مقالات

معركة الثوابت (22)… الثوابت في بعدها الأخلاقي

إنتصارا لثوابتنا الإسلامية العروبية الفلسطينية، ومتابعة لما كتبته في الحلقات السابقة ، أواصل وأؤكد أننا بحاجة ملحة إلى الأخلاق الكريمة كأصل من أصول ثوابتنا لضبط بنائنا المجتمعي بداية من بناء الفرد وانتقالا إلى بناء البيت ، ثم بناء المجتمع ثم بناء الأمة ، إلى جانب ذلك فنحن بحاجة إلى هذه الأخلاق الكريمة كأصل من أصول ثوابتنا لضبط مسيرة حياتنا مع أنفسنا ومع الآخر سواء كان هذا الآخر صديقا أو عدوا، وعلى سبيل المثال بتنا في هذه الأيام نعاني من “مأساة العنف” التي أضحت تهدد كل فرد فينا ، وكل بيت فينا، وبات الكثير منا يؤكد حاجتنا الملحة إلى الأخلاق الكريمة كي تنقذنا من “مأساة العنف” ، لأننا يوم أن تنكرنا للكثير من أخلاقنا ، فقد أحدث هذا التنكر لها فراغا ، فكان أن ملأ العنف هذا الفراغ ، وهي قضية تحتاج الى تفصيل ، ولكنني مررت عليها على عجالة كمثال يؤكد لكل عاقل فينا كم نحن بحاجة ملحة إلى الأخلاق الكريمة.
ثم على سبيل المثال ها هو مصير ” القائمة المشتركة” يصبح في خطر على خلفيات تحتاج إلى تفصيل في مقالة أخرى ، وها هو البعض بات يؤكد في مقالاته حاجتنا الملحة إلى الأخلاق كي تلزم أطراف” القائمة المشتركة” أن يلتزموا بمبدأ التناوب الذي اتفقوا عليه ، وهذا يعني أن السياسة إذا تجردت من الأخلاق الكريمة فستنقلب إلى لغم قابل للإنفجار في كل لحظة ، ثم على سبيل المثال كنا ولا زلنا نؤكد لأنفسنا على مدار العقود الماضية أننا بحاجة ملحة إلى “الصمود” كي نبقى في أرضنا وبيوتنا ومقدساتنا رغم الحجم الضخم للتحديات التي باتت تحيط بنا وتحاصرنا من كل جانب ، ولكن من الواضح أن” الصمود” لن يأتي من فراغ ، فهو ثمرة مباركة ضرورية لنا لا بد منها ، ولكن من الواضح لكل عاقل فينا أنها ثمرة مباركة لشجرة مباركة اسمها الأخلاق الكريمة ، فإذا توفرت هذه الشجرة فسنجني منها هذه الثمرة التي اسمها “الصمود”، وإذا اختفت هذه الشجرة فستختفي تلقائيا هذه الثمرة التي اسمها “الصمود”، بمعنى آخر إذا توفرت شجرة الأخلاق الكريمة فسنجني ثمرة “الصمود” ،وإذا تنازلنا عن شجرة الأخلاق الكريمة ، فهذا يعني أننا قد تنازلنا عن ثمرة “الصمود” ولن يفيدنا بعد ذلك كثرة الحديث عن “الصمود” بعد التنازل عن شجرة الأخلاق الكريمة وسنكون في وضعية مأساوية نخدع فيها أنفسنا قبل أن نخدع غيرنا ، وسنكون قد استبحنا لأنفسنا أن نحول “الصمود” إلى مجرد شعار نتغنى به ليس إلا، وما يقال عن “الصمود” يمكن أن يقال عن ثمرة “التضحية” التي بتنا نطالب بها لأنفسنا من أجل دور صادق منتصر لقضية القدس والمسجد الأقصى المباركين ، فأي “تضحية” نرجوها من أنفسنا إذا سهل علينا التنازل عن الأخلاق الكريمة ، وما يقال عن “الصمود” و”التضحية” يُمكن أن يُقال عن ثمرة” الوحدة” ، فالكل فينا بات يتغنى في هذه الأيام بمصطلح “الوحدة” ، على صعيد السياسي والشاعر والإعلامي والمربي والخطيب والمنظر، ولكن أي ثمرة “وحدة” نرجوها إذا غابت شجرتها التي اسمها الأخلاق الكريمة، وأي مهزلة كنا ولا زلنا نغرق فيها إذا واصلنا المطالبة بثمرة “الوحدة” وقد سهل علينا اجتثاث شجرة هذه الثمرة التي اسمها الأخلاق الكريمة ، حيث بات مدلول مصطلح “الوحدة” في هذه الأيام شبه مزيف ، فإذا وافق الآخرون موقف فلان وحفظوا له مصالحه، فهذا يعني أنهم قد حافظوا على “الوحدة” وفق حساباته الذاتية ، وإذا خالفوه واصطدموا مع مصالحه فهذا يعني أنهم قد ضيعوا “الوحدة” وفق حساباته وشقوا الصف الوطني إلى شقين أو شقوق ، إنها المهزلة التي بتنا نغرق فيها ، ولكننا نكابر ولا نتجرأ على الإعتراف بحقيقة حالنا لأنها مرة جدا كالعلقم ، لدرجة أن عوراتنا السياسية والإجتماعية والسلوكية باتت مكشوفة ، ولا زلنا نكابر ونصف حالنا بعكس ما هو عليه مع شديد الأسف ، لذلك نحن بحاجة إلى وقفة سريعة مع ذاتنا تقوم على الصدق والصراحة والشفافية حتى ندرك بلا ضبابية : من نحن وما هي حقيقة من نحن؟! وما هو حالنا وما هي حقيقة ما هو حالنا، وإلا فنحن في خطر ، ومركبات مجتمعنا على صعيد الفرد والبيت والمجتمع والأمة في خطر ، ومسيرة حياتنا بكل تجلياتها في خطر ، وليس كل ما يُعلم يُقال ولو مؤقتا ، ولذلك فإذا أردنا أن نكون ، وإذا أردنا لمركبات مجتمعنا أن تكون ، وإذا أردنا لمسيرة حياتنا أن تكون ، فلا بد مما لا منه بد، لا بد أن نصطلح من جديد ، ولا بد أن نلتزم من جديد ولا بد أن ننسجم من جديد ، مع أخلاقنا الكريمة ، وإلا فإن فاقد الشيء لا يعطيه ، ولا يقود الناس أعمى إنما يقود الناس بصير، ولذلك فإننا لن نجني من الوهم إلا الشعارات ، وهيهات للشعارات لوحدها أن تنفعنا مهما كانت براقة ، وحتى ننجح بالإصطلاح من جديد مع أخلاقنا الكريمة فإنني أسجل هذه الملاحظات الهامة:
1. لا يمكن لشجرة الأخلاق الكريمة أن تنمو وأن تستوي على ساقها وأن تثمر كل ما هو مرجو من قيم فاضلة إلا إذا استمدت هذه الشجرة وجودها من جذور “عقيدة التوحيد” فأن تكون هناك عقيدة التوحيد فهذا يعني أن المطلوب من الفرد والبيت والمجتمع والأمة ألا يعتمدوا إلا على الله وحده وألا يتجهوا إلا الى الله وحده وألا يطلبوا إلا مرضاة الله وحده ، وأن يستشعروا رقابته لهم في كل حركاتهم وسكناتهم في عالم القلب والضمير والجوارح والواقع المحسوس المشهود ، وألا يتخذوا من دونه إلها آخر، وألا يعبدوا من دونه الهوى أو المال أو المنصب أو الجاه أو الخميصة أو ما على شاكلتها من أوهام زائفة وزائلة ، فهذا هو الهدى الأساس في منهج التفكير والسلوك، وهذا هو القاعدة ، التي من شأنها أن تمد شجرة الأخلاق الكريمة بجذور التوحيد.
2. إذا تحققت هذه القاعدة وأقيم هذا الأساس جاءت التكاليف الفردية والإجتماعية ولها في النفس ركيزة من العقيدة في الله الواحد، توحد البواعث والأهداف من التكاليف والأعمال.
3. والرابطة الأولى بعد رابطة العقيدة ، هي رابطة الأسرة، ولذلك فقد جاء القرآن الكريم يربط بر الوالدين بعبادة الله إعلاءا لقيمة هذا البر عند الله ، وفي ذلك يقول الله تعالى :”وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا” الإسراء 23.
4.وإلا ماذا نتوقع من ضمير الأنسان إلا أن يموت إذا كان بدون عقيدة التوحيد، وماذا ننتظر له إلا أن يتمزق إذا كان منقطعا عن هذه العقيدة ، ثم ماذا ننتظر من أسرة محطمة الروابط لأنها خالية من بر الوالدين ، إلا ان تفرض سلبيات تحطمها على مسيرة أفرادها ثم مسيرة مجتمعها ثم مسيرة الأمة التي تنتمي اليها.
5. ثم لا بد من تعزيز قيم التراحم والتكافل بعد مرحلة البر بالوالدين ،وهذا من شأنه أن يحقق فينا قيم إفشاء السلام، وحسن الجوار، ولغة الحوار والتسامح ، وإغاثة الملهوف، وصلة الرحم ، وحمل الكلِّ ، والتعاون على نوائب الدهر وإشاعة المعاملة الحسنة والكلمة الطيبة ، وتوقير الكبار والرحمة بالصغار، وإكرام المرأة ، وآداب الإختلاف ، ولذلك نجد أن القرآن الكريم بعد أن دعا الى عبادة الله تعالى وحده دعا الى البر بالوالدين ، ثم دعا الى وجوب التكافل الإجتماعي ، وفي ذلك يقول الله تعالى : ” وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا” (الإسراء26) ، وحول هذا البيان القرآني قال سيد قطب رحمه الله في تفسيره” في ظلال القرآن” :” والقرآن يجعل لذي القربى والمسكين وابن السبيل حقا في الأعناق يوفى بالإنفاق ، فليس هو تفضيلا من أحد على أحد ، إنما هو الحق الذي فرضه الله ،ووصله بعبادته وتوحيده”.
6.ثم بعد ذلك لا بد من صيانة المجتمع أخلاقيا وماليا، ومن أجل تحقيق هذه الغاية فقد دعا القرآن الكريم المجتمع الى عدم التبذير والى اجتناب قتل الأولاد والى عدم القرب من الزنا والى اجتناب قتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق وإلى عدم القرب من مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ، لقد جاءت كل هذه الأوامر القرآنية لأن الإسلام دين الحياة ودين السلام ، ولأن غاية الحياة على هذه الأرض أننا مستخلفون فيها، خلقنا الله لعمارتها والسعي فيها بما يسعدنا جميعا ويعود علينا بالخير والصلاح ، فإذا ضل الإنسان وانحرف عَمّا رسمه له ربه أفسد هذه الخلافة وأشقى الدنيا كلها بدل أن يسعدها ، فإذا عرفنا كل ذلك أيقنا أنه لا بد من دستور أخلاقي يضبط علاقة الفرد مع ربه وعلاقة الفرد مع بيته ، وعلاقة الفرد مع مجتمعه ، وعلاقة المجتمع مع مركباته ، وعلاقة المجتمع مع الأمة، وعلاقة الأمة مع سائر أمم الأرض ، وبذلك ستفشو الأخلاق الكريمة في مسيرة هذا المجتمع.
7.وسيبدأ هذا المجتمع بإنبات كل ثمر طيب مبارك مثل إيفاء العهد وإيفاء الكيل والميزان ، وقد جاء القرآن الكريم يدعو الى ذلك في قول الله تعالى :” وأوفوا بالعهد” (الإسراء 34)، وفي قول الله تعالى :”وأوفوا الكيل” (الإسراء 35) ، وسيبدأ هذا المجتمع في ضبط حركة حياته العلمية بهدف الترقي في مسيرة البحث والفكر والإثراء ، وفي ذلك يقول الله تعالى : “ولا تقف ما ليس لك به علم” (الإسراء36)، ثم سينجب هذا المجتمع التعاون على البر والتقوى والتواضع لله تعالى، ثم التواضع لخلق الله تعالى ، وفي ذلك يقول الله تعالى :” ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا” (الإسراء 37).
8. وعندها عندها فقط ستجري الأخلاق الكريمة في منابت عود هذا المجتمع، وسيستحق عندها أن يدعو إلى وحدة الصف، وأن يتحلى بها ، وأن يدعو إلى قيم العطاء والتضحية والصمود والثبات والصدق والتحلي بها، وفي ذلك يقول الله تعالى :” وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا” (الإسراء 80) ، وحول هذا البيان القرآني يقول سيد قطب:” وهو دعاء يُعَلِّمُهُ الله لنبيه ليدعو به ولتتعلم أمته كيف تدعو الله وفيم تتجه إليه ، دعاء بصدق المدخل وصدق المخرج كناية عن صدق المرحلة كلها ، بدئها وختامها ، أولها وآخرها ، وما بين الأول والآخر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى