صندوق الكنيست والصندوق القومي، والصناديق الداعمة الخارجية

الشيخ رائد صلاح
بمبادرة من منصة الأكاديميين العرب، ومجموعة الكرمل، عُقدتْ ورشة مغلقة تحت عنوان “مجتمع في خطر”، بالناصرة يوم السبت الموافق 10-5-2025م. وقد ناقشت هذه الورشة إمكانيات وسبل مواجهة مجتمعنا للتحديات التالية:
1- السياسات تجاه النقب
2- العنف والجريمة
3- التشريعات العنصرية
4- الخطر الوجودي ومنع التمثيل السياسي
ولأن الحضور كانوا من مشارب سياسية شتى، ومن رؤى فكرية مختلفة، ولأن بعض الحضور كانوا ممثلين عن جمعيات ذات أسماء وبرامج مختلفة، فمن الطبيعي أن تكون هناك وجهات نظر مختلفة حول كيفية فهم تلك التحديات، وحول الحلول المطلوبة لمواجهة هذه التحديات. وهذا أمر صحي لا غبار عليه.
ولأن هذه الورشة البحثية جاءت لتسمع كل من شارك فيها وتسجّل مقترحاتهم، ثم تخرج بتوصيات على ضوء ذلك، ثم تقدّمها إلى مجتمعنا في الداخل الفلسطيني، فإن هذا يقتضي أن تسعى هذه الورشة البحثية لتوسيع آفاق مجتمعنا، وطرح أكثر من بديل له، ووضع أكثر من خيار له، تعينه على صعيد قيادته وجماهيره لدراسة كل هذه البدائل والخيارات، ولِسَبر فحواها ودلالتها وإسقاطاتها، ولتقييم ما قام مجتمعنا بتبنّيه من هذه البدائل والخيارات في مسيرة حياته.
ثم بعد كل ذلك، لمجتمعنا (على صعيد قيادته وجماهيره) أن يختار ما يراه مناسبًا من هذه البدائل والخيارات، وقد يتفق مجتمعنا بعد ذلك على بديل واحد وخيار واحد، أو ينقسم في اختياره إلى أكثر من بديل وخيار. وحتى الآن، الأمر صحي وخاضع للنقاش!
ولذلك، سلفًا أقول، إن المطلوب من أيّة ورشة بحثية أن تساعد مجتمعنا على إدراك كل البدائل والخيارات المتاحة، وأن تضع بين يديه كل البدائل والخيارات المتاحة.
والويل لمجتمعنا إن حاولت أيّة ورشة بحثية أن تقول له: أمامك بديل واحد فقط، خيار واحد فقط، لمواجهة ما تمرّ به من تحديات! حتى أُفهم جيدًا، فأنا أقصد بالبدائل والخيارات، سُبل العمل المتاحة والممكنة والمطلوب تبنّيها لمواجهة التحديات التي يمرّ بها مجتمعنا.
وإلا، فإن هوية مجتمعنا واحدة، وكذلك قيمه وثوابته وانتماؤه وتاريخه وحاضره ومستقبله، ولا يجوز أن يقال إن هذه الأصول (بداية من هوية مجتمعنا، ومرورًا بقيمه وثوابته وانتمائه وتاريخه وحاضره ومستقبله) قابلة أن يكون فيها أكثر من بديل أو أكثر من خيار!
وهكذا كانت أجواء تلك الورشة المغلقة التي عُقدت بالناصرة، حيث أُتيح لجميع الحضور التحدّث فيها، وأن يقترحوا البديل والخيار في سياسة العمل المطلوبة كي يواجه مجتمعنا كل التحديات التي يمرّ بها.
وليس سرًّا أن بعض حضور تلك الورشة المغلقة اقترح أن يكون البديل والخيار لمجتمعنا هو الانخراط في لعبة الكنيست، في حدود مرسومة سلفًا، لا يجوز تخطّيها. وهناك من الحضور من اقترح أن يكون البديل والخيار لمجتمعنا هو الانخراط في لعبة الكنيست بلا حدود. وهناك من الحضور من اقترح أن يكون البديل والخيار هو تعزيز دور لجنة المتابعة، وإنعاش دور لجانها (التي تزيد على عشر لجان)، وإسناد نشاطاتها في كافة المجالات.
وهناك من الحضور من دعا إلى انتخاب مباشر للجنة المتابعة. وهناك من الحضور من دعا لإقامة صندوق قومي عصامي لا يعتمد إلا على جيوبنا، ولا يعتمد على صناديق داعمة (سواء كانت إسرائيلية أو أوروبية أو أمريكية).
وحتى الآن، الأمر صحي وقابل للنقاش، وقابل لتقييم كل هذه البدائل والخيارات، وقبول بعضها ورفض البعض الآخر.
ولكن غير الصحي الذي كان في هذه الورشة المغلقة، أن بعض المتحدّثين حاول أن يحصر كل البدائل والخيارات في بديل واحد، وأن ينفي سائر البدائل، وأن يقول علانية إن أمام مجتمعنا خيارًا واحدًا فقط، هو الانخراط في لعبة الكنيست، وإلا فإن البديل معدوم ولا يوجد بديل آخر!
وقد استهجنت ذلك، وطلبت حق الحديث، وقلت: أرجو ألا تُشعرونا وكأن هذه الورشة المغلقة عُقدت بهدف توجيه مجتمعنا للانخراط في لعبة الكنيست! قلت إن دور الدراسات أن توسّع آفاق فهم المجتمعات وتزوّدها بأكثر من خيار في سياسات عملها.
وكم هو خطير أن نخرج بعد هذه الورشة المغلقة وأن نقول لمجتمعنا: لا خيارات لك، وأنت ملزم بالانخراط في لعبة الكنيست!
ثم أضيف (ما لم أقله في الورشة المغلقة)، وأنبّه أن حصر مسيرة مجتمعنا في خيار واحد فقط في سياسات عمله، وإلا فالكارثة والطوفان، إن مثل ذلك هو تجفيف لمنابع تفكير هذا المجتمع، وربط مصيره في بديل وخيار واحد!
ثم، إذا ما فشل هذا البديل والخيار، فسيرتدّ ذلك بالإحباط على مجتمعنا، وزرع بذور اليأس فيه، ودفعه إلى التبعية للآخر، أنه بلا قيمة ولا قيم، ولا إرادة، ولا مشروع، وأنه فاشل على صعيد القيادة والجماهير ولا يساوي شيئًا!
ولكن في حال أن قلنا لمجتمعنا: هناك أكثر من بديل وخيار في سياسات العمل المطلوبة لمواجهة ما يمرّ به من تحديات، فلو فشل بديل وخيار منها، فهناك أمام مجتمعنا بدائل وخيارات أخرى، عندها لن يشعر أنه في طريق مسدود، وأفق مسدود، وحاضر مسدود، ومستقبل مسدود! لأنه إذا وصل إلى هذا الشعور بالانسداد في كل شيء (وحاشا لله أن يصل إلى ذلك)، ولكن إذا وصل إلى هذا الشعور بالانسداد، فقد سُقنا مجتمعنا إلى الانتحار المجتمعي، وإلى التنازل عن أصوله وثوابته وجذوره وانتمائه (بما في ذلك عن لغته العربية)!
ولذلك، فإن خيار صندوق الكنيست هو أحد البدائل والخيارات، وليس البديل الوحيد والخيار الوحيد. وهو قابل للنقاش، وهذا يعني أنه قابل للرفض، سيما وأن تقييم تجربة صندوق الكنيست كبديل وخيار قد عاشها مجتمعنا عقودًا كثيرة، ولا تشجّع أن نصرّ على هذا البديل والخيار ونعضّ عليه بالنواجذ!
وحول دعوة البعض في هذه الورشة المغلقة لإنشاء صندوق قومي عصامي من جيوبنا، يمدّنا بالقدرة المالية في كل موقف يحتاج إلى الإنفاق المالي، حول إنشاء هذا الصندوق، أقول إنه لن ينزل علينا هذا الصندوق من كوكب آخر، ولن ننجح بإقامته في عشية وضحاها، بل المطلوب أن نضع بداية عملية جادة تقود لإنشاء هذا الصندوق القومي. شخصيًا، كنت ولا زلت أقترح أن يتم إنعاش لجنة المالية (إحدى اللجان المتفرعة عن لجنة المتابعة).
ويوم أن يتم إنعاشها، فستتدارك تقصير الأحزاب والحركات العضو في لجنة المتابعة التي لم تسدّد اشتراكاتها المالية منذ سنوات (وهي اشتراكات لا تكسر الظهر)، وما أسهل تسديدها على كل هذه الأحزاب والحركات، سيما التي تنخرط منها في لعبة الكنيست! ثم يوم أن يتم إنعاش هذه اللجنة المالية في لجنة المتابعة، فيمكن لهذه اللجنة أن تبدأ بوضع برامج عمل تحدّد لها كيف تتواصل مع كل مكونات مجتمعنا، بهدف أن يساهم كل منهم وفق قدرته بدفع اشتراك مالي ثابت للجنة المالية في لجنة المتابعة.
وقد يكون هذا الاشتراك في بداية الأمر مجرّد دراهم معدودة، ولكن مع الأيام، ومع استدامة دور هذه اللجنة المالية في لجنة المتابعة، فستزداد الروافد المالية العصامية من أهلنا في الداخل الفلسطيني لدعم هذه اللجنة المالية. وسيساهم بذلك الأهل في الجليل والمثلث والنقب والمدن الساحلية.
وسيساهم بذلك أصحاب رؤوس الأموال ورجال الأعمال والناجحون في تجاراتهم وشركاتهم ومقاولاتهم. وسيساهم بذلك الكادحون والعمال والفلاحون أصحاب الدخل المحدود. وسيساهم بذلك الرجال والنساء، والشباب وكبار السن. وهو طموح يمكن أن يتحقّق إذا صدقنا العزم، وتوكّلنا على الله تعالى!
ثم مع الأيام، ستكون بدايات لصندوق مالي، ثم ستربو هذه البدايات وستربو قدراتها المالية، وستحقّق لا محالة إنشاء صندوق قومي عصامي لإسناد مجتمعنا في كل تحدياته في الداخل الفلسطيني.
ثم أضيف وأقول: لفت انتباهي خلال هذه الورشة المغلقة بالناصرة، أن قال أحد ممثلي الجمعيات المدعومة من الصناديق الخارجية علانية وبلا تردّد: لا يوجد لنا مصادر دعم لجمعياتنا إلا من صناديق إسرائيلية أو أمريكية! وقد كان صريحًا في هذا القول. وقال ممثل آخر لإحدى الجمعيات المدعومة من الصناديق الخارجية: كم أتمنّى أن نتحرّر من هذه الصناديق الداعمة التي تملي علينا سياساتها! وقد كان صاحب هذا القول شجاعًا (وليس صريحًا فقط)، حيث صرّح بما حاول البعض نفيه من أصحاب الجمعيات الأخرى المدعومة من الصناديق الخارجية.
ويرحم الله تعالى من قال ذات يوم: (إذا كانت اللقمة من الفأس، كانت الفكرة من الرأس). بمعنى أن الجمعية التي تعتمد في نفقاتها المالية على دخل مالي عصامي ذاتي، تكون متحرّرة من فرض أيّة سياسات عليها، وستكون سياستها عصامية من رأسها.
وأما من سمحت لنفسها أن تتورّط وأن تعتمد في نشاطها (مهما كان مزخرفًا وبرّاقًا ومغريًا) على صناديق دعم خارجية إسرائيلية أو أوروبية أو أمريكية، فلن تكون سياستها عصامية من رأسها. بل إن الصناديق الخارجية التي تدعمها هي صريحة معها، وتدعمها بيد، وتفرض عليها باليد الأخرى السياسات أو الأجندة التي تسعى هذه الصناديق الداعمة لتحقيقها بواسطة هذه الجمعيات المدعومة. وهو من إفرازات الرأسمالية المتوحّشة.
وقد كتب في ذلك البعض (كالصحفي المرحوم عبد الحكيم مفيد) كتبًا. ويوجد على ذلك شواهد كثيرة من سيرة الكثير من الجمعيات المدعومة من الصناديق الخارجية في مسيرة مجتمعنا في الداخل الفلسطيني. وهو موضوع شائك ويطول الحديث عنه، وتكثر فيه الأسرار والمفاجآت والصدمات. وما كتبته هو مجرّد إشارة موجزة جدًّا!
فهل نعطي لأنفسنا فرصة تنفّس فكري وتحليلي، كما كان عليه الحال في هذه الورشة المغلقة بالناصرة؟ وهل صدورنا لبعضنا البعض إذا فتحنا نقاشًا مجتمعيًا صريحًا وشفّافًا حول ماهية هذه الصناديق الثلاثة (صندوق الكنيست، والصندوق القومي، والصناديق الداعمة الخارجية)، وحول إسقاطاتها على مسيرة مجتمعنا في الداخل الفلسطيني، وحول ما نعلم منها وما لا نعلم، وحول أثرها على حصانتنا المجتمعية وقيمنا وثوابتنا وتكافلنا الاجتماعي ووحدة الحال بين الجليل والمثلث والنقب والمدن الساحلية، وحول لغتنا العربية المظلومة، وحول كل القضايا التي تناولتها هذه الورشة المغلقة بالناصرة، بشرط أن يتجنّب هذا النقاش لهجة التكفير أو التخوين أو التجريح؟