أخبار رئيسيةأخبار عاجلةعرب ودولي

قيس سعيّد في حرب تكسير العظام مع قضاء تونس.. مواجهة سياسية أم معركة استقلالية؟

اشتعل الجدل في الأوساط السياسية والحقوقية والقضائية في تونس بشأن استقلالية القضاء، في ظل ما يراه البعض من سعي الرئيس قيس سعيّد لهيكلة القضاء بينما يحذر فريق آخر من مخاطر تسييس السلطة القضائية.

وبعد أن لمّح إلى إمكانية حل المجلس الأعلى للقضاء في تونس، أصدر الرئيس قيس سعيّد مرسوماً بـ”وضع حد للمنح والامتيازات” المخولة لأعضائه (45)، وشدد على ضرورة “تطهير” القضاء. وكان قد سبق تلك الخطوة تصريح لسعيد اعتبر فيه القضاء “وظيفة من وظائف الدولة”.

والمجلس الأعلى للقضاء في تونس هيئة دستورية معنية بمراقبة حُسن سير القضاء واستقلال السلطة القضائية عن السلطتين التنفيذية والتشريعية. لكن منذ 25 يوليو/تموز الماضي، أصبحت السلطات الثلاث عملياً في يد الرئيس التونسي بعد أن اتخذ إجراءات استثنائية رفضتها غالبية الأحزاب في البلاد ووصفها البعض بأنها “انقلاب” على الدستور.

إذ كان سعيّد قد قرر فجأة يوم 25 يوليو/تموز الماضي إقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي، متولياً بنفسه السلطة التنفيذية، كما قرر تجميد اختصاصات البرلمان لمدة 30 يوماً، ورفع الحصانة عن النواب، وقرر ترؤس النيابة العامة، ثم قرر سعيّد تمديد تجميد عمل البرلمان لأجل غير مسمى.

 

متى بدأ القلق على استقلال القضاء؟

النقاش حول استقلالية القضاء في تونس اشتعل منذ أن أعلنت وزيرة العدل، ليلى جفال، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إعداد مشروع قانون يتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء، مما أثار حفيظة العديد من القضاة.

تصريح الوزيرة رأى فيه هؤلاء القضاة تدخلاً في الشأن القضائي، فيما قال الرئيس سعيد إن إعداد هذا المشروع سيتم بإشراك القضاة أنفسهم، لكنه شدد في أكثر من مناسبة على أنه لا يمكن أن يحل القضاة محل المشرعين.

وتطرق سعيد، في مناسبات عديدة، إلى القضاء، مشدداً على أنه “قضاء الدولة” و”مستقل لا سلطان عليه غير القانون”، و”لا طريق إلى تطهير البلاد إلا بقضاء عادل وفوق كل الشبهات”.

لكن انتقاد سعيد قبل أيام ما قال إنه “طول فترة التقاضي” في بعض الملفات، مشدداً على ضرورة “تطهير القضاء”، وهو ما سكب مزيداً من الوقود على النيران المشتعلة بالفعل حول استقلال القضاء في البلاد.

وقالت جمعية القضاة الشبان (غير حكومية)، عبر بيان في اليوم التالي، إن “إلغاء الفصول القانونية للمجلس الأعلى للقضاء وتعويضها بمرسوم رئاسي، يعد تمهيداً للقضاء الوظيفة الذي يتبع سلطة رئيس الجمهورية”.

وشددت على أن “كافة الهيئات الدستورية وأعضاء الحكومة ورئاسة الجمهورية تسند لموظفيها منحاَ هامة”، معتبرةً أن “سحب هذه المنح أو حل المجلس الأعلى للقضاء لا علاقة له بإصلاح القضاء”.

 

لا مساس بالقضاء في تونس

لكن أستاذ القانون الدستوري والمحامي رابح الخرايفي اعتبر، في حديث للأناضول، أن “مرسوم سحب الامتيازات من أعضاء المجلس الأعلى للقضاء قانوني واستند إلى الأمر 117 المستمد من الدستور”. وكان سعيد قد أصدر في 22 سبتمبر/أيلول الماضي، المرسوم الرئاسي رقم 117، وينص على إلغاء هيئة مراقبة دستورية القوانين، وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية، مما أثار اتهامات له بالسيطرة على السلطة التشريعية.

ومستنكراً، تساءل الخرايفي: “هل من مهام مجلس القضاء أن يضع منحاً ورواتب وامتيازات لأعضائه (؟!)”. وتابع: “لا أعتقد أن سعيد يريد عبر ذلك وضع يديه على القضاء، وهو في تقديري لا يستطيع فعل ذلك”.

ورأى أن “قرار المجلس منح امتيازات لأعضائه الحاليين فيه جانب أخلاقي غير مقبول، وهو قرار سياسي، فلا يمكن لأي هيئة أن تنتفع من قرارات (بخصوص الامتيازات) أصدرتها بنفسها”. واستطرد: “قياساً على المجالس النيابية، فإنه حين يتم وضع المنح فإنه لا ينتفع بها النواب المباشرون في هذه الفترة، وإنما المنح تهم المجالس القادمة”.

واعتبر الخرايفي أن “مرسوم سعيد لا يمس استقلال القضاء، وهناك تمترس من قبل عدد من القضاة وراء شعار ومبدأ استقلال القضاء الغرض منه ليس إصلاح القضاء، وإنما بقاء الوضع على ما هو عليه”.

وأوضح أن “هناك مسائل كان يُفترض على المجلس مراجعتها منذ تأسيسه في 2016، وأهمها القانون الأساسي للقضاء (لسنة 1967).. ست سنوات لم يتم خلالها تقديم مقترح لإصلاح القضاء، بل تم الاكتفاء بإصدار البيانات”، مضيفاً أن “تركيبة المجلس حزبية ونقابيّة جعلته يتحول من مؤسسة دستورية إلى نقابة مصلحية تدافع على مصالح القضاة، وبالتالي هناك حياد عن المهام. والمرسوم مس مسائل هامشية لا علاقة لها باستقلال القضاء”.

ووفق الخرايفي، فإن “ما يقوم به سعيد من فتح ملف فساد صعب يُحسب له وهو من الشجاعة، لأنه كلما حاول أحد الاقتراب من هذا الملف اتُهم بضرب استقلالية القضاء”. وتابع: “القضاة في عزلة وهم من تسببوا فيها، والقيمة الاعتبارية للقاضي تراجعت لدى الناس”.

وأعرب عن اعتقاده بأن “مجلس القضاء لن يُحل، وما سيقوم به رئيس الجمهورية هو تعديل للقانون أو إعادة هيكلة له أو تقليص عدد أعضاء المجلس”.

 

هل يهدد سعيد استقلال القضاء؟

أما القاضية والمستشارة لدى محكمة التّعقيب (النقض)، رجاء البجاوي، فقالت إن “القضاة متمسكون باستقلاليتهم وبالنأي عن كل التجاذبات السياسية”. وأضافت للأناضول أن “المجلس هيئة عمومية دستورية من هيئات الدولة وليست طرفاً في النزاع السياسي”.

واعتبرت أن “قرار تعيين قاضية على رأس وزارة العدل يعيدنا لرأس التجاذبات، خاصة أنها تتلقى التعليمات من الرئيس وفقاً للفصلين 17 و18 من المرسوم الرئاسي 117، وهو ما يتنافى واستقلالية القطاع”.

والفصل 17 ينص على أن “الحكومة تسهر على تنفيذ السياسة العامّة للدولة طبق التوجيهات والاختيارات التي يضبطها رئيس الجمهورية”، فيما ينص الفصل 18 على أن “الحكومة مسؤولة عن تصرفها أمام رئيس الجمهورية”.

وبشأن أزمة المنح والامتيازات، قالت البجاوي إنها “أُسندت بناء على ميزانية مجلس القضاء وأسندت له منذ سنة 2018، إذ لم يقع إعطاؤها لأعضاء المجلس بإرادة منفردة ولا بصفة خفيّة، بل تم نشرها بالمجلة الرسمية”.

 

وأردفت: “لا أظن أن 500 ألف دولار سنوياً (مجموع المنح) قادرة اليوم على حل أزمة تونس المالية والاقتصادية”، معتبرة أن “إلغاءها عقوبة مسلطة على المجلس؛ لأنه لم يساير السلطة السياسية في ضربها لخصومها السياسيين”.

ورأت البجاوي أن “مرسوم إلغاء المنح مدخل لحل المجلس، ولو كانت هناك رغبة في تطبيق سياسة التقشف، فيفترض أن تطبّق على كل القطاعات دون استثناء”.

البجاوي اعتبرت أن “سعيد يريد اليوم تركيع القضاء.. نحن سلطة تعمل في تناغم، وكل سلطة تراقب الأخرى”. ودعت سعيد إلى “تشريك القضاة لصياغة الإصلاح الهيكلي لقطاع القضاء. فلا يمكن إصلاح القضاء إلا بأبناء القطاع”.

وتابعت: “اليوم لدينا رغبة فعلية في الإصلاح، ولكن الفرق بيننا وبين السلطة القائمة هو تحديد مفهوم الإصلاح”. وحثت على ضرورة “تفادي الآثار الوخيمة التي قد تحدث، فنحن على وشك انهيار الدولة والسلطة القضائية هي آخر القلاع، ولا حديث عن استقلالية في دولة تُجمع فيها السلط بيد واحدة”.

والمعارضون يتهمون سعيد، الذي بدأ في 2019 فترة رئاسية تستمر خمس سنوات، بتعزيز سلطاته على حساب البرلمان والحكومة، فيما يقول هو إن إجراءاته الاستثنائية هي “تدابير في إطار الدستور لحماية الدولة من خطر داهم”.

وقالت البجاوي إنه “في حال استمر سعيد في سياسته تجاه المجلس، قد نسير للتصعيد، لحماية السلطة القضائية من التغول عليها، ولكن الدولة لا تتحمل اليوم هذا التصعيد”. وحذرت من أن “هناك تشويهاً لسمعة القضاة وترذيلهم من قبل الرّئاسة، وهو أمر خطير يفتح الباب للتصفية الجسديّة”.

وبعد مرور أكثر من 6 أشهر على إجراءات سعيد الاستثنائية، ارتفعت وتيرة الرفض الشعبي داخلياً والتحذيرات الدولية من خطورة الطريق الذي يصر الرئيس على المضي قدماً فيه على حاضر تونس ومستقبلها. ونشرت صحيفة Financial Times البريطانية افتتاحية الأربعاء 26 يناير/كانون الثاني عنوانها “رئيس تونس يقود البلاد نحو طريق خطير”.

ورصد التقرير ما يتعرض له المعارضون لانفراد قيس سعيد بالسلطة من ضرب بالهراوات والتفريق بمدافع المياه، والتحذيرات المتصاعدة من جانب منظمات حقوق الإنسان بشأن وتيرة الاستبداد المتصاعدة في البلاد، بعد أن كانت تونس رمزاً للديمقراطية ومهداً لثورات الربيع العربي قبل 11 عاماً.

وبينما يقول الرئيس إنه يريد تخليص البلاد من طبقة سياسية يصفها هو “بالفاسدة والساعية فقط إلى تحقيق مصالحها الخاصة”، إلا أن الأشهر الستة الماضية زادت الشكوك بأن قيس سعيد يريد إحكام قبضته على السلطة وإعادة البلاد إلى دكتاتورية رئاسية تشبه حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، الذي ثار التونسيون ضده أواخر 2010.

واللافت أن قيس سعيد فشل في تحقيق الإنجاز الأهم الذي تحتاجه تونس بشدة وهو خطة إنقاذ اقتصادي قابلة للتحقيق فوراً لمواجهة معاناة الشعب التونسي من البطالة وتدهور مستوى المعيشة، وهو الوعد الذي على أساسه قام سعيد بإجراءاته وانفرد بالسلطة بتحقيقه، بحسب الفايننشيال تايمز.

وكان موقع Responsible Statecraft الأمريكي قد تناول الموقف في تونس في أعقاب إجراءات سعيد الاستثنائية في تقرير بعنوان “قيس سعيّد يدخل في تحالفات إقليمية محفوفة بالمخاطر”، محذراً من عدم امتلاك الرئيس سعيّد لرؤية واضحة لمستقبل البلاد.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى