أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

معركة الوعي (28)..الذيــــن قالــــوا “لا”! (7)

حامد اغبارية
مدخل
قليلون هم الذين قالوا “لا”! لكنّهم على قلّتهم فرضوا بمواقفهم الثابتة معادلةً جعلت الذين أرادوهم أن يقولوا “نعم” يُجيّشون لهم جيوشا مدججة بكل أنواع السلاح العسكري والاقتصادي والإعلامي والثقافي، سعيا إلى الشيطنة والتشويه والملاحقة والبطش والاجتثاث، فما ازداد الموقف إلا صلابة، وما ازداد المشهد إلا وضوحا، وما ازداد الذين رفضوا السير في الركب إلا عنفوانا، وما ازداد الذين راودوهم عن مواقفهم إلا فشلا، حتى أصبح العالم وقد انقسم إلى فُسطاطين لا ثالث لهما، اللهم إلا من “فُسَيْطِطِ” المنافقين الذين ربطوا مصائرهم بمن يظنون- مخطئين- أنه غالبٌ في كل الأحوال.
في هذه السلسلة التي قد تستغرق صفحات كثيرة، محاولةٌ لفتح البصائر على حقيقة الصراع الدائر بين الذين قالوا “لا”، وبين الذين يريدون فرض أجندتهم على أهل الأرض جميعا، أو بالأحرى فتح البصائر على حقيقة الحرب التي يشنها فسطاط الشيطان على الذين استقر في نفوسهم قول “لا” في كل الأحوال كذلك.
هذا ليس لغزا من الألغاز، ولا هي طلاسم يصعُب فهمُ كنهها. إنه حديثٌ عن أهل الحق القابضين على الجمر في زمن السنين الخداعة التي يُصدّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. إنه حديثٌ عن الذين لم تفارقهم شجاعة المؤمنين ورباطة جأش المرابطين على الثغور، رغم ما يبدو للرائي من ضعف قوّتهم وقلة حيلتهم وهوانهم على الناس وتخلي الأقربين عنهم.
هو حديثٌ عن تركيا، وعن ماليزيا، وعن الإخوان المسلمين، وعن الحركة الإسلامية المحظورة إسرائيليا، وعن غزة قاهرة الغزاة، وعن العراق ما قبل 2003، وعن العلماء الربانيين الذين رفضوا السير في ركب السلطان، وعن صفحات أخرى مشرقة في بلاد المسلمين التي استهدفها فسطاط الشرّ طوال عقود.

إنها غزّة-قاهرة الغزاة ومخزن الصمود (1-3)
لو أن الذين ينفثون سمومهم اليوم على غزة ويوجهون إليها التُّهَم، وأقلُّهم يوجه إليها اللوم، فَرّغوا أنفسهم من الانشغال بتوافه الفيسبوك وقرأوا كتابا واحدا عن تاريخ غزة لفهموا ماذا تعني غزة، ولأدركوا كيف تمكنت هذه البقعة الجغرافية الصغيرة، التي تسجّل أعلى نسبة كثافة سكانية في العالم، من الصمود في وجه الحصار 13 سنة دون أن ترفع الراية البيضاء، ودون أن تتراجع قيد أنملة عن استراتيجيتها التاريخية التي كانت رسالتها عبر العصور: “نموت من الجوع ولا نستسلم”.
لا… لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تقول فيها غزة “لا” لأعداء الإنسانية. ولذلك فإن الذين لم يقرأوا تاريخ غزة غابت عنهم حقائق كثيرة، بينما تجد من الذين يعرفون شيئا عن تاريخها يتجاهلونه بسبب مواقفهم السياسية من الجهة المسيطرة اليوم في غزة. وأعني حركة “حماس”.
لقد كانت “لا” هي الموقف الذي سطرته غزة عبر تاريخها العريق. وربما لا تجد حقبة من الحقب التي تراخت فيها غزة ورضخت تحت الضغوط، إلا من حقب قليلة كانت الجهة المسيطرة أو الحاكمة أو التي تدير شؤونها من ذلك الصنف الذي تعايشونه اليوم في عواصم القهر العربية والإسلامية؛ ما بين ذليل تابع، أو قائد أرهقته الحروب، أو عميل باع دينه بدنياه، أو رخيص باع دينه بدنيا غيره.
تعتبر غزة (المدينة) من أقدم المدن عبر التاريخ. وقد سماها العرب والعثمانيون الأتراك “غزة” أو “غزة هاشم”. وسماها الكنعانيون “عزاتي”. وربما أخذ العبرانيون اسم “عزا” العبري من التسمية الكنعانية. وسماها اليونانيون “رازا”. وفي المعجم اليوناني أنها بدلت أسماءها أكثر من مرة. فكان اسمها تارة “إيوني” وتارة “مينووا” وتارة ثالثة “قسطنديا”. أم الصليبيون فأطلقوا عليها اسم “غادريس”. وأيا كانت التسمية عبر التاريخ فإن واقع غزة يحكي مشاهد وآثارا بطولية قلّما سجل التاريخ مثلها.
هذا المؤرخ الكنسي أوسابيوس الذي كان أحد بابوات الفاتيكان لبضعة أشهر ثم عُزل ونفي، يقول في كتابه الشهير “الاسم المقدس” إن الاسم غزة أُخذ من معاني العِزَّة والأنفة التي تميز بها سكانها، وذلك نظرا للحروب الكثيرة التي شهدتها وصمدت فيها صمودا أسطوريا. ومن المؤرخين من قال إن التسمية تعني “الخزينة” أو “الثروة” كما يقول المتروبوليت صفرونيوس في كتابه “قاموس العهد الجيد”، والذي ورد فيه أن الاسم “غزة” فارسي الأصل ويعني “الكنز الملكي”. بينما عزا مؤرخون آخرون هذا المعنى للأصل اليوناني. وقد جاء في كتاب “معجم البلدان” أن العرب كانت تقول “غزّ فلانٌ بفلان أي اختصه من بين أصحابه”. والمعنى أن الذين بنوْا غزة اختاروا بناءها في مكانها الحالي دون سائر المواقع على شاطئ البحر لعلمهم أنه موقع ذو شأن من الناحية الاستراتيجية. ولعل ما يسند هذا المعنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: {أَوَّلُ هَذَا الْأَمْرِ نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةٌ، ثُمَّ يَكُونُ خِلَافَةً وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَكُونُ إِمَارَةً وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَتَكادَمُونَ عَلَيْهِ تَكادُمَ الْحُمُرِ فَعَلَيْكُمْ بِالْجِهَادِ، وَإِنَّ أَفْضَلَ جهادِكُمُ الرِّبَاطُ، وَإِنَّ أَفْضَلَ رباطِكُمْ عَسْقَلَانُ} (رواه الطبراني في المعجم الكبير وصححه الألباني). وغزة كانت تاريخيا جزءا من عسقلان؛ فهُما كالواحد.
وتقول روايات التاريخ إن بني إسرائيل لما أمرهم الله تعالى، على لسان موسى عليه الصلاة والسلام، أن يدخلوا الأرض المقدسة، لم يتمكنوا من دخولها عبر مدخل غزة (الأقرب) إلى سيناء أرض التيه بعد الخروج من مصر، لأن “فيها قوما جبارين”، بل دخلوها مع فتى موسى عليه السلام يهوشع بن نون بعد زمن غير قصير من وفاة موسى عليه السلام، وكان دخولهم عن طريق موآب وآدوم بعد أن استعصت غزة عليهم. وعلى الرغم من أن بن نون عليه السلام أقطع غزة لاحقا لسبط يهودا، إلا أنهم لم يتمكنوا من السيطرة عليها، وظلت عصيّة عليهم بعيدة عن سيطرتهم حتى انتهى عصرهم ورحلوا.
ولقد صمدت غزة في حروب كثيرة أمام الآشوريين، وأمام فراعنة مصر، فكانت تارة تقع في يد هؤلاء وتارة في يد أولئك، إلا أنها في كل مرة كانت تتمرد على كل حاكم جديدة يدخلها عنوة بعد حصار طويل أنهك الجيوش المحاصِرة أمام صمود أهل غزة وصبرهم. وكان هذا شأنها مع ملوك بابل. وعلى الرغم من أن الفرس احتلوا فلسطين سنة538 قبل الميلاد، إلا أن غزة استعصت عليهم، ولم يتمكنوا من احتلالها إلا بعد نحو 13 سنة من احتلال فلسطين، بعد مقاومة شديدة كلفت الفرس أثمانا باهظة. ورغم دخول الفرس إلى غزة إلا أن أهلها قاوموهم مقاومة شديدة لسنوات طويلة وأذاقوهم الأمرّين، ولكنهم بعد ذلك تحالفوا من الفرس كي يواجهوا معاً حملة الاسكندر المقدوني. وقاوم أهل غزة من العرب (مع الفرس) جيوش الاسكندر طوال شهرين حتى تمكن من دخولها سنة 332 ق.م. وكانت أسوار المدينة حصينة قوية، حتى أن قادة جيوش الاسكندر المقدوني اعترفوا أن مجانيقهم لم تؤثر في تلك الأسوار ولم تنجح في هدمها. ولعل من التنبيهات إلى أهمية موقع غزة الاستراتيجي من الناحية العسكرية أن الفرس كانوا قد جعلوها مقرا رئيسا لقيادتهم العسكرية، ومنها انطلقوا لغزو مصر بعد ذلك. ومن المدهش أن تقرأ أنه في العصور التي ثارت فيها بعض الشعوب ضد ظلم المحتلين مثل سوريا وقبرص في زمن الفرس، كانت تلك الشعوب تعمل حسابا لغزة، وحرصت طوال الوقت أن تبقى غزة على الحياد. وتقول الروايات التاريخية إن الاسكندر وجد جزءا ضعيفا في أسوار المدينة فتمكن من اقتحامها عبره بعد أن بنى مقابله برجا عاليا تمكن من خلاله ضرب عمق المدينة بالمنجنيق. وكان الغزيون مع الفرس قد تمكنوا من دحر جيوش الاسكندر في إحدى المواجهات، التي أصيب فيها الاسكندر نفسه بسهم من سهام الحامية. وانسحبت جيوش المقدوني تكتيكيا، إلا أن الغزيين ظنوا أنهم انسحبوا كليا فتراخت المقاومة، حيث تمكن بعدها الاسكندر من دخول المدينة من ذلك الجزء الضعيف من السور. وقد أعمل المقدوني سيفه بالحامية فقتلهم جميعا، بل إنه قتل من أهلها أعدادا كبيرة وسبى النساء والأطفال وباعهم في سوق العبيد، انتقاما لإصابته تلك.
ورغم احتلالها ذاق جيش الاسكندر الأمرين من أهل غزة، حتى سجل التاريخ أن أحد قادة جيش ابنه بطليموس ويدعى “سيلوقس” بدأ يدوِّن تاريخ انتصاراته من التاريخ الذي هَزم فيه جيش خصمه ديمتريوس (312 ق.م.)، وهو ما يعرف بالتأريخ السلوقي. ثم عاد ديمتريوس وأخذها من بطليموس، وتواصلت المواجهات بين البطالسة (من جانب مصر) وبين السلوقيين (من جانب سوريا) مدة طويلة حتى أصبحت غزة (مع سائر بلاد فلسطين) مدينة ذات نوع من الاستقلال التابع لحكم مصر. ولم ينته الصراع بين ورثة الاسكندر الأكبر. فقد عاود أنتيوخوس الثالث مهاجمة غزة (219 ق.م.) وأخذها من البطالسة، وجعلها مقرا لتحركاته الحربية بسبب منعتها وموقعها الاستراتيجي، ثم استعادها البطالسة عام 217 ق.م. وفي 201 ق.م. عاود أنتيوخوس الثالث الكرة. وبعد أن اجتاح فلسطين دون مقاومة تذكر، واجهته غزة بمقاومة شرسة، ولم يتمكن من دخولها إلا بعد حصار طويل.
وهذا كان شأن غزة في مقاومتها للغزاة في عصر الأنباط ثم في عصر التدمُريين وصولا إلى العصر الروماني. (يتبع)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى