معركة الوعي (240) إلى أن ينهار السدّ!

حامد اغبارية
في نظرة من زاوية مختلفة لسلوك حكومة الاحتلال والواقف على رأسها؛ بنيامين نتنياهو، تقرأ أزمة عميقة تعبّر عن حجم الورطة التي غاصت فيها تلك الحكومة في رمال غزة. حتى وأنت تسمع تصريحات نتنياهو التي يعبر من خلالها- أمام جمهوره السّحّيج الذي لا يريد أن يسمع الحقيقة- عن انتصارات وإنجازات وبطولات وتهديدات وأهداف تحققت وأخرى سوف تتحقق، وهو يعلم، كما يعلم جمهوره القطيع، أنه يرسم على الثلج، وأنّه يكذب على نفسه وعلى شعبه.
لقد مر على حملة الانتقام الدموية، التي لا يمكن تسميتها حربا، قريبا من سنتين دون أن يتمكن الاحتلال من تحقيق أهدافه المعلنة والخفية في غزة، في الوقت الذي يتكبد يوميا تقريبا من الخسائر البشرية والمادية في ميدان المعركة، ما لم يكن يتخيله في أسوأ أحلامه. وليس هذا وحسب، بل لحق الضرر بالاقتصاد الإسرائيلي بمستويات غير مسبوقة مقارنة مع الحروب السابقة التي خاضتها الدولة الإسرائيلية منذ تأسيسها، وبات المجتمع الإسرائيلي يعيش حالة فظيعة من التشظي والتقاطب الذي يحمل بوادر تمرد وعصيان لم يكن أحد يجرؤ على التلميح إليها فيما مضى. والأسوأ من ذلك أن الاحتلال بدأ يفقد، منذ شهور طويلة وبوتيرة عالية، الظهير الغربي الداعم، على المستويين الشعبي والرسمي، بعد أن أوغل الاحتلال في جرائمه ضد الغزيين من مدنيين نساءً وأطفالا وشيوخا، واستهدف كل أسباب الحياة من ماء وغذاء ومدارس وجامعات ومستشفيات ومساجد وغيرها في سلوك جنوني يستهدف كلّ شيء دون سبب ودون مبرر، اللهم إلا من تطبيق مقولتهم الدموية: ليس هناك أبرياء في غزة. وهو سلوك ليس له سوى تفسير واحد: سلوك المهزوم من داخله، والذي يجد في الفتك بالمستضعفين وسيلته الوحيدة للتغطية على عجزه وهزيمته. فعلى مستوى المعركة العسكرية لا يمكنك القول إن جيش الاحتلال حقق شيئا يذكر، بل يبدو أن العكس هو الصحيح، وأن حقيقة المعركة في الميدان، وإن لم تظهر بكل أبعادها، ستظهر ذات يوم، بعد أن تضع الحرب أوزارها، لتقدم للعالم حقيقة ما حدث في غزة: هزيمة عسكرية مدهشة حقا، حتى على مستوى الخبراء العسكريين، مُنيت بها دولة تملك أضخم وأحدث ترسانة عسكرية في المنطقة في أطول حرب تخوضها منذ تأسيسها، أمام شعب لا يملك إلا إرادة الحياة والحرية والانعتاق، وحملة انتقام – هي ردة فعلٍ جراء صفرية الإنجاز العسكري- ضد الأبرياء.
أمام هذا المشهد يبدو نتنياهو كالغارق في المستنقع حتى أنفه، ولا يستطيع الخروج منه. فهو مقيّد داخل حكومته باليمين الخلاصيّ الذي لا يفهم سوى لغة الدم، ومقيّد بملفات قضائية تهدد مستقبله السياسي، فكيف الخلاص؟
لذلك كان لا بد من “حرب” خاطفة ضد عنوان آخر يسجل من خلاله “انتصارا” وهميا يقدمه لجمهوره، ويشكل له طوق نجاة ينتشله من رمال غزة. ولما وجد أن حربه على إيران تكاد تنقلب عليه استنجد بتوأمه في الجريمة والكذب، ترامب، ليسجل هدفا، ولو بالتسلل، في “أعماق” المرمى الإيراني. ورغم أن “الانتصار” على إيران لم يكن انتصارا حقيقيا، وأن “الإنجاز” لم يكن كما صوروه ويصورونه للجمهور، إلا أن توأمي الجريمة والكذب نجحا في تسويقه أمام القطيع- في مشاهد إعلامية هي أقرب إلى التهريج منها إلى أي شيء آخر- ليتسنى الخروج من ورطة غزة. ولعلّ من علامات الفشل الذريع أن الاحتلال، بعد أن فشل في ميدان المعركة في تحقيق شيء، عمد إلى الكشف عن أوراق قديمة، تتمثل بتجنيد مليشيات إجرامية في غزة لعلها تحقق له من الأهداف ما أثبت التاريخ أنها ليست سوى أوهام وأحلام عصافير، لعله بواسطتها ينجح في بث بذور الفتنة الداخلية في غزة.
لن ينتهي المشهد الدامي في غزة عند إسكات صوت المدافع، بل ستكون له آثار وتداعيات. ربما ينتهي المشهد الحالي بصفقةٍ توقف النزيف ولو مؤقتا، من خلال إرضاء أقطاب اليمين الخلاصي في حكومة نتنياهو المتمثل ببن غفير وسموترتش بقرار مدعوم من ترامب، يقضي بضم المناطق (سي) في الضفة الغربية المحتلة عام 1967، لكن أطماع الاحتلال الذي يمثل رأس الحربة في المشروع الصهيوني لن تتوقف عند هذا الحد، وستنتقل إلى مراحل أخرى من مراحل الصراع على فلسطين. بكلمات أخرى: لقد أحدثت واقعة السابع من تشرين الأول 2023 ثقبا في السدّ يستحيل إغلاقه، فهو يتسع بسرعة مذهلة، ولن يتوقف حتى ينهار السدّ تماما. والسؤال: فوق رأس مَن سينهارُ السدّ؟