أخبار عاجلةمقالاتومضات

حديث ذو شجون

أسماء علي كريم

حين تأخذك السهوة عن الحاضرين إلى ذكرى أثيرة وعالم جميل، تتدافع في خاطرك مشاعر الشوق للأيام الخاليات، وتغترف مدامعك من سحابة الأيام معان جميلة ومعادن أصيلة، عندها يكون الحديث عنها حديث ذا شجون.

 

يا بقعة المسجد، هل ستشهدين؟

دخلت فتاة في الثلاثين من عمرها إلى مسجد حيّها القديم، وكانت قد تركته سنواتٍ طوال وأخذتها العوالم عنه ما بين دراسةٍ وأسفار وانتقال، فإذا بها تدخلهُ بعد أكثر من عشرة أعوام لتتجلى أمامها جلبةٌ لها دويّ صارخ في أذنيها، صوت يهز أوتار القلب والعقل؛ ويشدها نحو الطفولة الناغمة، حين كانت تجلس هاهنا أسبوعيا، تستمع للموعظة الاسبوعية في الدرس العام للنساء؛ فكانت هي وفتيات صغيرات غيرها يجالسن النسوة ولا يدركن كل المعنى المراد من الموعظة لحداثة أعمارهن؛ وصغر عالمهن، لكنهن صنعن هناك الطفولة المغطاة بسكينة المسجد وروحانية المجلس؛ هناك جلسن مستمتعات بالنور يتخلل القلب، وبالعلم يحاكي العقل وينسج خيوط الفهم؛ هناك صعدن على منبر الجمعة فوجدنه ميدان فخر ومسرح دعوة؛ فتشربت هذي المعاني في عروقهن حتى خالطت العظم واللحم؛ وكبرت معهن الأيام وتداولت بهن السنون؛ فإذا بالقدر يأخذهن إلى مصائر ومصادر أخرى؛ ولكنها تشتعل من نفس القبس وتهتدي بنفس النور؛. وفارقت الفتاة البقعة المباركة؛ جسدا ولكنها عشعشت في روحها ولما تنتزع منها؛ وبقيت منارا يثوب بها إلى مستقر شبيه ومجلس مثيل؛ حتى إذا ما قدّر لها الاجتماع ببقعة المسجد القديم، مسجد الطفولة، بعد تلك الأعوام، انتفضت روحها متهادية ذاكرة ربها كأنها لم تذكره من قبل؛ وتحركت منها العروق مناجية داعية كأنها تدعو باريها لأول مرة، وانبثقت من داخلها مشاعر غريبة، ترسم أحلى الذكريات، فيا بقعة المسجد هل ستشهدين غدا لنا عند مليك مقتدر؟

 

هل كبرت معك المكتبة؟

منذ نعومة الاظفار يجلس الصغار على مقاعد الدراسة، وتتقلب بهم الأيام فيكبرون سنة تتلوها سنة، فينالون العلم بملاعق من تعب ونصب حتى يشب بهم الطود عاليا إلى مقاعد الجامعات، وبين دفاتر الأيام تتكاثر الوظائف والمهمات البحثية حتى لطالب السنوات الأولى، فإذا أعد القوت للأيام الحالكات في رفوف الجامعات لم يجد مسغبة وقتذاك، وإن تكاسل عن جمع حبوب العلم من الكتب في أيامه الأولى جاع وظمأ وضل الطريق؛ فأنى لمن لم يزرع يوما ولم يحصد أن يدرك يوم البوار كيف تنتزع الأشواك والأحجار لتزدهر الأرض ويجني طيب الثمار؟

إن الأيام التي سبقت عصرنا هذا: (الذي هو أشبه بلعبة الأنامل على شاشات الجوالات وتتبع النظرات لأسطر الشاشات والفيس بوك والمراسلات…) كان عصرا حيويا للطلاب في المدرسة. لقد كانت التكاليف الدراسية كثيرة والوظائف البحثية كذلك تستدعي أن يستعير الطالب كتابا ليجد الجواب أو يمكث ساعات في مكتبة المدرسة أو في المكتبة العامة، ينقّب عن جواهر العلم كما ينقّب أهل المناجم عن الذهب الإبريز وكما يخترق الغواص لجج الأمواج بحثا عن الدر والياقوت الكامن في أعماق البحار، وكان الطالب يجد في هذا السعي لذة تستحيل نشوة عندما يجد الجواب، فيعود للبيت محملا بوسام الانتصار وفرحة الكشف والاستحواذ على حل المسائل المعضلات وفك قيود الرموز المشكلات، وهكذا تكبر الأنامل وتتتبع كتباً جديدة وتحل الوظائف العديدة وتنسج قصة فريدة وبحثا مادته تكونت من اجتماع قطرات من هنا وهناك، وتشهد لتعبه رائحة الغبار وعبير الصفحات القديمة الموجودة على رفوف المكتبات، تنتظر قارئا فاتحا ومهتما وراعيا مدركا وواعيا. إن هذه السلسلة من الأبحاث تكبر مع الصغير وتشب مع الوليد، فيزداد شغفه بالعلم والتعلم ويحبب إليه الخلوة بكتاب وإنجاز مهماته بذاته بجهده ودأبه على الكتب والصفحات، فلا يلوذ بجناب أحد يعينه أو ينسج أوراق بحثه عنه، ولا يهرب إلى استنساخ أبحاث إلكترونية أو فتات متناثرة في صفحات الانترنت التي لا تسمن ولا تغني من جوع، لا هي ثمرة بحث باحث، ولا هي ذات توثيق متين ومصدر أصيل، بل يكتفي بنسخ ما تيسر من المعلومات دون روية ولا مراجعة وربما لا يقرأ ما نسخ، فتكون الطامة حينها ليس في الإنجاز الفقير الضحل فحسب، بل في الادخار السالب الذي تراكم في نفس الطالب واخرس عنده كل رغبة للبحث وكل شغف بالقراءة وكل همة للذهاب إلى المكتبات، وأصم عنده المدركات للفهم والاكتساب وأمات فيه الرغبة في العلم، فتموت مكتبته قبل أن تبلغ الحلم ويكبر هو بلا قلب هُمام ولا روح دافعة ولربما نال الشهادات وتخرج من الجامعات، لكن شتّان بين من يحمل شهادة وفي نفسه تسكن الكتب والمكتبات، وبين من يحمل شهادة وباطنه خواء. فهل كبرت معك المكتبة؟

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى