نورٌ لا يُطفأ
مارية محاجنة (المشهد)
﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾. آية تختصر تاريخًا طويلًا من محاولات طمس الحق وتغييب الهداية، وتكشف ببلاغة نافذة حقيقة الصراع بين النور والظلمة عبر العصور، رغم تغيّر الوجوه وتبدّل الأدوات.
لقد حاول أعداء الحق في كل عصر إطفاء نور الله بالكلمة: بالكذب والتشويه والدعاية وصناعة الروايات الزائفة. واليوم لا يختلف المشهد كثيرًا؛ فأفواه الأمس تحوّلت إلى شاشات ومنصّات وخطابات رقمية مدروسة، لكن جوهر المحاولة بقي واحدًا: حجب النور ومنع الكلمة الصادقة من بلوغ القلوب.
يقول سيد قطب في ظلال القرآن: وهذا النص القرآني يعبر عن حقيقة، ويرسم في الوقت ذاته صورة تدعو إلى الرثاء والاستهزاء! فهي حقيقة أنهم كانوا يقولون بأفواههم: (هذا سحر مبين). ويدسون ويكيدون محاولين القضاء على الدين الجديد. وهي صورة بائسة لهم وهم يحاولون إطفاء نور الله بنفخة من أفواههم وهم هم الضعاف المهازيل! (والله متم نوره ولو كره الكافرون). وصدق وعد الله. أتم نوره في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فأقام الجماعة الإسلامية، صورة حية واقعة من المنهج الإلهي المختار. صورة ذات معالم واضحة وحدود مرسومة، لا نظرية في بطون الكتب، ولكن حقيقة في عالم الواقع. وأتم نوره فأكمل للمسلمين دينهم، وأتمّ عليهم نعمته ورضي لهم الإسلام دينا يحبونه.
وفي زماننا تغيّرت ميادين الصراع وتقدّمت ساحات الوعي لتكون الجبهة الأولى.
فالكلمة — في مقال، برنامج، محاضرة، أو محتوى رقمي — قادرة اليوم على توجيه العقل الجمعي وصياغة الرأي العام وإعادة تشكيل القناعات بعمق لا يستهان به.
ولهذا تعتمد أنظمة الاستبداد ومراكز النفوذ على أدوات دقيقة تتمثل في: حملات إعلامية محكمة، صياغات لغوية مموّهة، خطاب نفسي يستغل الخوف أو اليأس، تضخيم أحداث أو دفنها، صناعة رموز زائفة، فرض تفسير أحادي للواقع. كل ذلك لصناعة “وعي بديل” يُلبس الحق ثوب الباطل ويشوّه الباطل ليبدو حقًا.
لكن الآية القرآنية تبقى صريحة: كل تلك المحاولات مجرد نفخات في وجه نور الله. وإذا كان أهل الباطل قد استثمروا في الكلمة وجيّشوها في كل اتجاه، فليس من الحكمة أن يقف أهل الحق موقف المتفرّج.
واجب المرحلة يفرض: أقلامًا صادقة، كتابًا واعين، متحدثين لهم رسوخ علمي، محتوى يعالج شبهات العصر، خطابًا يواكب تطوّر الوسائل الحديثة.
إن مواجهة الكلمة لا تكون بالصمت ولا بالحياد، بل بكلمة أقوى وأصدق وأقوم.
وكما قال محمد الغزالي: “إن أقلامنا هذه التي شبّت على الحق ستظلّ تقارع أقلامكم التي شابت على الباطل”. فالكلمة الحق اليوم ليست ترفًا، بل فرض كفاية؛ إذا قصّر أهلها تمدّد الفراغ، ووجد الباطل طريقه إلى العقول لا بقوة حجّته، بل بغياب من يردّ عليه. من يتأمل الآية يدرك أن محاولة إطفاء نور الله ليست جديدة، ولن تكون الأخيرة. لكن وعد الله ثابت: “والله متمّ نوره”، مهما ارتفع الضجيج وتكاثفت محاولات الحجب. ويبقى السؤال مطروحًا أمام أهل الحق جميعًا: هل نترك الساحة لأبواق الظلام تعبث بالعقول والأفكار والارادات والقيم… أم ينهض القلم الصادق ليقول بثبات: ها أنا ذا… نورٌ لا يُطفأ.



