أخبار وتقاريرمقالاتومضات

أحد عشر كوكبًا…

المحامي خالد زبارقه

في عملنا كمحامين، كثيرةٌ هي المواقف العاطفية والمشاعرالجياشة التي نعيشها مع المعتقلين وأهاليهم وأولادهم وأزواجهم. وكثيرًا ما نرى الدموع في عيون المعتقلين؛ بل أحيانًا تخونهم أعينهم فتبدأ الدموع بالانهمار دون استئذان، في مشهدٍ يعبّر عن عمق الحب والدفء والعلاقة الاجتماعية الحقيقية التي تعتمل في صدورهم، ولا سيما عند رؤية أهاليهم، مع ما يرافق هذا المشهد من منع السجّانين للأهل من الاقتراب،أو السلام، أو حتى الحديث والهمس بينهم.

وترى المعتقلين يسترقون النظر والهمس وهم يسألون عن الأولادوالبنات وأخبارهم؛ فهذه تدرس، وتلك تقدّم لها خاطب، وأخرىأنهت تعليم رخصة السياقة، وأخرى رزقها الله بمولود، وتلك حامل، وأحد الأحفاد كَبُر وأخرج أسنانًا، وآخر بدأ بالكلام والنطق بكلمات معدودة، يردد: بابا بابا. وتُسرد قصصالعائلة وأخبارها بالتفصيل للمعتقل من خلف الجدران، لتصلإلى مسامعه وقلبه، فيتأثر ويحاول قدر استطاعته كبت دموعه؛ دموعٌ يختلط فيها الحزن بالفرح، والشوق بالحب، في قالبٍ واحد يعبّر عن مشاعر الإنسان الطبيعية كما خلقها الله سبحانه وتعالى.

هذا المشهد أشهده في كل جلسة محكمة، وكأن التقاء العيون يعبّر بصمتٍ عن الحب الحقيقي والشوق الإنساني في طبيعته،بعيدًا عن المجاملات المصطنعة.

أمّا قصة الأحد عشر كوكبًا فهي قصة رافقتني على مدارعامين، في ملفٍ قلّ نظيره، اختلطت فيه كثيرٌ من المعانيوالمشاعر، خلال نحو عشرين جلسة، في المحكمة المركزية في بئر السبع، في ملف الشيخ أسامة العقبي.

ولمن لا يعرف، فإن الله سبحانه وتعالى رزق الشيخ أسامةالعقبي أحد عشر بنتًا، كنّ يشاركن في كل هذه الجلسات، وينتظرن الواحدة تلو الأخرى بلهفةٍ كبيرة وشوقٍ منقطع النظير. كنّ يسترقن السمع لكل خبر يصدر عن الأسرى والمعتقلين، وعنأوضاعهم وظروف اعتقالهم ومعاناتهم، ويتابعن باهتمامٍ بالغ كل صغيرة وكبيرة تتعلق بوالدهن المعتقل، الذي ملأ عليهن عالمهن بكل تفاصيل الحياة، حتى بات هذا الملف يُعرف فيأروقة المحكمة المركزية في بئر السبع بملف الأحد عشر بنتًا.

وفي كل جلسة، ترى قاعة المحكمة ممتلئة بهن، وعلى رأسهنتقف أمهن (أم يحيى)، يستمعن لكل كلمة تصدر عن طاقمالدفاع، أو النيابة، أو المحكمة. وتشعر وكأن القاعة قد ضجّت،بصمت، بالمشاعر، من كثرة الدموع ورسائل الحب والشوق التيتعبر عبر الأثير في كلا الاتجاهين.

ليس من السهل أن يترك المعتقل أو السجين خلفه أحد عشر بنتًاوهنّ بأمسّ الحاجة إلى أبٍ يرعى، ويتابع، ويهتم، ويحلّالمشكلات، ويشكّل السند الذي يحتجن إليه في حياتهن اليومية. كل ذلك صحيح ضمن فهمنا القاصر للحياة. ولكن، على الرغم من كل ذلك، فقد رأيت في هذه الكوكبة المناصر الصادق لقضيةالشيخ أسامة، إذ تحوّلن إلى جيشه الذي ينافح عنه، ويمدّهبالقوة والمنعة والمعنويات التي يحتاجها هو، ويحتجن إليها هنّأيضًا، لمواجهة صعوبات وتعقيدات الحياة بكل تفاصيلها.

أمّا هو، فقد كان يتابع كل تفصيلة من تفاصيل حياة هذهالكوكبة، سواء في حياتهن اليومية، أو دراستهن المدرسية والجامعية، أو حياتهن العملية والاجتماعية، أو مع أزواجهن. وكان يوجّههن دائمًا نحو التألق والتميّز والتفوّق، ويتوجّه إلىالله بالدعاء والتضرّع لهن، سائلًا التوفيق والحياة الكريمة. وعندما كنت أزوره، كان يبكي شوقًا، وأحيانًا خوفًا عليهن، وينظر إليّ معتذرًا لأنه يبكي أمامي، ويردد بصوتٍ متحشرج:

هذول بناتي، أخوي يا خالد، وأخوهن يحيى صغير،

فهو أصغرهن، رزقه الله به بعدهن.

فهنيئًا لك يا شيخ أسامة بهذه الكوكبة التي حباك الله بها،وهنيئًا لكنّ أيتها الأحد عشر كوكبًا بهذا الأب الذي يحمل في قلبه نبضًا إنسانيًا صادقًا، لم تلوّثه تفاهات المرحلة التي نعيشها.

لا أعلم لماذا كتبت هذه المقالة، ولكن ربما لأنني رأيت نموذجنجاح لعائلة تحدّت كل ظروف الحياة الصعبة، ونجحت رغم كلشيء، وجسّدت حالة إنسانية تذكّرنا بأن خلف القضبان إنسانًا له عائلة، وله مشاعر، يحبّ ويشتاق ويحزن ويعاني، ويسعىإلى حياةٍ كريمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى