الكنائس على خط المواجهة بين روسيا وأوكرانيا
بعد مضي أكثر من عامين على بدء الحرب الروسية الأوكرانية، يتبادل البلدان اتهامات من نوع خاص، فمن ناحية تعتبر روسيا تقارب أوكرانيا مع الغرب مروقا على التقاليد الأرثوذكسية وكفرا بها، ومن جهة ثانية تتهم كييف موسكو باستغلال الكنيسة الأرثوذكسية لتحقيق مطامعها الإمبريالية التوسعية.
وفي سعيه لإزالة نفوذ موسكو الروحي في أوكرانيا، صادق فولوديمير زيلينسكي، في 24 أغسطس/آب 2024، على قانون يحظر المجموعات الدينية المرتبطة بروسيا، ويقصد هنا على وجه الخصوص “كنيسة أوكرانيا الأرثوذكسية” التي تعتبر نفسها فرعا من الكنيسة الروسية وكل توابعها من أبرشيات.
ويمنح القانون الجديد الكنائس المرتبطة بموسكو في أوكرانيا 9 أشهر لإثبات قطع علاقاتها مع الكنيسة الروسية، وإلا ستكون عرضة للإغلاق ومصادرة الممتلكات، ويمهد هذا لانقسام تاريخي في الكنيسة الأرثوذكسية، حيث يأتي بعد حوالي 4 قرون من تبعية كنائس كييف لكنائس موسكو.
وبعد تصديقه على القانون، اعتبر زيلينسكي أن هذه الخطوة ستعزز استقلال بلاده قائلا إن “الأرثوذكسية الأوكرانية تأخذ اليوم خطوة في اتجاه التحرر من شياطين موسكو”.
واختار الرئيس الأوكراني توقيتا رمزيا ذا دلالة للمصادقة على القانون، حيث وقعه بالتزامن مع ذكرى استقلال أوكرانيا عن الاتحاد السوفياتي في 24 أغسطس/آب 1991، وذلك لتحقيق أكبر قدر من الحماس والتأييد للقرار في صفوف الوطنيين الأوكرانيين الذين حصلوا مؤخرا على دفعة قوية تمثلت في الغزو الناجح لمنطقة كورسك الروسية.
ويرى مراقبون أن زيلينسكي بات يهتم بالقضية الدينية باعتبارها تشكل أداة مفيدة لتحفيز الأوكرانيين على تبني سياساته، رغم أن الروس يتهمونه بأنه يهودي يدافع عن النازية.
الاستقلال الروحي
يحظى قرار حظر الكنائس المرتبطة بروسيا بتأييد شعبي كبير، فحسب مسح أجراه معهد كييف الدولي لعلم الاجتماع في أبريل/نيسان 2024، يعتقد 83% من الأوكرانيين أن الدولة يجب أن تتدخل في أنشطة الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية، وعلى وجه الخصوص يعتقد 63% أنه يجب حظر الكنيسة الأرثوذكسية التابعة لروسيا بشكل كلي في أوكرانيا.
فبالنسبة للأوكرانيين، يمثل قرار حظر المؤسسات الدينية المرتبطة بروسيا نهاية تبعية من نوع آخر، وتحقيق استقلال روحي عن موسكو بدأت خطواته عام 2014 بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم حين أعلنت حينها بعض الكنائس الأرثوذكسية في أوكرانيا انشقاقها عن الكنيسة الروسية.
وفي عام 2019، كانت الخطوة الأهم نحو تحقيق الاستقلال الديني لأوكرانيا إذ أعلن الزعيم الروحي للعالم الأرثوذكسي البطريرك برثلماوس الأول -ومقره إسطنبول- اعترافه رسميا بكنيسة أرثوذكسية مستقلة مقرها كييف في أوكرانيا.
وحسب تقرير لصحيفة لوموند الفرنسية في 20 أغسطس/آب الماضي، يعتبر زعيم الكنيسة الأوكرانية الأرثوذكسية المستقلة المتروبوليت إبيفانيوس أن القانون الجديد يوفر فرصة “لحماية الفضاء الروحي الأوكراني من نير العالم الروسي”.
ويعتبر إبيفانيوس أن “كل المراكز الدينية في روسيا تخضع للسيطرة الكاملة من الكرملين الذي ينشر أيديولوجية العالم الروسي التي تعتبر الحرب ضد أوكرانيا حربا مقدسة، لذلك فتدمير أوكرانيا هو هدف مبرر أخلاقيا بل واجب بالنسبة للقوات الروسية”.
ملاحقات دينية
ورغم أن الكنائس الأرثوذكسية المستهدفة بالقانون كانت قد أعلنت انفصالها عن بطريركية موسكو مع بدء الحرب الروسية على أوكرانيا عام 2022، لكن المسؤولين الأوكرانيين كثيرا ما يتهمون رجال الدين في تلك الكنائس بالإبقاء على ولائهم لروسيا.
ومما عزز شكوك الأوكرانيين انضمام العديد من أعضاء الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية في الأراضي التي تحتلها روسيا إلى الجانب الروسي.
وأوردت الصحفية “داريا تاراسوفا” -في مقال لسي إن إن نشر في 25 أغسطس/آب 2024- أن جهاز الأمن الأوكراني يعتبر أن الكنيسة الأرثوذكسية لا تزال تدور في فلك موسكو وتنشر الدعاية المؤيدة لها.
ومنذ بداية الحرب فتح جهاز الأمن الأوكراني تحقيقات جنائية ضد أكثر من 100 رجل دين من الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية، وقد تم بالفعل توجيه الاتهام إلى حوالي 50 شخصا وصدرت أحكام على 26 منهم.
ووفقا لتلك التحقيقات، دافع رجال الدين المدانون في خطبهم عن الحرب الروسية والاستيلاء على أجزاء من أوكرانيا، وحاولوا إقناع أتباعهم بالذهاب إلى ساحة الحرب لمساعدة الروس.
ويعتبر مراقبون أن القرار الجديد سيمنح السلطات الأوكرانية ذريعة قانونية “للتنكيل بقساوسة وكهنة الكنيسة المحظورة ومصادرة عقاراتهم وأديرتهم والزج بهم في السجون بتهم التجسس والتخابر مع العدو”.
تدمير الأرثوذكسية
رغم التأييد الداخلي الكبير الذي حظي به القانون، ثمة ناطقون بالروسية في أوكرانيا يمثلون خمس سكان البلاد يرفضون التخلي عن تبعيتهم الدينية لموسكو، فهم يريدون الاستمرار في العبادة بالروسية بينما تعتمد الكنيسة الأوكرانية المنشقة عن موسكو العبادة باللغة الأوكرانية.
ونقل تقرير شبكة “سي إن إن” عن أحد أتباع الكنيسة الأرثوذكسية المستهدفة في كييف استياءه من التحركات الأخيرة ضد كنيسته قائلا إن “الحكومة تتسلل الآن إلى روحي، والصواب أن الأمر متروك لي لاتخاذ قرار بشأن كيفية صلاتي.. لقد جن جنونهم تماما”.
وفي المقابل، يرى محللون أن القانون سيعطي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأساقفته حججا إضافية لجعل حربهم ضد أوكرانيا حرب عقيدة وحملة صليبية لـ”إنقاذ إخوتهم في الدين مما تسلط عليهم من ظلم”.
فقد قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا إن أوكرانيا تحاول “تدمير الأرثوذكسية الحقيقية”، كما أدانت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية القانون، واعتبره المتحدث باسمها فلاديمير ليغويدا أفظع انتهاك لحرية الضمير وحقوق الإنسان.
وأضاف ليغويدا أن القانون يخلق “أساسا قانونيا للتصفية الكاملة لأبرشيات الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التي توحد غالبية الأوكرانيين”. وحذر من أن تنفيذ هذا القانون من شأنه أن “يؤدي إلى أعمال عنف جماعي ضد ملايين المؤمنين”.
عواقب بعيدة المدى
وفي دراسة -نشرت في الرابع من سبتمبر/أيلول 2024 لمركز كارنيغي في برلين لشؤون روسيا وأوراسيا- يرى الباحث في التاريخ السياسي الأوكراني كونستانتين سكوركين أن عواقب حظر الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لبطريركية موسكو قد تكون أكثر خطورة مما يبدو أن كييف تدركه، معتبرا أنه ستكون للقرار عواقب وخيمة بعيدة المدى على أوكرانيا داخليا وخارجيا.
ويوضح كونستانتين أن الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لبطريركية موسكو تعد أكبر كنيسة في البلاد حيث تتبع لها 10 آلاف و587 أبرشية مقارنة بـ8075 أبرشية تابعة للكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المستقلة، وبالتالي فتنفيذ القانون الجديد يعني أن أتباعها سيجبرون على ممارسة أنشطتهم الدينية بشكل سري، ولا يعرف حقيقة ما يترتب على ذلك، وفي كل الأحوال ستواجه كييف تهمة ممارسة الاضطهاد الديني.
ويرصد كونستانتين أن الأبرشيات التي حولت ولاءها من الكنسية التابعة لموسكو إلى كنيسة أوكرانيا المستقلة منذ بداية الحرب هي 685 أبرشية فقط معظمها في وسط وغرب البلاد، أما في الجانب الموالي لروسيا -حيث تشتعل الحرب- فقد كان التحول ضئيلا (حالتان في منطقة أوديسا، وواحدة في منطقة دنيبروبيتروفسك، ولم يحدث أي تحول في منطقة خاركييف).
ويعتبر كونستانتين أن الضغوط القانونية التي تمارس على الكنيسة الأرثوذكسية المتهمة بالعمالة لموسكو قد تحولها إلى منظمة معادية بشدة لكييف وهو ما قد تترتب عليه بعض المخاطر.
طفرة في التدين بعد سقوط الاتحاد السوفياتي
كشفت المعطيات الإحصائية أن انهيار الاتحاد السوفياتي، الذي قمع الدين بلا رحمة، أدى لانتشار كبير للممارسات الدينية في العديد من الدول التي خرجت من رحم ذلك الاتحاد.
فبحسب استطلاع رأي أجراه مركز بيو للدراسات وتم نشره في 2022، فإن 71% من الروس يعتبرون أنفسهم أرثوذكسيين، إلى جانب 78% من الأوكرانيين، و73% من البيلاروسيين و92% من المولدوفيين.
ولقد أكسب هذا الانتشار الكنيسة الأرثوذكسية الروسية ثقة كبيرة وباتت تنظر إلى نفسها باعتبارها مستودعا للهوية الوطنية الروسية، وباعتبار كنيسة موسكو زعيمة للكنائس الأرثوذكسية الأخرى.
وقد ساعد في تكريس هذه النظرة إقرار الرئيس الروسي بوتين قوانين تستهدف الأقليات الدينية غير الأرثوذكسية بالغرامات والاعتقالات والمصادرات والاتهامات الجنائية.
ويضم ما يسمى “المجمع المقدس للكنيسة الأرثوذكسية الروسية” بالإضافة إلى أساقفة روسيا مجموع أساقفة أوكرانيا وبيلاروسيا ومولدوفا وكازاخستان وأوزبكستان.
عقيدة “العالم الروسي”
سارعت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية إلى التحالف مع نظام بوتين خصوصا منذ انتخاب كيريل “بطريركا لموسكو وكل روسيا” في عام 2009.
وبحسب دراسة لمركز دراسات تابع للبرلمان الأوروبي 2022، فقد وضع نظام بوتين بالاشتراك مع الكنيسة على مدى العقود الماضية عقيدة تعرف بـ”العالم الروسي” تتصور دورا لروسيا في إنقاذ الحضارة المسيحية من الغرب المنحط من خلال نشر اللغة والثقافة والقيم الروسية، وإعادة الهيمنة على البلدان التي كانت في السابق ضمن الاتحاد السوفياتي، وممارسة النفوذ في جميع أنحاء العالم الأرثوذكسي والمسيحي الأوسع.
وقد أنشأ بوتين في عام 2007 مؤسسة “روسكي مير”، التي تنشر هذه الأيديولوجية في جميع أنحاء العالم، بالتعاون الوثيق مع الكنيسة الروسية.
وتكشف هذه العقيدة أن البعد الديني يشكل عاملا رئيسا في حرب روسيا على أوكرانيا، والتي لفتت الانتباه أيضا إلى العلاقة الوثيقة بين نظام بوتين والكنيسة الروسية، حيث دعمت الأخيرة حرب بوتين بقوة، وكانت على الدوام تقدم مبررات لاهوتية وأيديولوجية لسياساته الداخلية والخارجية.
وحسب الدراسة الأوروبية، فقد ساهم النهج السياسي الصريح للكنيسة الروسية في انقسامات عميقة داخل العالم الأرثوذكسي الأوسع، بما في ذلك انفصال الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية، والتوترات الكبيرة مع بطريركية القسطنطينية المسكونية التي تمثل الزعامة الروحية للكنائس الأرثوذكسية.
روسيا الأرثوذكسية الكبرى
وكان بوتين نفسه قد نشر مقالا طويلا في يوليو/تموز 2021 بعنوان “الوحدة التاريخية للروس والأوكرانيين” وضع فيه رؤيته لما يسميه روسيا الكبرى، إذ زعم أن الروس والأوكرانيين والبيلاروسيين هم نفس الأشخاص الذين يعتبرون كييف “منبع معموديتهم المشترك” منذ تحول أمير كييف فولوديمير (باللغة الأوكرانية وفلاديمير بالروسية) من الوثنية إلى المسيحية في عام 988.
ويوضح بوتين أن أعداء روسيا “يقعون إلى الغرب”، وكما سعوا خلال القرن الـ16 إلى غزو الأراضي الروسية بالبولونيين واللاتينيين ومحاربة الأرثوذكسية، فإنهم يعيدون الكرة بدعمهم للنظام الأوكراني الحالي وتأييدهم انشقاق الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية عن روسيا.
وبالنسبة لبوتين، فإن الهوية الأوكرانية أو الدولة الأوكرانية “ليس لها أساس تاريخي” وإنما هي أداة جيوسياسية يستخدمها الغرب لإضعاف روسيا، ويصف الرئيس الروسي قادة أوكرانيا الحاليين بأنهم “متطرفون ونازيون جدد”.
وفي المقابل، تحدثت دراسة أعدها الباحث الأميركي مايكل روبين، لمعهد إنتربرايز في فبراير/شباط الماضي تحت عنوان “حرب روسيا دينية أيضا”، عن أن منظمات مجتمع مدني وثقت -ما وصفته- بالاضطهاد الديني في المناطق التي احتلتها روسيا في شرق أكرانيا.
ويمكننا أن نخلص من الدراسات السابقة أن الدين كان وما زال عاملا مؤثرا في الحرب الروسية الأوكرانية الحالية سواء من حيث الإعداد لها وتسويغها أو استمرارها، وهو في الحقيقة أمر ليس جديدا في الحروب الأوروبية الداخلية، لكنه يؤكد زيف كثير من الادعاءات الأوروبية المتعلقة بحقوق الإنسان والحريات الدينية والابتعاد عما تتهم به شعوب أخرى من استغلال للدين لأغراض سياسية.