أخبار وتقاريردين ودنيامقالاتومضات

مع الغياب المؤقت للحاضنة المعتبرة للقضية الفلسطينية

الشيخ رائد صلاح

يوم أن تسلطت القومية العربية العمياء على مصير الكثير من الشعوب العربية، ويوم أن حسمت موقفها من المشروع الإسلامي، وأعلنت عليه حربًا لا هوادة فيها، ويوم أن استباحت لنفسها البطش بأبناء المشروع الإسلامي إلى حد شنق المفكرين فيهم والعلماء، والحكم على عشرات الآلاف منهم بالسجن المؤبد، ويوم قال كبير في القومية العربية العمياء: (فلسطين للفلسطينيين)، ويوم أن سبق ذلك بعقود إعلان إلغاء الخلافة الإسلامية عام 1924، فقد أصبحت القضية الفلسطينية بلا حاضنة إسلامية ولا حاضنة عربية.

فالخلافة الإسلامية على مدار تاريخها الطويل هي التي كانت تقوم بدور الحاضنة الرسمية، وهي التي كانت تحافظ على الحاضنة الشعبية للقضية الفلسطينية كلما برزت القضية الفلسطينية في مسيرة الأمة الإسلامية الواحدة منذ أكثر من 1400 عام.

ففي يوم اجتاح الصليبيون القدس والمسجد الأقصى المباركين وأرض فلسطين المباركة، لم يكن هناك شيء اسمه الشعب الفلسطيني المتروك لوحده، ولم يكن هناك شيء اسمه العالم العربي المغاير لمصطلح الأمة الإسلامية، ولم يكن هناك شيء اسمه جماهير الأمة الإسلامية في مواجهة حكامها، بل كانت هناك خلافة إسلامية حاضنة لكل الشعب الفلسطيني والعالم العربي والعالم الإسلامي في حاضنة الأمة الإسلامية الواحدة، برعاية الخلافة الإسلامية الواحدة.

ويومها كانت هذه الأبعاد الثلاثة: الفلسطيني والعربي والمسلم، مكملة لبعضها كجزء لا يتجزأ من حاضنة الأمة الإسلامية الواحدة، بل ذابت في بعضها في مسيرة الحضارة الإسلامية الواحدة، ويومها كان هَمّ’ حاضنة الأمة الإسلامية الواحدة هو هَمّا واحدا لكل فلسطيني وعربي ومسلم، وعلى هذا الأساس كانت القضية الفلسطينية.

في الاجتياح الصليبي الذي كاد أن يبلغ المائة عام، كانت القضية الفلسطينية هَمَّ كل حاضنة الأمة الإسلامية الواحدة، فكانت هَمَّ كل فلسطيني وكل عربي وكل مسلم، وما كانت هناك حاجة لإقناع العالم الإسلامي يومها كي يتعاطف مع القضية الإسلامية ويقف في وجه الصليبيين.

بل كان العالم الإسلامي يعتبر أن القضية الفلسطينية هي قضيته، وأن الوقوف في وجه الصليبيين هو واجب عليه، كما هو واجب على الشعب الفلسطيني يومها سواء بسواء، وكذلك ما كانت هناك حاجة للتأثير على العالم العربي كي ينظم المظاهرات الجماهيرية والمسيرات الشعبية والمهرجانات الغاضبة تعاطفًا مع القضية الفلسطينية، بل كان يعتبر أن القضية الفلسطينية هي قضيته، وأن إسنادها هو واجب عليه، كما هو واجب على الشعب الفلسطيني، ولذلك التقى في مواجهة زحوف الصليبيين المسلم غير العربي والعربي والفلسطيني في دائرة الصف الواحد الذي كانت ترعاه الخلافة الإسلامية، إلى جانب دوام رعايتها للقضية الفلسطينية.

كلما برزت على اعتبار أنها جزء من قضايا الأمة الإسلامية الواحدة، وهكذا برز في مشهد مواجهة الصليبيين نور الدين زنكي التركي وصلاح الدين الأيوبي، وكل مكونات الحاضنة الإسلامية الشعبية مترامية الأطراف، إلى جانب الدور العربي والدور الفلسطيني على اعتبار أنه واجب على الجميع سواء بسواء في البعد الفلسطيني والعربي والإسلامي.

وهكذا قامت الخلافة الإسلامية بدور الحاضنة الرسمية للقضية الفلسطينية، ووفرت الحاضنة الشعبية العريضة لها، كلما برزت القضية الفلسطينية، وهكذا قامت الخلافة الإسلامية بهذا الدور عندما برزت القضية الفلسطينية لدى اجتياح المغول للعالم الإسلامي بعامة، ولأرض فلسطين المباركة بخاصة، فوقفت في وجه المغول تلك الحاضنة الإسلامية العربية الفلسطينية برعاية الخلافة الإسلامية.

وكان أن قاد تلك الحاضنة السلطان قطز المسلم غير العربي ولا الفلسطيني، ثم السلطان بيبرس المسلم غير العربي ولا الفلسطيني، وواصلت الخلافة الإسلامية القيام بهذا الدور، فكانت هي الحاضنة الرسمية للقضية الفلسطينية، وكانت هي راعية الحاضنة الشعبية الإسلامية العربية الفلسطينية للقضية الفلسطينية.

وهكذا كان دورها متألقًا في عهد الخلافة الإسلامية العثمانية الذي امتد قرابة الخمسة قرون، وموقف السلطان عبد الحميد الثاني مشهور للقاصي والداني، ثم لما تم الإعلان عن الإلغاء المؤقت للخلافة الإسلامية عام 1924، أصبحت القضية الفلسطينية بلا حاضنة معتبرة لها، ويومها رضي البعض من العرب، جهالة أو خيانة، إعلان الحرب على الخلافة الإسلامية قبيل الإعلان المؤقت عن إلغائها.

وظهر على مسرح الأحداث ما سمي زورًا وبهتانًا (الثورة العربية الكبرى) التي كانت في حقيقتها المؤامرة البريطانية الكبرى، ثم ظهر على مسرح الأحداث أبواق القومية العربية العمياء التي قام باستيرادها من أوروبا مجموعة قوميين عرب تكلمت عنها في مقالات سابقة.

ثم ظهرت على مسرح الأحداث أنظمة عربية انقلابية ادعت أنها هي أبو وأم القومية العربية العمياء، فكانت كارثة على القضية الفلسطينية، ثم صار الحال في العالم العربي أنظمة ملكية أو رئاسية أو أميرية حتى الآن، كما هو حالها، فهي لا تمت إلى الخلافة الإسلامية بصلة. وإلى جانب ذلك، تشظى العالم الإسلامي إلى دول مفترقة حتى الآن، وكما هو حالها، وهي لا تمت إلى الخلافة الإسلامية بصلة.

وهكذا غابت الخلافة الإسلامية مؤقتًا وغابت بغيابها الحاضنة الرسمية للقضية الفلسطينية، وغابت بغيابها الحاضنة الشعبية للقضية الفلسطينية، ولأن فاقد الشيء لا يعطيه، فإن هذه الأنظمة الآنية، سواء كانت ملكية أو رئاسية أو أميرية، وسواء كانت عربية أو مسلمة، ما دامت، كما هو واضح، لا تملك خيارها المستقل وقرارها المستقل ودورها المستقل، فلن تنجح في يوم من الأيام أن تكون حاضنة للقضية الفلسطينية بروح الدور الذي قامت به الخلافة الإسلامية، سواء حاولت هذه الأنظمة القيام بهذا الدور منفردة أو مجتمعة، وصدق من قال: لا يقود الناس أعمى، إنما يقود الناس بصير.

وهكذا خرجت علينا هذه الأنظمة بفكرة الجامعة العربية وفكرة منظمة التعاون الإسلامي عساها أن تكون الحاضنة للقضية الفلسطينية بروح الدور الذي قامت به الخلافة الإسلامية، ولكن هيهات هيهات، فقد تراجعت القضية الفلسطينية، وتحولت إلى قضايا.

فأنا أصبحت قضية، وابن القدس المباركة أصبح قضية ثانية، وابن الضفة الغربية أصبح قضية ثالثة، وابن غزة أصبح قضية رابعة، وابن الشتات الفلسطيني أصبح قضية خامسة، وهكذا فشلت هذه الحاضنة التي اسمها الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي بامتياز، وإلى جانب ذلك فشلت الشعوب العربية والمسلمة أن تكون حاضنة شعبية للقضية الفلسطينية بروح الدور الذي قامت به يوم أن حظيت برعاية الخلافة الإسلامية.

فهي الشعوب التي تحب بصدق القضية الفلسطينية وتحب بوفاء القدس والمسجد الأقصى المباركين، ولكنها تعاني من حال مأزوم يستدر الشفقة، فهي إما أن تكون مقموعة أمنيًا، أو مطاردة سياسيًا، أو منهكة تبحث عن لقمة طعامها، أو مشردة في رحاب الأرض، أو مرصودة الأحلام والأنفاس والحركات والكلمات.

ولذلك، فهي لا تستطيع أن تكون حاضنة لنفسها، فكيف لها أن تكون حاضنة للقضية الفلسطينية، وهي شعوب بلا رعاية تصنع منها الأمة الواحدة فكيف لها أن تكون الحاضنة الإسلامية العربية الواحدة للقضية الفلسطينية، ولا يمكن لها أن تقوم بهذا الدور إلا بعد عودة الخلافة الإسلامية على منهاج النبوة.

وغني عن البيان، أن هيئة الأمم المتحدة ما كانت، ولم تكن، في يوم من الأيام، الحاضنة للقضية الفلسطينية بروح الدور الذي قامت به الخلافة الإسلامية، فهي هيئة تتحكم بها قوى الاستكبار العالمي، وتتخذ منها غطاءً لجرائمها ضد الإنسانية، وأما الضعفاء فلا مكانة حقيقية لهم ذات وزن واعتبار في هذه الهيئة، وغني عن البيان، أن الاتحاد السوفييتي، عندما كان على ظهور خيله، لم يكن يومًا من الأيام حاضنة للقضية الإسلامية بروح الدور الذي قامت به الخلافة الإسلامية، وحتى لو كان له دور مساهم في إسناد القضية الفلسطينية، فهو دور محسوب البدايات والنهايات، ولم يرتقِ في يوم من الأيام إلى مستوى حاضنة معتبرة للقضية الفلسطينية بروح الدور الذي قامت به الخلافة الإسلامية.

ومن ظن خادعًا أو مخدوعًا أن أمريكا قد تقوم بدور الحاضنة للقضية الإسلامية، فبئس ما ظن، فهي الحاضنة للمؤسسة الإسرائيلية، ولا يمكن أن تكون غير ذلك!!

أما الدول التي تتعاطف اليوم جهارًا نهارًا مع القضية الفلسطينية، وفي مقدمتها جنوب أفريقيا، فهي مشكورة على ذلك، ولكنها لا يمكن أن تقوم بدور الحاضنة المعتبرة للقضية الفلسطينية بروح الدور الذي قامت به الخلافة الإسلامية.

وكذلك الشعوب الغاضبة في أنحاء العالم، التي لا تزال تخرج في مظاهرات غاضبة من الصين حتى بريطانيا، إسنادًا للقضية الفلسطينية، هي مشكورة على ذلك، ولكن لا يمكن لها أن تقوم بدور الحاضنة الشعبية المعتبرة للقضية الفلسطينية بروح الدور الذي قامت به الحاضنة الشعبية الإسلامية العربية الفلسطينية برعاية الخلافة الإسلامية.

ولذلك، وأمام هذا الظرف الشائك الآني المؤقت، ومع غياب الحاضنة المعتبرة، فأن تحافظ القضية الفلسطينية على وجودها، وأن تحافظ على ثوابتها، وأن تتمسك بحق العودة وملف الأسرى، وأن تتمسك بمطلبها العادل المستديم المصر على قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس المباركة، وأن تحافظ على وجود الشعب الفلسطيني في أرضه، عصيًا على أي تهجير أو ترحيل، وأن ترسخ عدالة السردية الفلسطينية في كل العالم، وأن تعري حقيقة السردية الصهيونية، وأن تنقي صفها الداخلي بقدر المستطاع، وأن تلفظ منه كل عناصر التبعية والخيانة والإفساد والاحتراب الداخلي، وأن تحافظ على الشعور بالمصير الواحد بين مكونات الشعب الفلسطيني، حتى لو كان بعضها في الصين، وأن تواصل الاعتداد بامتدادها التاريخي وانتمائها الحي، على اعتبار أنها قضية فلسطينية عربية إسلامية، وأن تتألق في خطابها العالمي على اعتبار أنها قضية حق عادلة وأبدية تحمل الخير والسلام والمدنية لكل العالم.

إن كل ذلك مطلوب من القضية الفلسطينية الآن، حتى مع غياب الحاضنة المعتبرة لها، بروح الدور الذي قامت به الخلافة الإسلامية، إلى أن يشاء الله تعالى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى