أخبار رئيسيةأخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةأخبار وتقاريرمحليات

زرع في كل بستان زهرة… مؤسسا ومديرا وأمينا.. الراحل مفضي جبارين من الرعيل الأول في مسيرة المشروع الإسلامي بأم الفحم

قيادات العمل الإسلامي تنعى الراحل وتتحدث عن مناقبه

طه اغبارية

كان “كاملا” كإنسان، في خلقه، وتواضعه، وعطائه، وذكائه، وقدراته الإدارية، وحماسه، وتذليله للصعاب، هكذا يختصر رفاق درب الحاج مفضي أحمد سليمان جبارين، حديثهم عن مناقب الراحل الذي غادرنا فجر الأحد الفائت، عن 76 سنة، بعد صراع طويل مع المرض.

حين توجهنا في موقع “موطني 48″، للسؤال عن المرحوم مفضي، أحد أبناء الرعيل الأول في الحركة الإسلامية والدعوة في الداخل الفلسطيني ومدينة أم الفحم تحديدا، وجدنا لدى كل محب ورفيق درب، الكثير مما يقوله عن هذه القامة الكبيرة، التي زرعت في كل بستان وركن فحماوي زهرة إسلامية، سقتها ورعتها واعطتها العناية التامة، إلى أن تألقت وأصبحت يانعة متفتحة، فكانت: لجنة الزكاة، وعيادة النور، ومعسكر العمل الإسلامي، ومكتبة النور، والرابطة الإسلامية، ومطبعة النور.

هو رجل من “الزمن الجميل”، حين كان البذل والعطاء والتطوع ثقافة يومية، جنّد الأموال من أجل الفقراء، ووقف مع العائلات المستورة، داعما لها في لقمة العيش، والدواء والطبيب والكتاب والدفتر، وغير ذلك من عطاءات ومشاريع “النور” التي أطلقها وعدد من إخوانه في مدينة أم الفحم، في نهاية السبعينات.

قبل أيام من وفاته أراد زيارة جنين فزارها، وأراد زيارة الأقصى فزاره وصلّى فيه، وجلب معه وسادة و”سجادة صلاة” من هناك، وأوصى أن توضع الوسادة تحت رأسه وأن يغطى بسجادة الصلاة، في التابوت، وقال لصهره الأستاذ رياض عبد جبارين، وقد رافقه إلى الأقصى: “أريد رائحة الأقصى أن ترافقني، حتى آخر لحظة، إلى قبري، ولكن أوصيك أن تعاد الوسادة وسجادة الصلاة (المصلى) إلى المسجد الأقصى، بعد دفني مباشرة”، وهذا ما حدث، كما أخبرنا الأستاذ رياض، حيث وصلت السجادة والوسادة إلى الأقصى عبر إحدى الحافلات التي زارت المسجد الأقصى، غداة جنازة الحاج مفضي.

النموذج والقدوة لجيل اليوم

رفيق طفولة الحاج مفضي، الشيخ علي غالب جبارين، وأحد أبناء الرعيل الأول في مسيرة العمل الإسلامي في البلاد، قال لـ “المدينة” إن معرفته بالمرحوم تعود إلى أيام الطفولة: “كنا جيران ترعرعنا في نفس الحارة، أهله كانوا يسكنون حيفا وأهلي سكنوا في اللجون، فلما انتقلنا إلى أم الفحم، كانت بيوتنا متلاصقة، لا يمكن تعداد مناقب المرحوم لكثرتها، كان متواضعا مسالما، معطاء، بدأ مشوارنا الدعوي، حين قمنا بالمبادرة لبناء مسجد الجبارين، ثم أسسنا مع عدد من الأخوة من كل الحارات لجنة الزكاة”.

يشهد الشيخ علي أن الحاج مفضي، كان يبذل من ماله ووقته من أجل دعوة الله، مخلصا متطوعا، يقول: “في بدايات العمل الإسلامي والدعوي، كان ينقص الداخل الفلسطيني العلماء، وكان للمرحوم سيارة، جابت بنا العديد من البلدات في الضفة الغربية وغزة تحديدا من أجل أن نأتي بالعلماء والمشايخ، وأذكر منهم: المرحوم الشيح حامد البيتاوي والمرحوم الشيخ محمد فؤاد أبو زيد وغيرهم الكثير من العلماء، كانوا يأتون إلى أم الفحم وننظم الدروس الدينية في الميدان وفي الأحياء المختلفة، الأمر الذي ساهم بهداية الكثير من الشباب إلى الصلاة، وبدأ الطابع الإسلامي يغلب على مدينة أم الفحم”.

وأضاف: “في البدايات أيضا، أقمنا عيادة النور الطبية، وكانت في قاعة مسجد الجبارين في مرحلتها الأولى، وكان للمرحوم دورا كبيرا في تأسيسها ثم مرحلة تطويرها بعد ذلك وانتقالها إلى مقرها تحت مسجد “أبو عبيدة”، كنا نسافر لشراء الدواء من حيفا وغيرها، وبدأت العيادة برسوم كشف رمزية جدا، مقارنة بالعيادة التي كانت على الميدان، ما جعل الناس تقبل بشكل كبير على العيادة، وكل ذلك كان بفضل الله وأموال أهل الخير”.

تمتع الراحل مفضي جبارين، بعقلية إدارية ممتازة، كما يقول الشيخ علي ويضيف: “تولى الإدارة المالية لعيادة النور الطبية في بداياتها تحت مسجد الجبارين، وكان حريصا بشكل كبير على كل قرش، لا يوجد ركن في العمل الإسلامي في أم الفحم، لم يساهم فيه المرحوم، وكان له ضلع كبير في كافة المشاريع، ابتداء من لجنة الزكاة، كما أشرت سابقا، إلى العيادة إلى كلية الدعوة إلى المكتبة الإسلامية، وإقامة مكتبات للكتب والقرطاسيات في الأربع حارات، كانت توفر الدعم للعائلات الفقيرة”.

“بعد محنة الشباب والاعتقالات التي جرت في مطلع الثمانين، كان للحاج مفضي الدور الكبير في مساندة عائلات المعتقلين من كافة النواحي، لقد كانت تلك مرحلة الثبات والصمود”، يؤكد الشيخ علي.

وتوجّه الشيخ علي غالب بالنصيحة إلى جيل الشباب قائلا: “عليكم ان تتبوا نهج الحاج مفضي ونهج الجيل الأول في العمل الدعوي، من حيث العطاء والإخلاص والثبات، انطلقنا من أجل الله تعالى، لم نطمع بمال ولا جاه أو زعامة، وكان لهذا الأثر الكبير جدا في تألق الدعوة والحركة الإسلامية ونهضتها في أم الفحم وكل الداخل الفلسطيني”.

حافظ على ثوابت العمل الإسلامي لم يتبدل أو يتغير لمنصب أو مال

في تسجيل شهادته، عن الراحل، تحدث القيادي الإسلامي، الدكتور سليمان أحمد، بحرارة وتأثر، عن المرحوم الحاج مفضي، مؤكدا أنه “كان يقول كلمة الحق ولا يخشى في الله لومة لائم، لا يحب المداهنة، من الذين ثبتوا على مبادئ العمل الاسلامي، لم يتبدل ولم يتغير من أجل منصب أو جاه أو مال، حافظ على ثوابت الدعوة في أصعب الظروف التي مرّت على العمل الإسلامي”.

وحول نشاطاته وبصماته في العمل الإسلامي، يتابع الدكتور سليمان:” يعتبر الحاج مفضي، رحمه الله، من مؤسسي العمل الاسلامي داخل الخط الاخضر، وخاصة في مدينة أم الفحم، وهو من مؤسسي لجنة الزكاة، ومن مؤسسي أول الجمعيات “الرابطة الإسلامية” في سنة 1985، من مؤسسي معسكرات العمل الإسلامي، والمعسكرات التربوية، والروضات الإسلامية، والمكتبة الإسلامية، وكلية الدعوة الإسلامية، واتحاد الجمعيات الاسلامية القطرية، والعمل الاغاثي، للمرحوم بصمات خالدة وبارزة في كل هذه المجالات”.

يؤكد الدكتور سليمان: “كان رجلا بأمة، ربما يعتقد البعض أن الحاج مفضي، كان حازما وشديدا، ولكن من خلال معرفتي الخاصة به وتعاملي معه، عرفت إنسانا يحمل عاطفة جيّاشة، وكم كان يكثر من صدقة السر من ماله، وكان الأمين دائما على صناديق الدعوة والمشاريع الإسلامية والأموال، دقيقا في حساباته، يتحرى الحلال والحرام في كل شيء، اسأل الله تعالى أن يرحمه ويحشره مع الأنبياء والشهداء والصّديقين وحسن اولئك رفيقا”.

الأمانة والدقة وتحري الحلال والحرام

“دخلنا أنا والحاج مفضي، رحمه الله، والأخوين أحمد محمود ومحمد الماجد، إلى محل الأخ يوسف أبو رعد للكتب والقرطاسيات، وكنا نريد اقتناء بضاعة للمكتبة الإسلامية، الوليدة في تلك الفترة، وبعد ان اشترينا المستلزمات، تناول الأخ يوسف 4 أقلام من نوع “باركر” وأعطى كل واحد فينا قلما، فما كان من المرحوم الأخ مفضي، إلا أن جمعها منّا وألقاها إلى جانب مقتنيات المكتبة الإسلامية، فسأله الأخ يوسف لماذا تصرف هكذا، فأجابه الحاج مفضي: لو دخل غيرنا إلى المحل، هل ستعطيه قلم باركر؟ فقال أبو رعد: لا. فتابع الحاج مفضي: إذا هذه الأقلام ليست من حقنا وإنما هي من حق المكتبة، لأنه بدون المكتبة وقدومنا من أجلها ما اعطيتنا هذه الأقلام”.

هذه القصة يرويها الحاج عبد اللطيف حمّاد، وقد عاشها مع المرحوم الحاج مفضي، أيام عملا معا في تطوير المكتبة الإسلامية (مكتبة النور)، وقال لـ “المدينة”: هذا الموقف الذي عشته مع الحاج مفضي، أثّر بي كثيرا وتعلمت منه الكثير، لا يمكن أن نفي الحاج مفضي حقه في الحديث عنه بأسطر معدودة، فقد كان علما شامخا، يتحرى الحلال والحرام بكل شيء، كان عقلا إداريا واقتصاديا من الدرجة الطراز الأول، كان مبادرا لكل فعل خير، اقترح مرة أن نقيم منتجعا سياحيا ترفيهيا في أم الفحم، على غرار منتجع الواحة، وقمنا من أجل ذلك بتأسيس صندوق مالي تولى الحاج مفضي الإشراف عليه، ولكن المشروع لم يخرج إلى النور لظروف كثيرة، فاقترح الحاج مفضي ان  نقيم من أموال الصندوق مطبعة، وهكذا انطلقت مطبعة النور الإسلامية”.

يضيف الحاج عبد اللطيف: “الصدق والأمانة والعقلية الإدارية والمبادرة والذكاء، كلها صفات اجتمعت في الحاج مفضي رحمه الله تعالى، زرته قبل وفاته بأسبوعين، وكان دائم الاستغفار والدعاء، صابرا على الأوجاع التي ألمت به”.

المشرف والمبادر لأول معسكر عمل إسلامي

مسؤول لجنة الزكاة في مدينة أم الفحم، السيد مصطفى غليون، تحدث عن العلاقة التي جمعته بالراحل مفضي جبارين وقال: “تعرفت على المرحوم، منذ دخولي إلى لجنة الزكاة سنة 1981، حيث كان عضوا مؤسسا في اللجنة، وكنت في بداية مشواري الدعوي، وإذا ما أردت الحديث عن فقيدنا، رحمه الله، فلن اوفيه حقه، ولكن لو أردت تلخيص حياته في بضعة أسطر، أقول: إنه صاحب الرأي الصلب والأول في كل عمل دعوي، هو مدرسة بكل معنى الكلمة، رأينا فيه الشموخ الدعوي والثبات على المواقف، وفي الحديث عن نشاطاته وأفكاره الخلّاقة دائما، يمكن التأكيد أنه أول من أدخل فكرة المنح التعليمية لطلاب الجامعات في أم الفحم وفي لجنة الزكاة، وكان المشرف على أول معسكر عمل إسلامي مطلع الثمانينات، كان عقلية اقتصادية فذّة، أمّن الأموال لإقامة محطة بث تلفزيوني محسوبة على الدعوة، وأمّن الأموال لتوفير نقليات للطلاب إلى الجامعات، وكان صاحب فكرة انشاء الاتحاد القطري للجان الزكاة سنة 1991، بهدف مساعدة البلدان التي لا يوجد فيها لجان زكاة، هذا نزر يسير من مسيرة هذا الرجل العظيم المعطاء، رحم الله أخي الحاج مفضي، وأسكنه فسيح جناته”.

وقال الأستاذ صالح لطفي عن الراحل: “الحاج أبو أحمد، رحمه الله تعالى، لبنة اساس من لبنات المشروع الإسلامي في مدينة ام الفحم، وعلى الصعيد القطري، ويكفي انه كان احد مؤسسي لجنة الزكاة في مدينتنا، وهو وإخوانه مأجورين لإحيائهم فريضة كانت غائبة، ولعملها الذي ﻻ تزال تقوم به، فمع كل دفقة عمل للحاج مفضي، له أجر فيها”.

وأضاف: “عرفت الحاج مفضي من  صحيفة “صوت الحق والحرية، ومركز الدراسات، وجولاتي معه في مختلف البلدان يوم كنا نوزع صحيفة صوت الحق، لقد كان الحاج مفضي حريصا على دعوته صارما في الحق ﻻ يخاف في الله لومة ﻻئم، نصيرا للحق، لا يجامل، صريح الى أبعد الحدود، لا يقبل الدنية في دينه أو دعوته، ولقد عرف بحرصه الشديد على المؤسسات والجمعيات والمشاريع التي تولى ادارتها او مسؤوليتها، ولم يكن يخف امتعاضه من اعمال رأى أنها ﻻ تصب في مصلحة تلكم المشاريع، وارتبط رحمه الله بعلاقة مميزة مع الموظفين العاملين في الاطر المسؤول عنها، يتفقدهم وكأنه الوالد يهتم بشؤونهم يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، كان الحاج رحمه الله معروف بين الموظفين والمسؤولين بصرامته الشديدة، لكن القليل يعرف عنه شدة عاطفته اتجاه اخوانه خاصة العاملين في الحقلين الدعوي والمؤسسي”.

ويروي الأستاذ صالح لطفي قصة له مع الراحل، يقول: ” في إحدى المرات طلبت منه سلفة لأخ من اخواننا العاملين في إطار معين، لظروف خاصة ألمت به، مبررا له خجل ذلك اﻷخ من سؤاله، ففاضت عيناه رحمه الله، وهو يقول لي: تعلم يا صالح أنني لو أملك هذا المال ما ترددت لحظة في رفع رواتب كافة الموظفين والعاملين ولكنها أمانة تنوء بحملها الجبال، وأنا على علم بمشكلته وان شاء الله سأحلها جذريا، وهذا الذي حدث، وأخاله رحمه الله قد فك أزمة ذلك الأخ من ماله الخاص”.

وختم قائلا: “عزائي أن هذه الثلة المباركة أمثال: الحاج أبو احمد، ومن قبله الحاج سليمان ابو شقرة، والحاج توفيق ابو محفوظ، والحاج محفوظ ابو محفوظ، أكرمها الله تعالى أن تكون زرعا أول في مسيرة دعوة ربانية لا تتوقف أبدا مهما أحاطت بها الخطوب وحيك حولها من مؤامرات فقد كانوا ومن معهم من ذلك الرهط الصالح الطاهر المخلص المبارك، إنهم زرع الله ولن يستطيع بشر مهما كانت قوته حصد زرع زرعه الله. اسأل الله في عليائه أن يتقبله في عليين ويحشره مع النبيين والمجاهدين والصالحين”.

واعتبر الشيخ نائل فواز، في حديث لـ “المدينة” أن الراحل الحاج مفضي، هو فقيد العمل الإسلامي في كل الداخل الفلسطيني، لما له من أفضال كبيرة على مجمل نشاطات ومشاريع وجمعيات العمل الإسلامي. وقال إنه عرفه مع بدايات نشاطه الدعوي، وتعلم منه الكثير، وكان له بمثابة القدوة الحسنة التي يتعلم منها الكبير والصغير.

ولفت الشيخ نائل إلى دور المرحوم الحاج مفضي، في تأسيس وإطلاق العديد من المبادرات في كافة مجالات الدعوة والعمل الإسلامي في أم الفحم، وتبني العديد من البلدان لهذه الإبداعات والمبادرات التي أسسها الشيخ مفضي.

الأب الحنون وواصل الرحم

رغم حزمه وصلابته في إدارة مشاريع العمل الإسلامي، كما يقول محبوه، إلا أن المرحوم الحاج مفضي، كان يملك عاطفة جياشة وقلبا حنونا، وصل أرحامه وقام بواجباته تجاه أسرته وعائلته.

“عندما عرف بنبأ استشهاد حفيده محمد (19 عاما)- تنسب إليه المؤسسة الإسرائيلية وللشهيدين: محمد أحمد جبارين (29 عاما)، ومحمد حامد جبارين (19 عاما) القيام بعملية الأقصى بتاريخ 14/7/2017- كان وقعه شديدا عليه، خاصة انه ارتبط بعلاقة قوية جدا مع الشهيد محمد، أبن أخي أحمد”.

يقول نجله علي لـ “المدينة”: “كان والدي أبا للجميع حتى لعماتي وأعمامي، نحن 5 أخوة و3 أخوات، ولا يمكن وصف حدود حبه لجميع ابنائه وبناته وأخواته واخويه، سليمان وحسني، كان حنونا لأبعد الحدود، صاحب النصيحة، السند والمرشد، كان هو كل شيء في حياتنا، وأشعرنا اننا شغله الوحيد، رغم كثرة انشغالاته ونشاطه الدعوي الواسع، نسأل الله تعالى أن يقدّرنا ان نستمر على نهجه في وصل الرحم وحب الناس والخير”.

وحول حياته العملية الخاصة، وفق ما قاله نجله علي، فقد بدأ الحاج مفضي حياته العملية في المطاعم بتل أبيب، وامتلك مع شركاء، لمطعمين، ثم بعد التزامه الديني والدعوي، ترك عمل المطاعم، وأقام فرنا للخبز والكعك في مدينة أم الفحم، مع صديقه المرحوم محمد سعيد جبارين، وبقي في مجال الأفران والمخابز، إلى حين تفرغه للنشاط الدعوي.

صحيفة “المدينة” تتقدم لعائلة فقيدنا الكبير بأحر التعازي، ونسأل الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته وأن يسكنه فسيح جناته.

…………………………………….

كلمة وفاء وعرفان في حقّ راحلنا الحاج مفضي أحمد جبارين؛ كما عرفت…

بقلم: محمد عبد ابو شقرة (أبو يوسف)

في فجر يوم الاثنين من هذا الاسبوع، نعى النعاة نبأ وفاة أخٍ عزيز عليّ وعلى الكثير الكثير من أهل بلدي، إنّه الحاج مفضي أحمد جبارين، والذي كان يعتبر واحدًا من ضمن باقة طيّبة من جيل طيّب، وهو ممّن قام على تأسيس دعوتنا الاسلامية في بلدنا الحبيب أُم الفحم.

شخصيًّا ما إن سمعت نبأ وفاته من خلال مكبرات الصوت المنتشرة من على مآذن بلدنا ومن خلال مواقع التواصل المختلفة، وإذ بخيوط الذكريات تجرّني سريعًا إلى الوراء، قرابة ما يزيد عن خمس وثلاثين عامًا، ولتذكرني بالجيل الاوّل جيل الفطرة، جيل التضحية وسمِّه إن شئت الجيل المؤسِّس لهذه الدعوة.

تذكّرت إخوانًا لي واستعرضتهم جميعًا فردًا فردًا، وبخاصةً الموتى منهم، ممّا أحدث لي في الصدر غصّة وفي القلب ندبة وحرقة، ووجدت القلب يعتصر حزنًا وألمًا وكمدًا على فراقهم. ترى كيف لا يكون كذلك، وأنا أتذكّر موقع كلّ واحد منهم، ولاسيّما الذين غيّبهم الموت عنّا؟!  ومن باب الوفاء لهم علينا ألّا ندع ونسمح لقاموس النسيان أن ينسينا فضل أهل الفضل بما قدّموا من جهد إلى بداية طريق الدعوة إلى أن توفّاهم الله عزّ وجلّ.

لقد كانوا حقًّا هم جنود الخفاء ورجاله، أذكر منهم على سبيل الذكر لا الحصر الشيخ الحاج أحمد محمد ملك “أبو عمّار”، والحاج مروان محمد صادق جبارين، الشيخ سليمان أبو شقرة، الحاج محفوظ محمد سليمان، وتوفيق أبو محفوظ، والحاج صبحي محمود جبارين، وغيرهم…

فليعذرني الاهل والاحباب إن كنت قد نسيت هذا الاخ أو ذاك؛ فما مردّ كلّ ذلك إلا لأنّ الذاكرة تخون صاحبها أحيانًا، فلنترحم على من ذكرنا ومن لم نذكر… أمّا أولئك الذين لا يزالون أحياءً بيننا فندعو لهم بطول العمر حتى نتعلّم من تجاربهم في حقل الدعوة.

عزيزي القارئ؛ أنا لا أجامل أحدًا، ولا أبالغ إن ذكرت أنّ نبأ وفاة أخي الحاج مفضي قد وقع عليّ وقوع الصاعقة، مع أنّي كنت قد توقعت وتهيأت لمثل هذا الخبر المؤلم، وبخاصةً واني عدت الفقيد قبل ساعات معدودة من وفاته، حيث كان يرقد في مشفى العفولة… جلست إلى جانبه وهو يئن في سريره وفي وضعه الحرج، وكان بصحبتي الاستاذين جواد صبيح والاستاذ نائل فواز.. أقول وبينما أنا جالس استرقت النظر ونظرت إلى الرجل المتألم في سريره، وقرأت ما شاء الله لي من كتاب الله ودعوت الله ان يخفف عنه ما هو فيه من آلام رأيت فيها سكرات الموت… خرجت من عنده بعد أن ودّعته بنظراتي .. إلا أنّني لم أجد كلمة أواسي فيها زوجه أُم أحمد وأبناءه أو بناته الذين كانوا يتحلّقون من حوله في سريره؛ ولا ابالغ إن قلت أيضًا بأنّي وجدت نفسي بحاجة لمن يواسيني، فمصابهم مصابي وإن لم نكن في الدرجة سواء.

تعرّفت على الحاج مفضي لمّا أُسندت إليّ مهمة رئاسة لجنة الزكاة، وكان ذلك في أواخر السبعينات… كان رحمه الله عضوًا في لجنة الزكاة وأمينًا للصندوق… من بداية الطريق توسّمت فيه خيرًا، ووجدت فيه شخصية رجلٍ قويّ في مصاف الرجال الذين عاشوا الرجولة قولًا ومعنى على مدار حياتهم… كان يبدي رأيه بشجاعة، لا يهاب ولا يتردّد ولا يتلعثم، حتى ولو كان رأيه مخالفًا لكل من يجلس حوله وفي أي محفل كان سواء في لجنة الزكاة أو في غيرها من اللجان التي كان يعمل فيها، وكثيرة هي…  كان يحاول بما أوتي من جهد وحجّة لإقناع الاخرين بوجهة نظره، إلا أنّ هذا ما كان ليمنعه عن التنازل عن رأيه إذا رأى أنّ الامر يستدعي ذلك…

ومن باب الامانة اقول: كان أمينًا، ونعم الامين كان لصندوق لجنة الزكاة. وأذكر مثالًا متكرّرًا عشته معه، فأحيانًا كنت آتيه لبيته لتسلّم مبلغ من المال لأسرة فقيرة، أو لمشروع ما؛ كنّا نتناقش حول كلّ شاقل أطلبه إلا أنّه إن لم يقتنع بفقر الاسرة كان يردّ عليّ قائلا: أنا أمين الصندوق فلا يجوز لي شرعًا أن اعطيك من ماله ما دمت غير مقتنع بصحة فقر الاسرة التي تطلب لها المال، إلا أنّني سآتيك من مالي الخاص. وفعلًا يدخل إلى غرفة أخرى من بيته ويرجع إليّ بالمبلغ المطلوب من ماله الخاص، وذلك حتى يبرّئ ذمّته؛ فلعلّ تلك الاسرة بحاجة فعلا إلى مثل هذا المال.

هذا موقف منه والمواقف المشابهة كثيرة، وكلّها تشهد على أمانته وفي نفس الوقت على جوده وأكثر.

لقد رأيت في الحاج مفضي وفي اخوانه الذين قضوا نحبهم، وممّن لا يزالون بيننا ونتمنى على الله لهم عمرًا مديدًا وعريضًا… أقول رأيت فيه رجلًا من الرجال الذين لا يُسأل عنهم كم عاشوا ومتى ماتوا، ولكن يُسأل عنهم كيف عاشوا وماذا قدّموا لدعوتهم! … إنّ أبا أحمد مفضي يمثل جيلا فريدًا من نوعه، كان الواحد منهم لا يسأل نفسه ما الذي قدّمته لي دعوتي، بل كان يسأل نفسه مساء كل يوم وفي خاتمته ماذا قدّمت لدعوتي! … كان يسأل نفسه في صبيحة اليوم التالي تُرى ماذا سأقدّم لدعوتي هذا اليوم؟!.

لقد قلت يوما وكتبت عن ذلك الجيل ما لا يعلمه جيل اليوم عن جنود الخفاء؛ هم الرجال العظام والذين عملوا بتواضع في كل مؤسّسات الدعوة وأحيانًا كثيرة على حساب أوقاتهم وأعمالهم وعائلاتهم، وأذكر أنّ راحلنا العزيز قال لي يومًا في بيته: صدّقني بأني لا أجد الوقت حتى اجلس مع أبنائي، وأُعلّمهم أمور دينهم، وأراجع معهم الدروس المدرسية، وأرجو منكم مساعدتنا في هذا الجانب. من هنا فإنّي أُكرّر ما ذكرته بأنّ ذلك الجيل لا يُسأل عن طول حياتهم بل عن عرضها؛ هم الذين إذا حضروا لم يُعرفوا، وإذا غابوا لم يُفتقدوا …

كنت محظوظًا أن أكون رئيسًا لهؤلاء، الذين رأيت في كلّ منهم رئيسًا لي وشريكًا لي في حمل أمانة الجوانب المالية والمشاريع الاقتصادية، والتي انبثقت عن لجنة الزكاة. كان المرحوم لا يتردّد من أن يطرق أبواب العلماء والمشايخ في جنين وقباطية ونابلس والقدس بصحبة الحاج علي غالب جبارين والحاج مفيد احمد جبارين، وذلك من أجل التحري والبحث عن الجواب الشافي في أيّ مسألة شرعيّة تتعلّق في أمور لجنة الزكاة بحثًا عن الحقيقة المطلوبة، ولاسيّما وأنّ الزكاة ركن من أركان الاسلام الخمسة.

لقد كان المرحوم عضوًا نشيطًا في الكثير من اللجان, مع أنّه كان مريضًا منذ عرفته، إلا أنّ مرضه لم يمنعه من العمل في العديد من اللجان، وأن يقوم بالمهام المسندة اليه, فبالإضافة لعمله في لجنة الزكاة فقد كان ممثلا لها في الكثير من اللجان التي تفرّعت عنها،  فقد كان ممثّلا لها في لجنة ادارة عيادة النور التي بادر لتأسيسها في أواخر سنة 1982 برفقة الدكتور سليمان أحمد رئيس الرابطة الاسلامية في حينه والشيخ علي غالب؛ كما أنّه كان عضوًا فعّالا في لجنة معسكر العمل الاسلامي وفي لجنة العمل الاسلامي، والتي كانت تقوم بمشاريع حيويّة على مدار العام في الروضات الاسلامية وفي المدارس والشوارع وغيرها,  كما أنّه كان يدير الامور المالية في المكتبة الاسلامية التي تطورت لتصبح فيما بعد جزءًا من شركة الايمان,  كما أنّه كان عضوًا في لجنة الزكاة القطرية وعضوا في اتحاد الجمعيات الاسلامية؛ ونتساءل اليوم كيف كان له أن يقوم بكلّ هذه المهام، والتي أنيطت به؛ فلعلّ تفسير ذلك إلى بركة الوقت التي كانت نصيب ذلك الجيل الطيّب!… كان… وكان… إلا أنّه كان لابدّ أن يستسلم لقضاء الله وقدره، ليرحل عنّا ولينتقل الى رحمته تعالى.

وأخيرًا-وليس آخرًا-فإنّني أهمس في آذان أُسرته فردًا فردًا لأقول لهم: إنّ أباكم قد ترك لكم ميراثًا زاخرًا من الدين، والخلق، والطيبة, والشهامة والكرم؛ فكونوا أوفياء لهذا الميراث, خذوا منه ما استطعتم حتى تكونوا نعم الابناء ونعم الاوفياء لأبيهم.

أمّا نحن الاحباء والاخوان فسنبقى نُردّد بأسًى وحسرة: “سيذكرني قومي إذا جدّ جدّهم         ففي الليلة الظلماء يُفتقد البدر.

…………………..

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى