أخبار رئيسيةأخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

معركة الوعي (26)..الذيــــن قالــــوا “لا”! (5)

حامد اغبارية
مدخل
قليلون هم الذين قالوا “لا”! لكنّهم على قلّتهم فرضوا بمواقفهم الثابتة معادلةً جعلت الذين أرادوهم أن يقولوا “نعم” يُجيّشون لهم جيوشا مدججة بكل أنواع السلاح العسكري والاقتصادي والإعلامي والثقافي، سعيا إلى الشيطنة والتشويه والملاحقة والبطش والاجتثاث، فما ازداد الموقف إلا صلابة، وما ازداد المشهد إلا وضوحا، وما ازداد الذين رفضوا السير في الركب إلا عنفوانا، وما ازداد الذين راودوهم عن مواقفهم إلا فشلا، حتى أصبح العالم وقد انقسم إلى فُسطاطين لا ثالث لهما، اللهم إلا من “فُسَيْطِطِ” المنافقين الذين ربطوا مصائرهم بمن يظنون- مخطئين- أنه غالبٌ في كل الأحوال.
في هذه السلسلة التي قد تستغرق صفحات كثيرة، محاولةٌ لفتح البصائر على حقيقة الصراع الدائر بين الذين قالوا “لا”، وبين الذين يريدون فرض أجندتهم على أهل الأرض جميعا، أو بالأحرى فتح البصائر على حقيقة الحرب التي يشنها فسطاط الشيطان على الذين استقر في نفوسهم قول “لا” في كل الأحوال كذلك.
هذا ليس لغزا من الألغاز، ولا هي طلاسم يصعُب فهمُ كنهها. إنه حديثٌ عن أهل الحق القابضين على الجمر في زمن السنين الخداعة التي يُصدّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. إنه حديثٌ عن الذين لم تفارقهم شجاعة المؤمنين ورباطة جأش المرابطين على الثغور، رغم ما يبدو للرائي من ضعف قوّتهم وقلة حيلتهم وهوانهم على الناس وتخلي الأقربين عنهم.
هو حديثٌ عن تركيا، وعن ماليزيا، وعن الإخوان المسلمين، وعن الحركة الإسلامية المحظورة إسرائيليا، وعن غزة قاهرة الغزاة، وعن العراق ما قبل 2003، وعن العلماء الربانيين الذين رفضوا السير في ركب السلطان، وعن صفحات أخرى مشرقة في بلاد المسلمين التي استهدفها فسطاط الشرّ طوال عقود.

ماليزيا- قصة الدينار الإسلامي ووحدة الأمة
في الوقت الذي تجد دولة مثل إندونيسيا، وهي أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان، تقول “نعم ” كبيرة، ودون أي تحفظ، للصهيونية والغرب، فإن ماليزيا، وهي دولة إسلامية أيضا، اختارت أن تقول “لا”، فأصبحت في الفسطاط الذي يسعى إلى الانعتاق، ومن ثمّ أصبحت هي الأخرى هدفا يسعى فسطاط الشر إلى تدميره.
في عام 1997 بادر رئيس وزراء ماليزيا مهاتير محمد إلى فكرة سك دينار ذهبي إسلامي كبديل للدولار الأمريكي، في سبيل إنهاء هيمنة الدولار على أسواق العملة، وهي هيمنة اقتصادية تقود بالضرورة إلى هيمنة سياسية، كما هو حاصل الآن عمليا.
لم تكن هذه المبادرة مجرد طفرة، وإنما ناتجة عن رؤية شاملة من مهاتير محمد، ذلك الرجل المسلم الأصيل الذي أعاده الشعب الماليزي إلى رئاسة الحكومة مؤخرا رغم تجاوزه سن التسعين، لأنه وجد فيه طوق النجاة بعد سنوات من الفساد والتبعية للغرب وسط متغيرات دولية تبدو كالبحر المتلاطم الأمواج.
لقد اعتبر رئيس وزراء ماليزيا في ذلك الوقت أن الدينار الإسلامي ليس فقط مسألة محلية معزولة عن الاقتصاد العالمي، وإنما هو وسيلة لإنقاذ هذا الاقتصاد من الانهيار. وفعلا وجد العالم نفسه أواخر عام 2008 تحديدا أمام أزمة اقتصادية أدت إلى انهيار في أسعار الدولار واليورو وارتفاع في أسعار الذهب بشكل غير مسبوق. ولكن الأهم من ذلك أن المبادرة كانت مدخلا لإنشاء سوق إسلامية كمقدمة لتوحيد العالم الإسلامي، باعتبار أن العمل الاقتصادي الموحد يشكل الرافعة الأقوى لتوحيد الأمة. وهذا تحديدا ما أغضب أقطاب فسطاط الشر – الغرب والصهيونية والماسونية العالمية، وجعلها تتصدى بكل وسيلة قذرة لهذا المشروع حتى نجحت في إفشاله.
كانت فكرة الدينار الذهبي الإسلامي تقوم على التبادل التجاري من خلاله، وبذلك تستغني “دول الدينار الذهبي” عن احتياطات العملة الأجنبية وعلى رأسها الدولار، ليصبح الدينار هو الوسيلة الأفضل لتسهيل التجارة الدولية وزيادة حجمها دون المخاطرة بالتعرض لانهيارات اقتصادية مفاجئة. والأهم من ذلك أن وجود الدينار الذهبي الإسلامي كان سيزيد من حجم التبادل التجاري بين الدول الإسلامية، وسيساهم في زيادة النمو الاقتصادي في هذه الدول، ما يؤهلها للانعتاق النهائي من القيود الاقتصادية التي كبلتها بها العملة الأمريكية والعملة الأوروبية. كذلك فإن الوحدة النقدية الموحدة ستؤدي إلى تحول الفوائض المالية إلى دول العجز المالي، وتقوي من مركز العالم الإسلامي ككتلة تجارية واقتصادية واحدة أمام الكتل والتجمعات الاقتصادية الدولية. وهذا ما أرعب قوى الشر العالمية ودفعها إلى ممارسة الضغوط على ماليزيا بشتى الوسائل للتنازل عن الفكرة.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد. فقد طرح مهاتير محمد فكرة الدينار الذهبي في مؤتمر القمة الإسلامية في بلاده عام 2003، وعندها عملت واشنطن ومن يدورون في فلكها على الإطاحة بمهاتير محمد من رئاسة الحكومة. والمصيبة أن حظيرة آل سعود لعبت الدور الخفي والأساس للإطاحة بالرجل خدمة للأجندة الأمريكية- الصهيونية.
عاد مهاتير محمد التسعيني إلى رئاسة حكومة ماليزيا، مطيحا بحكومة الفساد برئاسة عبد الرزاق، وفي آذار 2019 عاد إلى طرح فكرة الدينار الذهبي الإسلامي في مؤتمر القمة الإسلامية المصغرة في كولالمبور، ثم أعلن أن بلاده مع تركيا وإيران وقطر (وباكستان لاحقا) تبحث مسألة التداول بالدينار الذهبي كوسيلة لتجنب العقوبات الأمريكية التي تهدد اقتصادات الدول التي تقول “لا”. فهل يتوقف الأمر عند هذا الحد؟
الآن نستطيع أن نفهم جيدا أن ماليزيا وتركيا وباكستان ومعها دول أخرى مثل قطر وإيران تسعى إلى إنهاء هيمنة النظام المالي العالمي الذي تقوده واشنطن، وبذلك تفتح الطريق إلى الخلاص من الهيمنة السياسية، وهذا غاية ما تريده الدول التي تقول “لا”، وهو ما لا تريده قوى الهيمنة التي لا تريد لأحد أن يخرج من دائرة السيطرة. لهذا نحن نشهد الآن معركة إرادات بين قوتين، إحداهما في طريقها إلى الصعود الأكيد، وهي القوى الإسلامية، والأخرى في طريقها إلى التراجع والأفول، وهي قوى فسطاط الشر العالمية.
لم يتوقف الأمر عند مسألة الدينار الذهبي الإسلامي. فمؤخرا عادة فكرة توحيد العالم الإسلامي إلى الواجهة بقوة. فقبل أن يبادر مهاتير محمد إلى الاستقالة من رئاسة الحكومة في أوج عطائه التسعيني، أعلن في تموز 2019 عن تحالف إسلامي ثلاثي يضم بلاده وتركيا وباكستان يهدف إلى الدفاع عن الإسلام وتوحيد الأمة كلها وتحقيق استقلالها واستعادة أمجادها التاريخية.
في مؤتمر صحافي في أنقرة جمعه مع الرئيس التركي أردوغان، في العام الماضي خاطبه قائلا: “سيدي الرئيس يجب علينا أن نفعل شيئا”. في تلك المناسبة قال مهاتير محمد أيضا: إن التعاون بين تركيا وماليزيا سيساعد في تخفيف اعتماد الأمة الإسلامية وإخضاعها من قبل الآخرين. ولم تكن هذه مجرد فكرة خطرت له أثناء المؤتمر، بل هي تعبير عن حمله لهمّ الأمة والسعي إلى حل مشاكلها التي تقف الهيمنة الغربية – الصهيونية في مقدمة مسبباتها.
لحقت باكستان تحت حكومة عمران خان بالركب وأعلنت انضمامها لمشروع توحيد الأمة الإسلامية، وكانت أولى الخطوات التي بادر إليها خان إطلاق قناة تلفزيونية عالمية لمكافحة الإسلاموفوبيا والدعوة إلى وحدة الأمة.
في ذلك المؤتمر الصحافي في تموز من العام الماضي أعلن أردوغان ومهاتير محمد أن تحالف الدول الثلاث (ماليزيا وتركيا وباكستان) يستهدف إطلاق نهضة إسلامية وتوحيد العالم الإسلامي، وأنه من شأن دول إسلامية أخرى أن تنظم لاحقا إلى هذه الوحدة. فهل يتحقق حلم خليفة المسلمين السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله تعالى، الذي لم يتمكن من تحقيقه في حياته؟
لقد طُرحت الفكرة، وستبقى حية رغم أن مهاتير محمد غادر المنصب بإرادته، وسيبقى وسيأتي من يعمل على تنميتها والدفع بها إلى الأمام. وأيا كان ما يقال من طرف المثبطين والمشككين، خاصة ما يصدر عن إعلام دول العار العربية مثل مصر والسعودية والإمارات وغيرها، فإن العجلة لن تتوقف. ربما تعترضها عقبات شديدة الصعوبة، وريما يعتريها تعطيل وتأخير، لكنها بذرة قوية قابلة للصمود أمام العواصف، لأنها أساسا ذات جذور عميقة في التاريخ، فهي ليس وليدة اللحظة.
لقد سعت واشنطن تحديدا طوال الوقت إلى أن يكون على رأس الحكم في ماليزيا حفنة من الفاسدين. ولم يكن الهدف فقط مواجهة خطط مهاتير محمد، بل أيضا ربط ماليزيا بعلاقات مشبوهة مع تل أبيب. ولهذا كنت تجد بين الحين والآخر نوعا من العلاقات الثقافية والتجارية بين الجانبين، عندما كان على رأس الحكومة الماليزية فاسدون، رغم عدم وجود علاقات دبلوماسية، ولكن سياسة مهاتير محمد إزاء هذه القضية على سبيل التحديد أزعجت واشنطن وتل أبيب ودول أوروبا إلى حد بعيد. فقد كان مهاتير محمد هو الذي قال عام 1981 إن على الدول العربية استعادة فلسطين بالقوة، وإن تل أبيب ليست عصية على الهزيمة. وفي 1984 دعمت ماليزيا قرار منظمة التعاون الإسلامي بقطع العلاقات الدبلوماسية مع أية دولة تنقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس. وها نحن اليوم “ننعم” بعلاقات أكثر متانة وحميمية بين دول أعضاء في “فاترينة” التعاون الإسلامي وبين واشنطن رغم أنها الدولة الأولى التي نقلت سفارتها إلى القدس في عهد الرئيس الحالي دونالد ترامب. فقد انقلبت الموازين وأصبحْتَ تجد من أنظمة العار العربية من يرتمي في أحضان الصهيونية جهارا نهارا، وفي ذات الوقت يسعى بكل ما أوتي من قذارة سياسية لتحطيم أمل الأمة في توحيد صفوفها.
كانت ماليزيا في عهدي مهاتير محمد شديدة اللهجة في خطابها مع تل أبيب، غير أن مواقف العرب وخاصة منظمة التحرير الفلسطينية التي وقعت اتفاقية أوسلوا عام 1993 أضعفت نوعا ما الموقف الماليزي من المشروع الصهيوني وكذلك من الهيمنة الأمريكية الغربية، فكانت هذه كالطعنة في الخاصرة من ذوي القربى. ومع ذلك فإن ماليزيا ما تزال جزءاً من مشروع الانعتاق، ولذلك ما تزال تحت مجهر واشنطن- تل أبيب. وهذا أيضا جزء من قدر الله، حتى يأتي أمر الله. فانتظروا إنا منتظرون. (يتبع).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى