أخبار عاجلةمقالاتومضات

انطلاق الذاتية الإسلامية بالثبات على الهوية هي القضية (2)

د. محمود مصالحة
بكل تأكيد بأنَّ الإنسان بذاته هو الأصل الأصيل في صناعة التاريخ وبناء الحضارة الإنسانية، ولكن الإنسانية تحتاج إلى ذاتية تمتلك منهجية عقدية وفكرية وعلمية تعصمها من الأمراض البيئية البشرية كالتبعية الفكرية والثقافية، لتُبدع في كتابة وصناعة الحدث باستقلالها العقدي والفكري والقيمي الذاتي، فماهي الذاتية إذن؟ سؤال لا بد من الإجابة عليه لننطلق، فنبدأ بعريف مفهوم الذاتية الاصطلاحي: فالذاتية من الذات، والذاتي هو القائل بالذاتية، أما الذاتية من المنظور السياسي: فالنظريّة السياسيّة تقول: بأن لكلِّ جماعة سياسيّة الحقّ في تقرير مصالحها والتَّمتُّع بالاستقلال، بصرف النَّظر عن مصالح الجماعات التي تفوقها عددًا وشأنًا.
أما مفهوم الذَّاتيَّة في علم النفس: فهو المرء الذاتي، ويشمل الذاتية، وفيها تحديد أو تعيين الصِّفات الشّخصيَّة والقيمة الحقيقيَّة للنَّفس”.
ويقول عبد الوهاب المسيري: “ينسب الذاتي إلى الذات، بمعنى أن ذات الشيء هو جوهره وهويته وشخصيته، تعبر عما به من شعور وتفكير، والعقل أو الفاعل الإنساني هو المفكر وصاحب الإرادة الحرة، ويُدرِك العالم الخارجي من خلال مقولات العقل الإنساني ”
قال كانط: “فعندما أحاول معرفة ذاتي أجدني مضطرا للانطلاق من ذاتي، وأوظف ما كنت أعرفه مسبقا عن نفسي لمعرفة نفسي…وقال: “ومن خلال التفاعل مع العالم الخارجي والطبيعة، من خلال التجربة وتراكم المعلومات الحسية تصل الى معرفة واكتشاف القوانين الطبيعة وتبنى لذاتها (المقولات العقلية) التي من خلالها تحكم على كل الادراكات الجديدة المرافقة لعملية الحياة…ولا يمكن معرفة أي شيء بدون الحواس، حيث إنها البوابات الوحيدة لنقل المعرفة على شكل إشارات أو أحاسيس الى داخل الذات.”
ويقصد بمفهوم الذات: نفس الفرد وقلبه وعقله ووعيه، وما لديه من خصائص قيمية وصفات خلقية، وادراكه لهويته الفردية وشخصيته التي بها يتفاعل مع محيطه ومخاطبة الغير.
ونعرف الذاتية الإسلامية: بأنها النفس والقلب وما انعقد فيه من قواعد الإيمان، والعقل وما يصدر عنه من الفكر الإسلامي المستقل، وهي ثقة بالنفس، ذات الشخصية الذاتية المستقلة بقيمها وثقافتها، فلا اعتماد إلا على ذاته بصفاتها وخصائصها الإسلامية. فبها يعمل على تحسين إمكانياته بالاكتفاء الذاتي أكان في المجال الفكري أو المادي، وعلى الصعيد الفردي فهو صاحب الشخصية المستقلة الحرة فهي غير تابعة للغير.
وأما الذاتية الجماعية الإسلامية: يُقصد بها ذات الجماعة وجوهرها صاحبة الذاتية والشخصية والهوية الثقافية الجماعية المستقلة بصفاتها الخلقية وقيمها الاجتماعية، التي تعتمد على ذاتها، وتمتلك الإمكانيات والقدرة الجماعية في اتخاذ الرأي والقرار الموحد الذي يخدم أهدافها طموحاتها ويحقق رغباتها ومستقبلها بما تكتسبه من مفاهيم وسلوكية وأنماط حياة المنبثقة من منهجها الإسلامي العقدي، والثقافي، والتربوي، والتعليمي والفكري، فتحقق اكتفاءها الذاتي لضمان سلامة أمنها الغذائي، ووحدة صفها، ورد من أراد النيل منها.
والذاتية الإسلامية الفردية والأسرية والجماعية ذات الخصائص والصفات المستمدة من التوجيهات القرآنية، ومن هديه صلى الله عليه وسلم، التي تُسيَّر الشؤون الحياتية للجماعة وفق قاعدة الاستدراك وتصويب احكام الشريعة الإسلامية، في سيرها على صراط الله المستقيم، فالرسول صلى الله عليه وسلم حظي بالاصطفاء الرباني القرآني، وبصفاء المنهجية العقدية والتشريعية والتربوية، وربى عليها خير أمة أخرجت للناس، صحابته الكرام، فكانت هي المادة التغييرية في الحياة البشرية، وقد أخذها التابعين أخذًا بالعلم بالدعوة وارشاد الناس، كذلك في مواجهة ما يطرأ من أحداث تستدعي معالجتها.
الذاتية الإسلامية تحتاج للتَّحصين بصيانتها من أدران الشرك على قاعدة “الولاء والبراء” التي نستنبطها من الآية الكريمة التي وردت في قوله تعالى” :وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ” الزخرف 26-28 ، “وإذ” تعني: أُذْكر يا محمد قول أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام في عقيدة الولاء والبراء، والبراء معروف، وأصل ذلك يرجع إلى مفارقة الشيء، فهنا فارق ابراهيم عليه السلام قومه عبدة الأوثان في الله ولله، متوجها لعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان.
“والكلمة التي جعلها باقية في عقبه كلمة التوحيد وهي “لا إله إلا الله” أي: جعلها دائمة وباقية في ذرية إبراهيم -عليه السلام- وهذا قول” ابن عباس وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وغيرهم في قوله تعالى: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ يعني: لا إله إلا الله، لا تزال في ذريته تذكر”، أي أن ذرية ابراهيم -عليه السلام- وهم المسلمون وهي كلمة التوحيد أصل المنهج الإسلامي، لا يزيغون عنها متميزون عن غيرهم بذاتيتهم الإسلامية.
ونقطة الإعجاز هنا أن ذاتية الأمّة الإسلامية استطاعت بما تمتلك من المخزون الفكري والقيمي والعلمي المستمد من التوجيهات القرآنية والهدي النبوي الشريف، مستقلة بذلتها بعيدًا عن التبعية للغير، أن تنطلق في صناعة التاريخ، وأن تتقدم فتقدِّم صورًا من الإبداع الحضاري المادي للبشرية، حيث سابقت الذاتية الإسلامية الحضارية غيرها في البحوث العلمية، وكُثُر هم علماء الغرب الذين أشادوا بذاتية الأمة الإسلامية انصافًا لها، لكونها سبب انطلاق النهضة العلمية الحضارية المعاصرة، ولا تزال الذاتية الإسلامية تحتفظ لنفسها من القدرة بما تمتلك من عوامل السبق الحضاري على الساحة العالمية، فها هي بواكير انبعاث الذاتية الإسلامية بقدرتها الحضارية، قد برزت على الساحة العالمية من جديد، وعلى سبيل المثال: الدولة التركية المسلمة اليوم ترفع من شأن ذاتية الأمّة الإسلامية، وتتقدم حتى باتت تنافس دول العشرين على الصعيد الاقتصادي والتقني والعلمي، رغم ما تواجهه من معيقات داخلية وخارجية، بعد كبوة عقود سببتها الحالة المرضية المتمثلة بالقومية العلمانية وأنظمة الحكم الإقصائية الفاسدة، التي تعرضت لذاتية الأمّة الإسلامية بالبطش والإقصاء، حيث عملت على تأخر انبعاثها الحضاري، إنها حالات مرضية فكرية قومية، واشتراكية، وليبرالية ثقافية علمانية، أقامها الغرب المستعمر وأشرف على إدارتها لأنظمة الحكم القومية الوظيفية للشعوب العربية والإسلامية، وفق الرؤية المصلحية الاستعمارية، فتم صناعة هذه الأنظمة القومية العربية الوظيفية، ومن أهم أهداف تلك الأنظمة، إحباط انطلاق الذاتية الإسلامية صاحبة مشروع انبعاث الأمة من جديد، لمنعها من أخذها زمام المبادرات الريادية والقيادية للأمم.
وخلاصة القول: إن انطلاق الذاتية الإسلامية الفردية والجماعية، على صعيد شعوب الأمة الإسلامية، يحتاج إلى التغلب على تلك الحالات المريضة الفكرية العلمانية، بمختلف مشاربها التي حجرت عقليتها على التبعية الوظيفية للمستعمر، فكانت هي سبب هذا التخلف الحضاري الذي يعتري الأمّة الإسلامية على مدار سبعة عقود أو يزيد، لذلك فإنّ شفاء هذه الذاتية العلمانية من أمراضها الفكرية الاستعمارية مرهون بنبذ فكرها العلماني، وركل ثقافته الحداثية الغربية، والتخلص من جاهلية تلك الثقافية الدونية، والعودة إلى أحضان الأمة، فالأمر الذي يستدعي أخذ وجبات ضرورية من المفاهيم القيمة العقدية والتربوية والثقافة والفكرية الإسلامية، لتنطلق الذاتية الإسلامية الحضارية نحو القيادة والريادة على الصعيد العالمي.
ولربما اشفاء الذاتية المريضة يحتاج لعملية جراحية يُستأصل فيها حبل السرة الموصول بالدول الغربية الاستعمارية، لتنطلق الذاتية الإسلامية من جديد مستقلة بالقوة فكرية الإبداعية في البناء الحضاري.
وبالتالي فإن ما يصيب الإنسان المسلم من أمراض حضارية تؤثر بطريقة جوهرية على المستوى الذي تستطيع به هذه الحضارة أن تستجيب للتحدِّيات البيئية أو البشرية.
رابط الموضوع
وعندما جاء الإسلام سار على الدرب، فكان هو أيضًا ﴿ فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ (الروم:30)، ونجح هذا الدين العظيم في مناهجه التاريخية، فقدم إنسانًا متكاملاً، وقدَّم من خلاله حضارة متكاملة أبدَعت في شتى الجوانب – روحية، أو عقلية، أو مادية – والأهم أنه قدَّم هذه الحضارة المتعددة الجوانب على نسَقٍ “توحيدي”، يَفرض نزعته “التوحيدية” على كل صورة إبداعية من إبداعات هذه الحضارة؛ فنية، أو علمية، أو روحية.
إن الأصول الروحية والمادية التي قامت عليها هذا الحضارة، ظلت ماثلة في كِيان المجتمع الإسلامي في إبَّان عصره الأول والوسيط، ولا تزال ماثلة في عصره الحديث بدرجة متفاوتة، لكنها موجودة وكاملة على مستوى التنظير على الأقل
بما أنَّ السنة مكمِّلة للقرآن وشارحة له، بل هي الدليل العملي على إمكانية تطبيق مبادئه، والعملُ بها هو عملٌ على حفظ كيان الإسلام وعلى تقدُّمه، كما أنَّ هدمها هدمٌ للهيكل الذي قام عليه صرْح الإسلام،
عندما فقَد المسلم صِلته بروح الإسلام وبحياة الرسول – صلى الله عليه وسلم – ذهَب يهبِط في سُلَّم الحضارة، فكان أن فقَد قدرته على الالتزام والانضباط، وكانت هذه هي الفرصة السانحة؛ لكي تنتشر بين أفراده ألوان من “التواكُلية” و”السذاجة” و”القدرية”، والبعد عن استيعاب سنن الله الكونية وسُنن الله في الاجتماع البشري، وقوانينه في التقدم والتخلف.
وليس من شكٍّ أن المسلم في العصر الحديث يقف على مُفترق طرق؛ حيث تتخايَل أمام عينه وقلبه آراءٌ وتيَّارات ذات مضامين خلاَّبة، وذات بريق ساحرٍ، وأنه لن يستطيع طويلاً أن يظلَّ هكذا مائلاً هناك تارة، ومائلاً هنا تارة أخرى، كما أنه لا يستطيع أن يظل هكذا مسلمًا بلا إسلام، أو شكلاً بلا مضمون؛ “لقد انقضى نومه السحري الذي دام أجيالاً، فيجب أن ينهض أو يموت”، “وإن المشكلة التي تواجه المسلم اليوم هي مشكلة مسافر وصَل إلى مُفترق الطرق، إنه يستطيع أن يظلَّ واقفًا مكانه، ولكن هذا يعني أنه سيموت جوعًا، وهو يستطيع أن يختار الطريق التي تَحمل فوقها هذا العنوان “نحو المدنية الغربية”، ولكنه حينئذ يجب أن يودِّع ماضيه إلى الأبد، أو أنه يستطيع أن يختار الطريق التي كتب عليها “إلى حقيقة الإسلام”، لكنه في هذه الحال لا بد أن يعود إلى روح الإسلام الحية الفاعلة الإيجابية، وأن يَترك للإسلام فرصة الاستيلاء على كِيانه كله، وإلا فإنه لا زال واقفًا في منتصف الطريق.
وإن نقطة الإعجاز في الحضارة الإسلامية أنها استطاعت – مع طبيعتها هذه – أن تمشي في التاريخ، وأن تقدِّم صورًا من الإبداع الحضاري المادي، لا تقل عن أي حضارة أخرى سبَقتها، أما عطاؤها في “الإنسانيات”، فهو فريد في الحضارات كلها.
ولا تزال هذه الحضارة وستظل قادرة على أن تعطي، ولعل ما يجري على الساحة العالمية الآن من بوادر الانبعاث، أكبرُ دليل على القدرة الذاتية لهذه الحضارة الفريدة في التاريخ
ودعامة ملء هذا المسلم بالإسلام الصحيح الحي الذي يَملأ عليه دنياه ويَصوغ له حياته، ويغني كل طاقاته عن البدائل المطروحة في ساحة الأفكار والفنون والآداب، والتصورات الأخلاقية، والكونية والجمالية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى