أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

الذاتية الأسرية الإسلامية والحفاظ على الهوية هي القضية (4)

د. محمود مصالحة

ولمّا كانت الذاتية الأسرية هي اللبنة الأولى في بناء المجتمعات الإسلامية المُكَوِنَة للأمة، فبناء الذاتية الأسرية على بِرِّ الوالدين هي  تحصين الأسرة المسلمة وتماسكها وحمايتها من التفكك والضياع خاصة في هذا الزمان، ولأهمية هذه الذاتية في بناء المجتمع والأمة، قد قُرن برِّ الوالدين بتوحيد الله، حيث جاء في قوله تعالى: “وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا”. سورة الاسراء:23، 24.

وعُطف الأمر بالإحسان إلى الوالدين على الأمر بعبادة الله لأن الله هو الخالق، فوحده المستحق للعبادة لأنه أوجد الناس وأوجد الموجودات كلها. ولمّا جعل الله الأبوين سبب إيجاد الأبناء أمر بالإحسان إليهما، فالخالق مستحق العبادة لغناه عن الإحسان، ولأن العبادة إقرار بالإلهية، وهي أعظم الشكر على منَّته سبحانه، والوالدان سببُ وجود الأبناء دون الخَلْق، فهما يستحقان الإحسان لا العبادة، لأنهم محتاجون إلى الإحسان دون العبادة، ولأنهما ليسوا بالمُوجِدين الحقيقيين لكون الموجِد الحقيقي هو الخالق جل جلاله الذي جبل الوالدين على الشفقة على ولدهما، فأمر الولد بمجازاة ذلك بالإحسان إلى أبويه، (ابن عاشور).

ومع الوصية الربانية في تكوين الذاتية الإسلامية الأسرية، قال تعالى: “وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ”. الأحقاف: 15. إنها وصية الله تعالى للأبناء أن يبروا آباءهم والإحسان إليهم لما لهم من حق الحمل، والوضع، والرضاعة، والعناية والرعاية حتى بلغ أشده أربعين سنة، تعود تلك الثمرة التربوية بشكره لله على نعمه العظيمة، ثم يدعو الله تعالى أن يكرمه صالح الأعمال، وأن يرزقه الذرية الصالحة.

قال القرطبي: في هذه الوصية سبع مسائل: نذكر منها: الأولى: قوله تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا بيّن اختلاف حال الإنسان مع أبويه، فقد يطيعهما وقد يخالفهما، أي: فلا يبعد مثل هذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم وقومه حتى يستجيب له البعض ويكفر البعض.

الثانية: قوله تعالى: والإحسان خلاف الإساءة.

الثالثة: قوله تعالى: حَمَلته أمه كرها ووضعته كرها أي: بكره ومشقة إن الكره بالضم ما حمل الإنسان على نفسه، وبالفتح ما حمل على غيره، أي: قهرًا وغضبًا.

الرابعة: قوله تعالى: وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا، قال ابن عباس: إذا حملت تسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهرًا. قال الله تعالى: وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا، وقال تعالى: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين، فالرضاع أربعة وعشرون شهرًا والحمل ستة أشهر، والفصال الفطام، وأرضعته إحدى وعشرين شهرًا.

الخامسة: قوله تعالى: حتى إذا بلغ أشده قال ابن عباس: أشده ثماني عشرة سنة. وقال في رواية عطاء عنه: إن أبا بكر صحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة والنبي فلما بلغ أربعين سنة قال: رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ، الآية. وقال الشعبي وابن زيد: الأشد: الحلم. وقال الحسن: هو بلوغ الأربعين.

السادسة: قوله تعالى: قال رب أوزعني أي: ألهمني. أن شكر نعمتك عليّ أي: ما أنعمت به عليّ من الهداية وعلى والدي بالتحنن والشفقة حتى ربياني صغيرا. وقيل: أنعمت عليّ بالصحة والعافية وعلى والديّ بالغنى والثروة.

ولننظر إلى روعة التميّز الحواري لإبراهيم عليه السلام لأبيه آزر، محاولاً هدايته فقال تعالى: “إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا” 42″ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا “43” يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا “44” يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا” مريم: 45، فما أرقى حسن الأدب الحواري، وبراعة الابن إبراهيم مع أبيه الكافر بنداء الرقّة الحُنوِّ المملوءة بالوقار، به يردد الابن إبراهيم بلفظ نديٍّ محبب “يا أبتِ”؛ وكرَّرَ نداء الأبوة لحثه على الاصغاء، بحنانه الفياض، بقوله “يا أبتِ”، ثم انتقل إبراهيم  عليه السلام  إلى منحى آخر؛ فبيَّن لأبيه ما يمتلكه من القدرات المعرفية والعلمية الإيمانية، ليستميل ثقته بكلامه، حتى وإن كان مغايرًا ومخالفًا لمعتقداتهم، مؤكدًا بقوله: “إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ” بـحرف: “إنَّ” وحرف “قد” مع الفعل الماضي “جاءني” مفصحًا عما جاءه، “من العلم”، في تقديمه لأباه علمًا عقديًا بديلًا لما هو عليه من الجهل بالحقيقة الكبرى، وهي وحدانية الألوهية، ولكنَّه استمر في أدب بارعٍ في الحوار، في تلميح خفيّ أن جهل أبيه هو الذي سيرديه في تلك المهالك، وبين حرصه وخوفه عليه من أن يتعرض ولو لمس من عذاب الله تعالى.

وخلاصة القول: لابد من هذه الوقفة التحليلية، ليتفكر المسلم بهذه الذاتية الإسلامية الفردية الحوارية البارعة في ابتكار غير مسبوق من أساليب أدب الحوار بين الأنبياء وآبائهم وأقوامهم، ولا بد للأبناء والآباء والمربين وحتى أصحاب النظريات الفلسفية التربوية أن يقفوا مليًا عند هذا الحوار القرآني في إبراز الذاتية الإسلامية للرسول الابن إبراهيم عليه السلام، واستخلاص الدروس والعبر وأساليب التربوية في بناء الذاتية الفردية الأسرية الإسلامية على القيم الإيمانية العظيمة التي وردت في الآيات، لذلك لا انطلاق للذاتية الإسلامية إلا ببنائها على المنظومة القيمية الإسلامية كقيمة العبودية، والرحمة، وشكر النعمة، والإحسان، والرفق، والعمل الصالح، والأخوة، والعدل، والعلم، فهي قيم غاية في الأهمية في بناء الذاتية الفردية والأسرية والمجتمعية، وخاصة في أيامنا هذه، فالأسر بأمسِّ الحاجة إليها لكونها ستفضي إلى التماسك الأسري الذي لا يتأتى إلا بالذاتية الإسلامية الفردية والأسرية.

من “كتاب الذاتية الإسلامية ودورها الرائد في بناء الحضارة الإنسانية، ص41-44” د. محمود مصالحة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى