أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

انطلاق الذاتية الإسلامية بالثبات على الهوية هي القضية (3)

د. محمود مصالحة
متميزة هي الذاتية الإسلامية في ثباتها على الإسلام عقيدة وشريعة، وتربية، فهي الأصيلة بقيمها الربانية، ضاربٌ أصلها في أعماق التاريخ الإنساني، وُجِدَتْ لتُحيي البشرية بمشروع الخيرية، متجاوزة الماضي إلى الحاضر، وتتقدم نحو المستقبل بقيمها القرآنية السماوية، لتُبدد ما علق من ظلام فلسفات الحداثة، وما بعد الحداثة الغربية بالعدالة الإسلامية، وللناس كافة تحمل قيمة الرحمة، وبنور الوحي الإلهي تستعلى على الطغيان المادي، ولكن فلا يُصلح بناء الذاتية الإسلامية الفردية والجماعية إلا بالعقيدة، ولقد وصف الله ذاته، العليّة في سورة الإخلاص بخالص التوحيد، وقد تجلَّى وضوح الذاتية الإسلامية في ذاتية ابراهيم عليه السلام قال تعالى: “إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ” سورة البقرة:131، أي أخْلِص لي العبادة واخضع لي بالطاعة، فكان جواب ابراهيم عليه السلام:” أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ” فإن الدين جوهره الإستسلام لله والخضوع له، إنها الذاتية الثابتة القوية التي لم تتردد، فوصى بها ابراهيم بنيه ويعقوب، لقوله تعالى:” وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ” سورة البقرة: 132، وبذلك تنتفي الذاتية الإسلامية ممن يُعرض عن ملة ابراهيم عليه السلام، ملة الإسلام، لقوله تعالى:” وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ” سورة البقرة 130.
إنها ذاتية الأنبياء من لدن آدم عليه السلام إلى سيد الأنبياء والمرسلين- محمد صلى الله عليه وسلم- فالغاية الكبرى من القصص القرآني لسِيَر الأنبياء، وخاصة سِيَر أولو العزم من الرسل، ليست للتلاوة وطلب الثواب فحسب؛ وإنما هي لبناء الذاتية المؤمنة في مدرسة الثبات الإسلامية، ولقد كان الاصطفاء والرعاية الربانية تربيًة إلهية وتصويبًا للذاتية النبوية -صلى الله عليه وسلم- في خطاب الله تعالى للنبي- صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين، حيث قال:” كُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ” سورة هود:120، في ما يواجهه من عقبات في طريق الدعوة إلى الله تعالى، ولقد واجه النبي- صلى الله عليه وسلم- صناديد قريش المستخدمين في حربهم النفسية، السخرية والاستهزاء به وأوذي فصبر- صلى الله عليه وسلم- على ما أوذي، إنه معلم البشرية، في مدرسة التربية والثبات الإيمانية في بناء ذاتية خير جيل عرفته البشرية، وفي خطاب الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم، في معركة الثبات على طريق الحق، قال تعالى:” وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ” سورة الأنعام: 34، قال الطبري: “إن يكذبك، يا محمد، هؤلاء المشركون من قومك، فيجحدوا نبوّتك، وينكروا آيات الله أنّها من عنده, فلا يحزنك ذلك، واصبر على تكذيبهم إياك وما تلقى منهم من المكروه في ذات الله، حتى يأتي نصر الله، فقد كُذبت رسلٌ من قبلك أرسلتهم إلى أممهم، فنالوهم بمكروه، فصبروا على تكذيب أقوامهم إياهم، ولم يثنهم ذلك من المضيّ لأمر الله الذي أمرهم به من دعاء قومهم إليه، حتى حكم الله بينهم”، وقال تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونِ” سورة الأنبياء:41 في ما يواجهه المؤمنون من ملمات على طريق الدعوة إلى الله عز وجل، لقوله تعالى:” يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ” سورة ابراهيم:27، ثم يتقدم أبو بكر الرجل الأول بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليبدع في قيادة الأمة بثبات وذاتية قوية يتحدى بها الصعاب فيواجه أخطر عملية تمردٍ للقبائل في الجزيرة العربية، بردتهم وانقلابهم على أصول الدين وثوابته، وكان لها أبا بكر رضي الله عنه، فوقف موقفًا غاية في الصلابة في اعلانه الشهيرٍ قائلا: ” أيَنقُصُ الدِّينُ وأنا حي؟”، لا، لن ينقص الدين بذاتية كذاتية أبي بكر إذا أراد خلع الجبال لخلعها، إنها لمقولة تتزلل لها الجبال، ثم أقسم بالله قائلًا: “واللهِ لَأُقاتِلَنَّ مَن فرَّق بيْنَ الصَّلاةِ والزَّكاةِ؛ فإنَّ الزكاةَ حَقُّ المالِ”؛ وقال رضي الله عنه: “واللهِ لو مَنَعُونِي عَنَاقًا كانوا يُؤَدُّونها إلى رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَقاتَلْتُهم على مَنْعِها “، فجيَّش أحد عشر جيشًا، وقضى على دابر المرتدين ودعوات الكذابين، ثم أمر الجيوش الإسلامية فانطلقت لتحرير بلاد الشام والعراق من براثن الاستعمار الروماني والفارسي المجوسي، إنها الذاتية الإسلامية التي تخرجت من مدرسة الثبات الإيمانية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد عرفت سبيلها فبادرت لتحقيق الغاية التي وُجدت وأُخْرِجَت من أجلها، فانطلقت لتستبدل ظلم الظالمين بترسيخ قيم الرحمة وعدالة الإسلام ونور الإيمان الإلهي، حينما أمر أبو بكر الصديق خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائد جيوشه خالد بن الوليد بالتوجه إلى العراق لمواجهة جيوش الفرس، وطلب خالد أن يمده بجنود إضافيين من المسلمين بعد أن استشهد عدد كبير من أفراد جيشه في حروب الردة. فأمده أبو بكر بالقعقاع بن عمرو التميمي، وما أدراك ما القعقاع!، فقيل له: أتمُدَّ رجلًا انفضَّ عنه جنوده برجل؟ فقال أبو بكر: لا يُهزَم جيش فيهم مثل هذا، إنه هو الصحابي الجليل القعقاع ابن عمرو التميمي، نعم هو سؤال يطرح، أيكفي القعقاع ابن عمرو؟ هو ليس اعتراضًا على القعقاع من خالد رضي الله عنهما، ولكن الجواب عند الماديين لا يكفي، لأن عقولهم حُجرت في المادة، ومن أجل المادة يعيشون، ولكن في الميزان الإيماني الأمر فوق المادة، فالقعقاع بن عمرو التميمي بألف رجلٍ، وهو الذي قال عنه أبابكر:” لصوت القعقاع بن عمرو في الجيش خير من ألف رجل” إنها ذاتية هذا الصحابي الجليل التي تخرَّجت من مدرسة الثبات الإسلامية المحمدية صلى الله عليه وسلم، وقد أبدعت في حروب الردة واليرموك والقادسية وغيرها.
خلاصة القول: إن رحمة الله بالبشرية تجلّت بإيجاد الذاتية الإسلامية التي أخرجها من جزيرة العرب لتؤدي دورها الإنساني، في عملية تغييرية عقدية، وتشريعية، واجتماعية، وثقافية، وفكرية، لتقود البشرية في صناعة التاريخ الحضاري المغاير لواقع الظلم والاستبداد، فانطلقت الذاتية الإسلامية وانتزعت زمام المبادرة فصنعت الأحداث، وحملت مشروع الخيرية إلى البشرية، لتحرر النفس الإنسانية من عبودية الإنسان والهوى، والاستبداد، وطغيان العلمانية المادية الإلحادية، إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، هكذا قادت الذاتية الإسلامية بكل قوة وثبات، في أعظم مهمة سجَّلها تاريخ البشرية حينما قدَّمت حضارة متكاملة وها هي تتقدم وتُقدِم، فأبدَعت في شتى الجوانب الحياتية وخاصة العلمية، وها هي تُبدِع في الحالة التركية الماثلة أمامنا، في الجوانب المادية العلمية والتقنية، والسياسية، والفكرية؛ إنها الذاتية التي تربت في خير مدرسة، مدرسة الثبات النبوية، ماضية لا تقيل ولا تستقيل. أما آن للمسلمً الذي يترنح بلا إسلام، وشكل بلا مضمون، وبه تعصف الرياح الفكرية المادية العلمانية، ـوالوساوس النفسية، فلا قرار له ولا استقرار، أما آن له أن يأخذ من تاريخ الأمة وماضيها الحضاري المشرق، لحاضره، وبه ينطلق للمستقبل بثبات ذاتيته الإسلامية بعد كبوة عشرات العقود من الحالات المرضية من تخلفٍ، وتبعيةٍ، واستبداد أفرزتها القيادات العِلمانية القومية التي تحكم الشعوب العربية الإسلامية بالوكالة، ليسابق بها الزمن نحو السيادة، والريادة، والقيادة العالمية للبشرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى