أخبار رئيسيةأخبار عاجلةعرب ودولي

دبلوماسي إيطالي: تقليص إنتاج “أوبك+” مخاض لنظام عالمي جديد

قال الدبلوماسي الإيطالي السابق ماركو كارنيلوس، إن قرار منظمة “أوبك بلس” حول تقليص إنتاج النفط، والذي فجر خلافا كبيرا بين السعودية والولايات المتحدة؛ ينذر ببدء تشكيل نظام عالمي جديد، ينهي الهيمنة الأمريكية على الاقتصاد العالمي.

وأضاف كارنيلوس في مقال نشرته “ميدل إيست آي”، أن بلدان جنوب الكرة الأرضية سئمت من النظام الاقتصادي العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة والذي لا يكف عن إشهار الدولار سلاحاً في وجهها.

وشدد على أن هذه التحركات “عبارة عن رايات حمر يتم التلويح بها أمام الثور الأمريكي. ولا شك في أن الولايات المتحدة فقدت السيطرة على حلفائها التقليديين في الخليج. ولهذا كان التقدير في واشنطن أن هذه التحركات الأخيرة (قرار أوبك بلس) تعد بمثابة غدر كبير من قبل الحلفاء الخليجيين الذين لا تزال القوات الأمريكية هي الضامن لأمنها”.

ورأى أن تقليص إنتاج النفط يمكن اعتباره قراراً مبرراً، وليس فقط إجراءً مدفوعاً بحسبة من المصالح القومية الضيقة. وذلك أن التباطؤ الاقتصادي العالمي من شأنه أن يخفض الطلب على النفط، وبذلك يزيد من عدم استقرار الأسعار، الأمر الذي يبدو معه تخفيض الإنتاج إجراء منطقياً.

وفي ما يأتي نص مقال ماركو كارنيلوس:

هذا شخص غير أمريكي يدلي بصوته في الانتخابات النصفية الأمريكية مستبقاً الموعد المقرر لانطلاقها في الثامن من نوفمبر، إنه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.

هذا هو الاستنتاج الذي يغري المرء بالخلوص إليه بناء على قرار مجموعة أوبك بلس تخفيض إنتاج النفط بما يقرب من مليوني برميل في اليوم، الأمر الذي أطلق العنان لارتفاع في الأسعار. وكانت إدارة بايدن، حرصاً منها على دفع الأسعار نحو الأسفل وحرمان روسيا من إيرادات إضافية تستفيد منها في دفع تكاليف غزوها لأوكرانيا، قد رجت المملكة العربية السعودية تأجيل خفض الإنتاج، ولكن بلا طائل. نجم عن القرار تفجير أكبر أزمة في العلاقات الأمريكية السعودية منذ أن أبرمت واشنطن صفقة النووي مع إيران في عام 2015.

يبدو أن الرياض عازمة على انتهاج سبيل آخر، حيث تنوي الانضمام إلى بريكس (الكتلة العالمية المشكلة من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا)، بينما تعمل على زيادة التعاون مع الصين، بما في ذلك من خلال النظر في اتخاذ خطوة غير مسبوقة تتمثل في بيع النفط للصين بالعملة الصينية (اليوان) بديلاً عن الدولار. كما أن الإمارات العربية المتحدة تقوم بتحركات هي الأخرى، ومنها الزيارة التي قام بها مؤخراً ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد إلى موسكو، وتصريح وزير الطاقة لديه بأنه لا يمكن الاستغناء عن روسيا في سوق النفط.

كل هذه التحركات إنما هي عبارة عن رايات حمر يتم التلويح بها أمام الثور الأمريكي. ولا شك في أن الولايات المتحدة فقدت السيطرة على حلفائها التقليديين في الخليج. ولهذا كان التقدير في واشنطن أن هذه التحركات الأخيرة تعد بمثابة غدر كبير من قبل الحلفاء الخليجيين الذين لا تزال القوات الأمريكية هي الضامن لأمنها – فكأنما وجهت دول الخليج للولايات المتحدة طعنة في الظهر.

إلا أنه فيما عدا المشهد السياسي، يمكن اعتبار تقليص إنتاج النفط قراراً مبرراً، وليس فقط إجراءً مدفوعاً بحسبة من المصالح القومية الضيقة. وذلك أن التباطؤ الاقتصادي العالمي من شأنه أن يخفض الطلب على النفط وبذلك يزيد من عدم استقرار الأسعار، الأمر الذي يبدو معه تخفيض الإنتاج إجراء منطقياً.

كما أن القرار منسجم مع معاهدة غير مكتوبة أبرمت بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية في عام 1945، ويقضي بأن تتعهد الولايات المتحدة بحماية المملكة بينما تضمن هذه الأخيرة استمرار تدفق النفط وفي نفس الوقت حماية سعره من التأرجح. ولكن منذ إبرام الصفقة النووية في عام 2015 ثم عدم استعداد واشنطن للتحرك رداً على تعرض المرافق النفطية السعودية للعدوان في عام 2019، لم يعد يُنظر إلى الولايات المتحدة باعتبارها قوة يمكن أن يعول على حمايتها.

الخيار النووي

وبناء على ذلك، فقد راح الرئيس الأمريكي جو بايدن يعيد تقييم تعاون بلاده العسكري مع الرياض، بينما ينظر الكونغرس في أمر وقف مبيعات الأسلحة إليها، وثمة حديث حول ما يعتبر في عالم النفط “الخيار النووي”: ما يسمى مشروع قانون نوبيك (لا لأوبك)، والذي يسمح بالاستيلاء على أموال الحكومات الأعضاء في مجموعة أوبك. يعتقد بأن المملكة العربية السعودية وحدها تملك ما قيمته تريليون دولار من الاستثمارات داخل الولايات المتحدة.

إلا أن رد الفعل الحاد لمنظومة الحكم في واشنطن يكشف عن أنها تجد صعوبة بالغة في التكيف مع النظام العالمي الجديد.

وكانت ثورة النفط الصخري قد جعلت من الولايات المتحدة أكبر منتج للنفط في العالم. وبذلك تراجع اعتمادها على نفط الخليج، رغم أن مصلحتها في تجنب تأرجح أسعاره لم تتراجع. والواقع اليوم هو أن إنتاج النفط ومستوى أسعاره يتم التحكم بهما من قبل روسيا والمملكة العربية السعودية، وكلاهما يسعيان لخدمة مصالحهما من خلال صيغة أوبك بلس، وهي عبارة عن مجموعة منتجين مكبرة تشتمل على ما يزيد على العشرين بلداً. ومن هنا فإن أي محاولة للتنمر على أوبك بلس لن تكون سهلة، بل ولا ينصح بها.

نجم عن الحرب في أوكرانيا وعن الحرب الاقتصادية العالمية التي تشن على روسيا تخلق ديناميكيات جديدة وإحياء ديناميكيات قديمة. ولذا فإنه لا ينبغي أن تستغرب مجموعة السبعة الكبار أن تفضي المحاولات المبذولة لفرض سقف على أسعار النفط والغاز إلى تشكل انطباع لدى مجموعة أوبك بلس بأن المقصود هو التمهيد لإطلاق تكتل يجمع الأقطار المستهلكة الطاقة. والمفارقة الحقيقية هنا هي أنه في حقبة تتسم بالتحول نحو الاقتصاد الأخضر، تسعى جميع القوى الكبرى بكل ما أوتيت من قدرات للهيمنة على سوق الوقود الحفري.

وتمثل الأزمة بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية نموذجاً تقليدياً لما كان ينبغي على الولايات المتحدة عدم الإقدام عليه فيما لو أرادت تجنب إسخاط بقية دول العالم. ينبغي على الولايات المتحدة وحلفائها استيعاب التحول الحاصل ومفاده أن المشاكل الأمريكية والأوروبية لم يعد يُنظر إليها باعتبارها مشاكل بقية العالم.

ولربما كان من المفيد العودة إلى بعض السياقات التاريخية عساها تساعد على فهم التحول الحاصل حالياً. في عام 1971، أنهت الولايات المتحدة بقرار منفرد تغطية الدولار بالذهب، فكان ذلك مؤشراً على انتهاء منظومة بريتون وودز التي ظلت مفعلة لعقود من الزمن. منح وضع الدولار للولايات المتحدة ما كان الرئيس الفرنسي الأسبق شارلز ديغول قد أطلق عليه عبارة “الامتياز المسرف”. فقد غدا الدولار العملة الاحتياطية العالمية للتجارة والمال، وكذلك لتسعير المواد الخام والسلع.

تسببت العولمة في إحداث نمو مضطرد في المال والتجارة العالميين، بالتوازي مع زيادة الطلب العالمي على الدولار. ومنذ ذلك الحين سُمح للولايات المتحدة بأن تتكبد عجزاً وديوناً بالمجان تقريباً، بينما حظرت في نفس الوقت على أي بلد آخر إمكانية تحويل ما لديه من دولارات احتياطية إلى الذهب، تاركة إياهم بخيار وحيد ألا وهو الاشتراك في سندات الخزانة الأمريكية.

برامج التقشف

أخضع صندوق النقد الدولي بقية العالم لبرامج صارمة من الضبط المالي والتقشف بهدف إبقاء الدين تحت السيطرة، وذلك بموجب سيئة الصيت “عقيدة إجماع واشنطن”. كان ذلك هو الركن المالي الذي قام عليه النظام العالمي المكون من قواعد وأحكام تقررها الولايات المتحدة – وأقل ما يمكن أن يوصف به هذا النظام هو أنه غير منصف.

سئم جنوب المعمورة، والذي تقوده كتلة بريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون، هذا الترتيب المالي، والذي عادة ما يستخدم الدولار فيه سلاحاً. فراحوا يتحللون تدريجياً من الدولار وينأون بأنفسهم عن غرف المقاصة في كل من نيويورك ولندن. صحيح أن هذه العملية لا تزال في مراحلها الأولى، ولكنها بالتأكيد ماضية قدماً.

بوصفها منتجاً رائداً للغاز الطبيعي المسال، تفرض الولايات المتحدة أسعاراً فلكية على الغاز الذي تبيعه لحلفائها الأوروبيين. فما الذي سيجعل مجموعة أوبك بلس تعبأ بتظلمات وشكاوى المستهلكين الأمريكيين عند كل محطة تزود بالوقود بينما لا تلقي الولايات المتحدة بالاً ولا تعبأ بتاتاً بما يعانيه حلفاؤها؟

إن سياسة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي التي تنتهج رفع أسعار الفائدة لخفض التضخم هي التي تدفع بقيمة الدولار نحو الأعلى. وهذا يسبب مشاكل لكل الاقتصاديات في العالم بسبب الزيادة في تكاليف الواردات. وتارة أخرى، لماذا ينبغي على مجموعة أوبك بلس، وكذلك جنوب المعمورة، التجاوب مع مطالب الولايات المتحدة حول خفض إنتاج النفط أو حول فرض عقوبات على روسيا؟

عندما يصدر الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل تصريحاً بائساً يصف فيه أوروبا بالحديقة وبقية العالم بالغابة، فما الذي يضطر الغابة لأن تلقي بالاً للهموم والمخاوف الأوروبية والأمريكية، سواء بشأن الصراع في أوكرانيا أو بشأن أي أمر آخر؟ لماذا يتوجب على الغابة أن تبدي حساسية تجاه المطالب الغربية بمعاقبة روسيا لأنها استولت على أراضي أوكرانية بالقوة بينما يتم إقرار ممارسات شبيهة تصدر عن بلدان أخرى، بل ولا تقابل بأي عقوبات على الإطلاق؟

تفكير مزدوج

بالنسبة لأولئك الذين ما يزالون أسرى التفكير المزدوج، الذي ينظر إلى السياسات العالمية باعتبارها مجرد نحن في مقابل الآخرين، ليس القصد من مثل هذه الاعتبارات إنكار الطبائع الاستبدادية لزعماء كل من روسيا والسعودية والصين، ولا التقليل من مأساة أوكرانيا – وإنما تسليط الضوء على وجهة نظر عالمية أوسع، آخذة في التشكل.

عندما يرفض زعماء الولايات المتحدة وأوروبا وصناع القرار في الطرفين مثل هذه الاعتراضات من خلال التأكيد على أن أوكرانيا ينبغي أن تكون لها الأولوية لأنها تقع في الجزء “المتحضر” من أوروبا، فإنهم بذلك يزيدون من اتساع الهوة بين الغرب وجنوب المعمورة.

دعونا نفترض أن السعوديين يريدون بالفعل التأثير على الاقتصاد الأمريكي حتى يلحقوا ضرراً بالرئيس بايدن. فلماذا ينبغي أن يحظر عليهم مثل هذا الأمر بينما يصرح به لرئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق بنيامين نتنياهو؟

على كل حال، لم يزل المجتمع الدولي، وعلى مدى عقود، يقبل بمبدأ آخر غير مكتوب يقوم عليه النظام العالمي الذي تضع قواعده وأحكامه الولايات المتحدة: ويتمثل ذلك في الفكرة التي تقول إن بإمكان أي رئيس للولايات المتحدة أن يقرر من يحق له أن يحكم في أي مكان في هذا العالم الفسيح.

نشهد حالياً مخاض ولادة نظام عالمي جديد، نظام متعدد الأقطاب. تحاول الولايات المتحدة وحلفاؤها منع حدوث ذلك من خلال التمسك بالنموذج الحالي أحادي القطبية، والذي لم يعد قابلاً للاستمرار.

ولذلك فهم يعملون على توصيف الوضع الحالي زوراً بأنه نقطة انعطاف، حيث سيعتمد النظام العالمي القادم على نتائج المواجهة الملحمية الجارية حالياً بين الأنظمة الديمقراطية والأنظمة الاستبدادية. ولقد استلموا للتو من المطبعة كتيب الإرشادات الذي به يديرون العملية، ألا وهو الاستراتيجية الأمنية الوطنية الجديدة للولايات المتحدة، والتي أعلن عنها في وقت مبكر من هذا الشهر.

تبدو الديمقراطية بشكل متزايد نوعاً من التحريف العقائدي بهدف تبرير الأجندات الجيوسياسية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى