وتبقى يافا في الصدارة…
ساهر غزاوي
مدينة يافا، عروس البحر، الجميلة باسمها الكنعاني، وبموقعها الاستراتيجي، ومنظرها الخلّاب، وبأدوارها التاريخية والحضارية والسياسية والاقتصادية عبر أزمنة الماضي والحاضر، تعود لتتصدر المشهد بوصفها خطًا أماميًا في معركة الحفاظ على الهوية والانتماء والجذور، وإحدى الساحات الأكثر تعبيرًا عن مركزية الصراع الوجودي في الداخل الفلسطيني. ويأتي ذلك في وقت تتعرض فيه قضايا الهوية والوجود لمحاولات منهجية لحرف البوصلة، عبر التقليل من شأنها وتهميشها لصالح خطاب مطلبي–خدماتي يُراد له أن يتحول إلى بديل عن الصراع الحقيقي، لا كرافد من روافده.
ما جرى في يافا خلال الأيام الأخيرة لا يمكن فهمه كحادثة فردية معزولة، ولا كشجار عابر أو انفلات طارئ. فالاعتداء العنصري الذي استهدف أسرة عربية، من بينها أطفال وامرأة حامل، باستخدام غاز الفلفل، يأتي في سياق عام يتسم بتصاعد التحريض والكراهية الممنهجة، بما يستهدف الوجود العربي الفلسطيني في المدن الساحلية المختلطة، وضمن سياسات تُنتج هذا العنف وتوفر له الغطاء، حيث يُترك العنف المنظم بلا مساءلة حقيقية.
ويقودنا هذا المشهد بالضرورة إلى أحداث نيسان 2021 التي شهدتها مدينة يافا، والتي سبقت “هبّة الكرامة” في أيار من العام نفسه. فبينما جرى تسليط الضوء، عند تناول “هبّة الكرامة”، على الشيخ جرّاح والقدس وممارسات الاحتلال والجمعيات الاستيطانية هناك، أُغفل في كثير من الأحيان ما جرى في يافا، رغم أنها تصدرت المشهد آنذاك على مدار نحو أسبوعين من التوتر المتصاعد، والاعتداءات المنظمة، وحملات الاعتقال الواسعة بحق الأهالي.
وقد شهدت المدينة مواجهات دامية امتدت لأيام، بين السكان العرب الأصليين من جهة، والمستوطنين اليهود المدعومين من الشرطة الإسرائيلية من جهة أخرى، في سياق تنفيذ مشروع استيطاني واسع يستهدف إخلاء مبان عربية وتهجير سكانها. وهو ما يجعل من يافا نموذجًا مكثفًا لتداخل العنف الاستيطاني مع أدوات الدولة، ولسياسات ترمي إلى إعادة تشكيل المكان والإنسان على أسس إقصائية.
وفي هذا السياق، يكشف المقال الذي نشره الباحثان ياعيل شمرياهو ودانييل مونترسكو في صحيفة هآرتس، في مطلع آذار 2021، أي قبل أحداث يافا بنحو شهر، عن الطبيعة الأيديولوجية الصريحة للمشروع الاستيطاني في المدينة. فوفقًا لما ينقله الباحثان عن إحدى الجمعيات الاستيطانية، فإن “النشاط يتركز حول الهوية اليهودية، وليس حول التعايش أو الحديث عن السلام”، بل يُقدم على أنه تصحيح لما يعتبره المستوطنون “طمسًا” للهوية اليهودية في يافا. ويذهب هذا الخطاب أبعد من ذلك حين يُعرّف ما يجري في المدينة بوصفه “نجاحًا” يُقاس بخروج العرب منها، وبـ “الضوء الذي يشعّ من أعين الناس” منذ بدء هذا المشروع، في تعبير فاضح عن رؤية ترى في إقصاء العرب الفلسطينيين إنجازًا بحد ذاته، وفي تهجيرهم شرطًا لإعادة تشكيل الفضاء المكاني والبشري بما يخدم مشروع التهويد، وبانسجام كامل مع سياسات الدولة وأجهزتها.
ومنذ احتلالها عام 1948، لا تزال يافا تقبع جراحها مفتوحة، ونكبتها مستمرة تحت عجلات التهويد والنفي والمحو والاستبدال. فقد مرت المدينة بمراحل متعاقبة من الهدم والبناء، والمصادرة والشراء، والتخطيط الموجه، وسياسات الإهمال المتعمد وعدم التطوير، وذلك بعد تهجير الغالبية العظمى من سكانها العرب الفلسطينيين.
وليس هذا المسار طارئًا في تاريخ يافا، بل يمتد إلى ما قبل النكبة. ففي ثورة يافا عام 1921، بلغت الأحداث ذروتها في يوم العمال، الأول من أيار، حين نظمت الأحزاب العمالية الصهيونية مظاهرات في تل أبيب، أعقبها هجوم، بحماية القوات البريطانية، على حي المنشية الفلسطيني في يافا، في سياق عنف استيطاني مبكر استهدف المدينة وأهلها. كما شهدت يافا، إلى جانب مدن فلسطينية أخرى، صدامات دامية خلال ثورة البراق عام 1929، في مواجهة قوات الاحتلال البريطاني والعصابات الصهيونية.
ولعل التعبير الأكثر فجاجة عن الرؤية الصهيونية تجاه يافا ورد على لسان دافيد بن غوريون عام 1936، حين قال: “سيأتي زمن، وخيرٌ به أن يأتي، تُهدم فيه يافا المدينة والميناء… إن ذهبت يافا إلى الجحيم، فلن أتأسف على ذلك”. وهي مقولة لا تُعبر عن انفعال عابر، بل تكشف تصورًا إحلاليًا يرى في المدينة العربية عائقًا ينبغي إزالته من أجل إنجاز المشروع الاستيطاني.
ولا يبتعد هذا المنطق كثيرًا عمّا عبر عنه لاحقًا إسحاق رابين في مطلع تسعينيات القرن الماضي، حين تمنى أن “تغرق غزة في البحر”، في تصريح يجسد الذهنية ذاتها التي تنظر إلى المكان الفلسطيني وسكانه بوصفهم عبئًا أمنيًا وسياسيًا ينبغي التخلص منه، لا شعبًا له حقّ في الأرض والحياة. وقد جاءت هذه المقولة في سياق تصاعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى، حين فشلت أدوات القمع في كسر إرادة الناس، فبرزت اللغة الإقصائية بوصفها التعبير الأكثر صراحة عن مأزق الاحتلال وعجزه.
وبعد عام واحد فقط من النكبة، جاء في كتيّب “مرشد يافا” الصادر عام 1949، والموجه للمهاجرين اليهود الجدد، توصيف كاشف يقول: “يمكن القول إن يافا أصبحت بالفعل مدينة إسرائيلية، لكنها ليست مدينة عبرية بعد”، في إشارة إلى مهمة أُنيطت بالمستوطنين تتمثل في “بعث الحياة في مدينة الأشباح”، أي استكمال عملية المحو والاستبدال.
وهكذا، بين الماضي والحاضر، تتجلى يافا لا كمدينة على هامش الصراع، بل كأحد عناوينه المركزية، وكمرآة تكشف جوهر المشروع الاستيطاني الإحلالي، الذي لا يزال يستهدف المكان والإنسان، والذاكرة والهوية، حتى يومنا هذا.
وفي هذا السياق، لا بد من توجيه التحية للهيئة الإسلامية في مدينة يافا، التي أدت أدوارًا مسؤولة واتخذت مواقف مشرفة، لا يمكن لأي كتابة عن يافا في حاضرها أن تتجاوزها أو تقفز عن دورها. ويأتي دور الهيئة المنتخبة حديثًا بوصفه امتدادًا طبيعيًا لقياداتها السابقة، حيث تحملت المسؤولية وبادرت إلى خطوات واضحة وجريئة، تمثلت في تنظيم مظاهرة جماهيرية وإعلان الإضراب العام، بما عكس دورًا قياديًا مسؤولًا في الدفاع عن المدينة وأهلها. وهو دور يتجاوز يافا ذاتها، ليؤكد مكانتها، ومكانة الفعل الجماعي المنظم، في معركة الحفاظ على الهوية والانتماء والجذور في الداخل الفلسطيني عمومًا.



