أوراق في زمن الكورونا.. رؤية مستقبلية في ظل واقع متكدر (3)

صالح لطفي-باحث ومحلل سياسي
استهلال
وأنا أكتب هذه السلسة من المقالات المتعلقة بوضعيتنا كفلسطينيين في ظل انتشار وباء “كورونا” بين ظهرانينا في البلدات العربية، ومشاهداتنا لعديد الشباب المتفلت الرافض للانصياع لنداءات سلطاتنا المحلية التي لا تفتر للالتزام بالبيوت تحسبا من الاصابة بهذا الوباء، تصدرت وسائل الاعلام المحلية وأدوات التواصل الاجتماعي الاصوات خاصة تلكم الصادرة من رهط العلماء والوعاظ والدعاة والعديد من المقالات لعدد من الكُتاب والصحافيين وأصحاب القلم، محذرة من السوق السوداء والتورط في شباكها في ظل تعقيدات الحالات الاقتصادية والمعيشية لآلاف الأسر في الداخل الفلسطيني وفقدان المصدر المعيشي، دون الولوج في خلفيات وأسباب هذه الظاهرة التي دخلت مجتمعاتنا منذ عقد ونيف من الزمان وقد باتت الآلاف من الأسر رهينة لهذه السوق.
دائما اتهم المؤسسة الاسرائيلية بالمسؤولية عن واقعنا المُعَاش فهي التي سرقت الأرض ونهبت الثروات ممثلة بالأوقاف التي كانت ستشكل رافعة الى جانب الارض لمجتمعنا في الداخل الفلسطيني، ودفعتنا فرادى وزرافات للهثِّ الدائم وراء لقمة العيش وتحقيق حد “ما” من الحياة الكريمة كل حسبَّ تعريفه لمعنى “الحياة الكريمة” ضمن سياسات اعتمدت مبكرا في مسيرة هذه المؤسسة، سياسات الخوف السائل، وسياسات الحياة السائلة، ولكنْ لنا كمجتمع دور ليس بالقليل فيما آلت إليه عديد الأسر من سقوط في أتون السوق السوداء وما هو أدنى من ذلك والقاعدة عندنا “إنَّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” فمن يتوقع من حكومات المؤسسة الإسرائيلية مساعدة في التغيير الإيجابي لمجتمعاتنا فهو كمن يركن الى سراب بقيعة ولمّا يُدرِكْ بعد سياسات التغول والهيمنة والوصاية المتبعة من أطراف هذه المؤسسة منذ يومها الأول.
تفكيك وضعيتنا المجتمعية: العيش في زمن الخوف
نجحت المؤسسة الاسرائيلية منذ عهد الحكم العسكري في تكريس ثلاث حالات أساسية تخلخلت الى عقول ابناء الداخل الفلسطيني وفرضت عليهم بين الحين والحين عودة التفكير الى هذه الثلاث، ثلاثية الخوف من المؤسسة والمجتمع والمجهول، وراكم هذا الخوف واقعا تمثل بالخوف من المؤسسة بأجهزتها المختلفة من يوم النكبة الى هذه اللحظة، ونجم عن هذا الخوف مستويات ثلاثة من الخوف: خوف معيشي يتمثل في العمل وشؤون الحياة وتصاريفها المترتبة على الكسب والمعاش، وخوف مطلبي-كرامي يتمثل بالمسكن والمأوى والتعليم، وخوف وجودي يتمثل بسلب الوجود إما نفيا وتشريدا أو سجنا أو قتلا، والخوف من المجتمع الاسرائيلي المرتهن كلية إلى المؤسسة ويعتبرها إلهه الذي يستمد منه الوجود، وهذا المجتمع آخذ بالتطرف والتغول والممارسات العنصرية وهو ما ترتب عليه خوف من القادم، كيف سيكون، وكل ذلك والداخل الفلسطيني مجتمع كما ذكرت من قبل لا يملك من الأدوات المادية من قطمير، لكنَّ الأدهى والأمَر أنه لا يملك إرادة التغيير ولهذا الموضوع أسبابه التي لا مجال لذكرها هنا وسأفرد لهذا مقالة منفصلة ضمن هذه السلسة لأهميته في قراءاتنا لمستقبلنا المنشود في ظل عمل سياسي مهترئ متآكل وآيلِّ الى الخصوف.
إنَّ الخوف من المؤسسة برسم جبروتها وبطشها والخوف من المستقبل برسم فقدان الابعاد المعيشية والخوف من الواقع المُعاش برسم التحولات الدائمة الجارية ولو راهنا لصالح هذه المؤسسة، وهذه السلسة من المخاوف تجذرت وانبنت عليها منظومة من السياسات الداخلية كرد فعل كان من أهمها الانتصار للعمل السياسي ضمن سقف الكنيست والانتصار لرفض كل عمل يواجه المؤسسة ولو ضمن عمل سياسي مقرِّ قانونيا والانتصار لكل سياسة تحقق أي حد من المساواة مع الأغلبية اليهودية مهما كان متواضعا معتقدين أنّ سياسات المُراكمة ستفيد دعاة هذه التوجهات مستقبلا.
تاريخيا قابلت الحركة الإسلامية المحظورة إسرائيليا هذه السياسات سواء الصادرة من المؤسسة الإسرائيلية أو الصادرة من سياسيي الداخل الفلسطيني ونخبه الاكاديمية والحقوقية -تمثلت بعض طروحات تلكم النخب بما سمي بالتصورات المستقبلية التي صدرت عن أكثر من جهة وعنوان- بسياسات عقلانية تعتمد تحرير الإنسان في الداخل الفلسطيني من ارتهانه الدائم لهذا الخوف عبر ثلاثة سياسات متوازية: الثقة بالله وعمادها المخزون الرسالي الذي تتمتع به الحركة الاسلامية وعموم دعاة المشروع الإسلامي، الثقة بالمجتمع في الداخل الفلسطيني ومقدراته وقدراته وكوادره، الثقة بالمستقبل من خلال قراءاتها الموضوعية للواقع السياسي المحلي، الإقليمي والدولي ولعل جائحة كورونا تتمثل بعضا من هذا المستقبل. وعلى هذه الخلفية الفلسفية أسست منظوماتها السياسية والمجتمعية سواء كانت إغاثية أو دعوية أو رسالية وراهنت على الانسان فردا وأسرة ومجتمعا وهو ما نَمّى باطراد مستمر العمل الاهلي في السياق المجتمعي والإنساني وفقا لتصورها الاسلامي المنبثق من رؤيتها الاصولية لمفاهيم الضروريات والتحسينات.
الخروج من فك الخوف سبب مباشر لمواجهة التحديات التي نعيشها راهنا ومستقبلا، ولا يمكن أن تتم هذه العملية، عملية الخروج من فك الخوف الا عبر تحقيق صلة بالله تعالى تُوَظَفِّ لصالح مسارات تحسينية في حيواتنا اليومية والمستقبلية، فيوم يفقد الأنسان ثقته بخالقه وأنه مصدر الارزاق وأنَّ وظيفته العمل والبحث الدائم عن تحقيق كسب معاشي يدفع نحو تعزيز وجوده على هذه الارض كناظم لها وسيد عليها ضمن معادلات ثلاث: معادلة البقاء على هذه الأرض المؤسسة على نبذ الخوف والقائمة على أعمدة اليقين والثقة والعمل ومعادلة تحقيق الكسب المعيشي القائم على قواعد العلم والعمل والإنتاج ومعادلة السيادة على الحيز الذي يعيش عليه المؤسس على الفكرة والجماعة والاجتماع والنظام.
تلكم هي قواعد عبورنا من حالة التردي التي نعيش الى حالة الاستقرار النابذ للسيولة الحداثية في سياقها الاسرائيلي المؤسسة على ليبرالية متوحشة وعسكرة باطشة وشوفينيات سياسية شعبوية يقوم بها رئيس الوزراء نتنياهو وحزبه الحاكم ويمين معه منفلت، سواء كان هذا اليمين ديني مسياني او علماني ونتنياهو يمارس لعبته، لعبة التخويف والخوف ويقوم بتنفيذها بدقة تكاد تكون متناهية تصلح مستقبلا لدارسي فلسفات تحول الافكار والنظم في عصر ما بعد الحداثة، لتكون مخبرا للبحث وقراءة مستقبل هذه الدولة، ولسيولة الخوف الذي أبدعته المؤسسة الاسرائيلية في إطار تحقيقها للسيطرة شبه المطلقة علينا حيث تكون عبوديتنا لها عبودية مختارة، وهو ما أفرز حالة ارتداد عادت الى المجتمع غير العربي.
السوق السوداء والعبودية المختارة
التحذير من السوق السوداء مهم ولكنّ الأهم هو تفكيك وضعيتنا المجتمعية التي آل اليها وتحليل الاسباب والمسببات والخلفيات التي أدت إلى هذه الظاهرة من الإقبال على المديونيات المعروف سلفا نتائجها عند كل من يتقدم اليها، ورسم خرائط اجتماعية لتداعيات هذه الاوضاع بدءاّ من تفكيك الأسر وارتفاع معدلات الطلاق ومرورا بتوزيع أبناء وبنات تلكم الأسر على عائلات حاضنة من مختلف المشارب والديانات وما يحمل هذا العمل من تداعيات مستقبلية حاسمة على هؤلاء الأبناء وانتهاء بسقوط البعض ذكرانا واناثا في آتون المخابرات والجريمة المنظمة والسوق البيضاء (كناية عن تجارة الجسد) ولا بدَّ من العمل على رسم خارطة للخروج من هذه النكبة على غرار ما سُجِلَّ من ملاحظات قيمة في مقالي الاستاذين حامد اغبارية وعبد الإله معلواني المذكورين في متن هذه المقالة، والعمل الفوري على تحقيق الوعي الى جانب تحقيق الواقع المعيشي الحياتي لعشرات الآلاف من الاسر المحتاجة، فالعائلات الفلسطينية المحتاجة في الداخل الفلسطيني لن تشبع وتطمئن من التنظيرات وجميل القول، بل لا بدَّ من وسيلة مبدعة تؤسس لواقع جديد ينهي السوق السوداء من جهة ويؤسس لواقع متجدد يلتزم اخلاقيات الزهد أساسا، وحسنا فعل الزميل الاعلامي حامد اغبارية في مقالته الاخيرة المنشورة في المدينة تحت عنوان “معركة الوعي (16) .. أنقذوا مجتمعنا من وباء السوق السوداء، صندوق إقراض وطني الأن”، والزميل عبد الإله في مقالته “المجتمع العصامي” ما بين “هبة القدس والأقصى” وجائحة “الكورونا” في طروحاتهما للخروج من هذه النكبة.
آمنت ولا أزال أننا بالنسبة للمؤسسة الاسرائيلية ليس فقط اعداء مع وقف التنفيذ بل وفئران تجارب اجتماعية تمارس تجاربها علينا ضمن ظروف وأوضاع مخبرية متغايرة ومختلفة تتسم بالذكاء تارة وبالعلو والصلف تارة أخرى، ويقوم بالعديد من هذه المهمات عدد لا بأس به من الباحثين والأكاديميين العرب وذلك ضمن متابعات هذه المؤسسة لتطورنا الاجتماعي-النفسي-السياسي وتكون هذه الدراسات خادمة لهذه المؤسسة لتحقيق غاياتها في إدامة العبودية المستدامة والاختيارية ظانين أنهم يحسنون صنعا، وما الابحاث التي أجريت على الحركة الاسلامية بشقيها إلا دليل على ما إقول.
أقول هذا القول ونحن نُعايش أزمة هي بالقطع عابرة لا أدري حجم الأثمان التي ستجبيها، أزمة وباء كورونا، وما ممارسات المؤسسة الاسرائيلية معنا كما تتجلى في سياسات الوزارات المختلفة ورئيس الحكومة الا عينة عن نتائج تلكم الابحاث والقراءات التي تقول للحاكم الاسرائيلي إنَّ المجتمع العربي في الداخل الفلسطيني بين متطرف يجب ضربه كالحركة الاسلامية وتهديده كالتجمع، وآخر مداهن يجب علاجه ومجموعة بشرية كبيرة تريد العيش بسلام مع الأغلبية التي تقول إنها يهودية ومن ثم ديموقراطية وتنعكس مزايلات المؤسسة الاسرائيلية مع مجتمعنا على ضوء تلكم القراءات، ومن ضمنها الحالة المتعلقة بالجريمة المنظمة والعنف والسوق السوداء وحتى سبل معالجتهم لوباء الكورونا، وكل مبتدئ في قراءات الفلسفة المتعلقة بالرأسمالية وتقلباتها يعلم أنَّ الجريمة المنظمة والسوق السوداء والسوق البيضاء هي نتاجات طبيعية لمسارات الرأسمالية التي تتعاطى مع هوامش المجتمعات على أنها نفايات بشرية يمكن التخلص منها بطرق شتى، وأنَّ التفكك الاجتماعي وفي مقدمته الأسري وتعاظم قيم الفردنة والاستهلاك وتآكل قيم واخلاقيات وضوابط وعادات رصينة مجتمعية جزء أساس من هذه الرأسمالية خاصة النيوليبرالية والتي من أشد دعاتها رئيس الوزراء نتنياهو الساعية لتخفيف احمال الدولة من المسؤولية الاجتماعية والتي في مقدمتها الصحة والسلامة للمواطنين، فنحن إذ نعيش لحظات تفكك العلاقة بين الدولة كسلطة والمواطنين ضمن ما سمي يوما ما العقد الاجتماعي فها هو وباء كوفيد19 يكشف بالإحصائيات ثمن هذه السياسات، وفي حالتنا تتكشف كم هي الفوارق بين مجتمع الساحل، مجتمع النخبة “الخضيرة جديرا” والمجتمع العربي في الداخل الفلسطيني.
تتجلى تعاسة وبؤس الليبرالية الإسرائيلية في جدل العلاقة القائمة بين فيروس كوفيد19 وانتشاره في بلادنا فها هي الإحصائيات الاسرائيلية تؤكد ان الاصابات الاولى جاءتنا من الولايات المتحدة وواضح أن تردد نتنياهو في البدايات في وقف الطيران القادم من الولايات المتحدة بسبب تخوفه من ردات فعل الأمريكيين، كانت سببا أساس في اللحظات التي نعيش، والاوبئة دائما نتاج مشترك بين الانسان والطبيعة وعادة ما يكون فجور الانسان السبب المباشر لهذه الأوبئة وهذا الفجور له ألوان شتى: فجور بيئي، فجور أخلاقي، فجور تقاني وفيه ما فيه من الاعتداء على الانسان والطبيعة لصالح شرذمة متوحشة من البشر لا تتجاوز كونيا الـ1%، وقناعاتي الخاصة أنَّ هذا الوباء ما كان ليظهر الا ضمن ظروف معينة موضوعية شكلت الأرضية الخصبة لظهوره، وهذه الظروف الموضوعية كلها ذات صلة بالإنسان والطبيعة لكنّ لحظة انفجارها لحظة قدرية لا يستطيع أي كان ان يتجاوزها منعا وصرفا وحين يؤذن لهذا الوباء بالانصراف والارتفاع، يكون قد جبى من الضحايا ما جبى وفي الوقت ذاته ترك المستقبل على مصراعيه نذيرا وبشيرا للناس لعلهم يرجعون، ونحن في الداخل الفلسطيني بعدئذ أرهقتنا العبودية المختارة التي غرق فيها من غرق لسنا بدعة من الأمم وما سيجري على غيرنا بمن فيهم المجتمع المتَّغلب الذي يعيش معنا سيجري علينا وسيكون من بيننا ضحايا لهذا الوباء ولكنَّ السؤال الأهم كيفية الخروج منه بأخف الأضرار وكيفية التصرف بعد رحيله؟



