الموقف في بداية الأحداث. وإن تغيير نغمة الخطاب الغربي المتراجع عن الدعم التام والمفتوح للمؤسسة الإسرائيلية يثير قلقا كبيرا وحقيقيا في الأوساط السياسية الإسرائيلية، التي تبحث (على لسان قادة مجلس الحرب المتآكل) في كل مرة عن “خرافة” جديدة لإطالة أمد الدعم الغربي المسكون أصلا بكراهية المسلمين، وهي كراهية لها جذور تاريخية لا تخفى على أحد. ومن أحدث تلك الخرافات قصة حوادث الاغتصاب والتعذيب التي تتعرض لها الرهائن من النساء في غزة.

فبعد أن فشلت قصة عمليات الاغتصاب في مستوطنات غلاف غزة يوم السابع من تشرين الأول الماضي، ولم تنطلِ على الجمهور الغربي، جاءت هذه القصة الجديدة التي لم يقدم عليها نتنياهو وحاشيته دليلا سوى “قالوا لي”….

و”قالوا لي” هذه لم يسمعها أحد مباشرة من الذين أُطلق سراحهم من غزة، بل نُسبت إليهم. ونحن نعلم جيدا ما معنى “نُسبت إليهم” في الحالة الإسرائيلية!

(6)
منذ بداية الأحداث اختارت واشنطن- كالعادة- الموقف الخطأ والجانب الخطأ. فقد كانت طوال العقود الماضية، وخاصة منذ كارثة “أوسلو” أن تبدو في صورة الوسيط النزيه، غير المتحيّز لطرف على حساب طرف، لكن ممارساتها فضحت حقيقتها، وفشلت في تسويق سلعة “الوسيط النزيه”، فلا هي وسيط ولا نزيه. بل هي شريك للمؤسسة الإسرائيلية في كل سياساتها، سابقا وحاليا ولاحقا، ولكن على طريقتها هي…. وهذا يراه ويلمسه كل مراقب.

فهل ستتمكن واشنطن من الاستمرار في هذه السياسة دون أن تأتي عليها لحظة الندم، التي ستكون بطبيعة الحال متأخرة جدا؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى