أخبار عاجلةمقالاتومضات

أيّهما نختار: لأقعُدَنّ أم لأغفِرَنَّ

سوسن مصاروة

كانوا يعبدون الأصنام، انتماؤهم للقبيلة، الحكم بالقوة وللقويّ لا للحق، الجري وراء الشهوات والهوى والملذات، وأد البنات، شرب الخمور، استباحة الحرمات والوقوع في المعاصي دون خوف من أحد، القتل بغير حق، منع المرأة حقوقها… وأشياء أخرى كثيرة لا يتسع المجال لذكرها. ولكن هل بقيَ الوضع عندهم على هذا؟ هل استمرت فوضى الجاهلية الأولى؟

لا … إنما جاء الإسلام ليتحرر البشر من هذا الظلم كما قال ربعيّ بن عامر عندما سأله رستم: ما الذي جاء بكم؟ قال: الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

تمامًا كالفوضى التي نعيشها في القرن الواحد والعشرين، وصدق الشهيد الحيّ حين وصف هذا المجتمع بقوله: (هذه البشرية المنكودة تتخبط في تصوراتها وأنظمتها وأوضاعها وتمزقها كالمهووس تتشنج في حركاتها وتتخبط كالممسوس وتصرخ من الألم وتجري كالمطارَد وتضحك كالمجنون وتعربد كالسكير وتبحث عن لا شيء، تجري وراء خيال، تقذف أثمن ما تملك، وتحتضن أقذر ما تمسك به يداها من أحجار وأوضار.. وحول هذه البشرية زُمرة من المنتفعين بهذه الحيرة الطاغية وهذا الشرود القاتل. زمرة من المرابين وصانعي الأزياء ومنتجي الأفلام والصحفيين والكتّاب الذين يهتفون لها بالمزيد من الصراع والتخبط والدوار، كلما تعبت وكلَّت خطاها ظهرت زمرة تهتف لها، التطور، الانطلاق، التجديد بلا ضوابط وبلا حدود، لم تنجُ بقعة من الأرض من العفن والانحلال…).

ماذا فعل القرآن حين نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، حتى غدا العرب خير أمة أُخرجت للناس؟ ماذا فعل في هؤلاء حتى أصبحوا قادة العالم؟، وماذا فعلنا حتى أصبحنا في ذَنَب العالم، في الحضيض؟

القرآن هو القرآن، لم يتغيّر ولم يتبدل، السُنّة هي السُنّة لم تتغيّر، ما الذي يجري إذًا؟

لماذا انتفعوا هم ولم ننتفع نحن؟

لقد استقى ذاك الجيل من نبعٍ صافٍ، هو القرآن، ولم يستقوا من غيره، ويدلنا على ذلك غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما رأى في يد عمر بن الخطاب رضيَ الله عنه صحيفة من التوراة، فقال له: والله لو كان موسى حيًا بين أظهركم ما حلّ له إلا أن يتبعني. مع العلم أنه كانت حضارة الرومان وثقافتها وكتبها وقانونها وكانت حضارة الفرس وشِعرها وأساطيرها وعقائدها، وكانت حضارة الهند والصين، وكانت اليهودية والنصرانية، لم يكن حينها فقر في الحضارات والثقافات لكن هو منهج رسول الله عليه الصلاة والسلام، بأن لا يربي الجيل الأول إلا على نبعٍ صافٍ لتخلص نفوسهم لله ويستقيم عودهم على المنهج الصحيح ليكون خالص القلب والعقل والتصور والشعور والتكوين.

تربى هؤلاء على السمع والطاعة، قال تعالى: “يا أيها الذين امنوا أطيعوا الله والرسول”، وقال: “فاتقوا الله ما استطعتم وأطيعوا”، وطاعة الله تكون بأتباع أوامره واجتناب نواهيه وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم تكون باتباع سنّته.

كلنا قرأنا السيرة المطهرة وقبل ذلك قرآنا القرآن ولكن قليل من يتدبر ويتفكر ويأخذ بالنتائج.

شُرب الخمر في الجاهلية كان أمرًا طبيعيًا، حتى القرآن لم يحرِّمه إلا بالتدريج، فكيف تلقى الصحابة هذا الخبر؟ قال تعالى: “يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبير ومنافع للناس”، فقالوا: “يا رسول الله دعنا ننتفع بها كما قال تعالى”. فسكت صلى الله عليه وسلم، ثم نزل قوله تعالى: “لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى”، فقالوا: “يا رسول الله نشربها ولكن ليس عند قرب الصلاة. ثم نزل قوله تعالى: “يا أيها الذين امنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون، إنما يريدُ الشيطان ان يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل انتم منتهون”. فماذا كان ردّ الصحابة رضي الله عنهم؟ هل قالوا ننتهي عندما نشرب ما عندنا من خمور؟ لا والله إنما قالوا على الفور انتهينا ربنا انتهينا، طاعة لله، لأنهم تربوا على ذلك.

ويحدثنا أنس رضي الله عنه يقول: ( كنت اسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبيّ بن كعب من فضيخ زهو وتمر فجاءهم آتٍ فقال إن الخمر حرمت. فقال أبو طلحة: قم يا انس فاهرقها. فأهرقتها) وفي رواية: حتى أهرقنا الشراب وكسرنا القلال…).
هذا هو منهج القرآن، تتجلى فيه التربية والتوجيه، والطاعة لله ورسوله، تهديد قاصم ترتعد له فرائص المؤمنين، منهج يطرق القلوب فتفتح له المغاليق وتتكشف له فيها المسالك.

لماذا أُغلقت قلوبنا عن هذا النداء؟ لماذا لم تنكشف لنا المسالك والدروب؟
“بل ران على قلوبهم” وحُجب عنها الإيمان من كثرة الذنوب والخطايا، فما عادت ترى النور، وفقدت الحساسية شيئًا فشيئًا (إنّ العبد إذا أذنبَ ذنبًا كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب منها صقل قلبه وان زاد زادت).

هم سمعوا وأطاعوا فقالوا انتهينا ونحن سمعنا فعصينا وقلنا هذه حياتنا، أحرار فيها، نفعل ما نريد، هو الشيطان الذي قعد لنا في الطريق، هو الشيطان الذي قال لله: وعزتك وجلالك لأغوينّهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، هو الشيطان الذي قال “لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم”، أجبنا الشيطان وعصينا الرحمن، ولكنّ الله أراد لنا غير تلك الطريق، اسْمَع لنداء الله تعالى: (وعزتي وجلالي لأغفرنَّ لهم ما داموا يستغفرونني).

أيقِظوا قلوبكم فإنها البداية الصحيحة للسير إلى الله، استشعروا حاجتكم إلى الله واستيقظوا من الغفلة وافتحوا قلوبكم حتى يدخل النور. قال صلى الله عليه وسلم: “إذا دخل النور القلب انشرح. قالوا وما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله).

هي الطاعة إذَا، ثم السير في ركب من قال لا اله إلا الله والسباق معهم نحو الجنان فها هم عندما تربوا على منهج القرآن فهموا انه أوامر للتنفيذ فكان زادًا لقلوبهم ومطهرًا لنفوسهم وموجّهَ سلوكهم وصلة بينهم وبين ربهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى