أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالاتومضات

نحن والثعبان والدنيا

سوسن محمد مصاروة
سكنَت حيّة في دارِ رجل، قد عرف مكانها، وكانت تلك الحية تبيض كل يوم بيضة من ذهب وزنها مثقال، فصاحب المنزل مغتبط مسرور بمكان تلك الحية، يأخذ كل يوم من جُحرها بيضة من ذهب، وقد تقدم إلى أهله أن يكتموا أمرها، فكانت كذلك لأشهر. خرجت يوماً من جحرها، فأتت عنزًا لأهل الدار حلوبًا ينتفعون بها، فنهشتها، فهلكت العنز. فقال الرجل: الذي نصيب من الحية أكثر من ثمن العنز، والله يخلف ذلك منها. وبعد سنة عدت على حمار له كان يركبه، فقتلته! فجزع الرجل وقال: أرى هذه الحية لا تزال تُدخل علينا آفة، وسنصبر لهذه الآفات ما لم تَعْدُ على البهائم. وبعد فترة عَدَتْ على خادم كان للرجل، لم يكن له غيره. فنهشته وهو نائم، فمكث الرجل مهموماً، حزيناً، خائفاً أياماً. ثم قال: إنما كان سُم هذه الحية في مالي، وأنا أصيب منها أفضل مما رُزَئتُ به. ثم لم يلبث إلا أيامًا حتى نهشت ابن الرجل فمات. فقال الرجل: لا خير لنا في جوار هذه الحية، وإني أرى قتلها. فلما سمعت الحية ذلك تغيبت عنهم أياماً، لا يرونها ولا يصيبون من بيضها شيئًا! فلما طال ذلك على الرجل وزوجته تاقت نفسيهما إلى ما كانا يصيبان منها، وأقبلا على جحرها يقولان: ارجعي إلى ما كنت عليه ولا تضرينا ولا نضرك. فلما سمعت الحية ذلك رجعت، فتجدد سرورهما على غصتهما بولدهما. وكانت كذلك عامين، لا ينكرون منها شيئًا، ثم عدَت الحية على زوجة الرجل وهي نائمة فنهشتها، فبقي الرجل فريدًا وحيدًا كئيبًا، مستوحشًا. ثمّ أظهر أمر الحية لإخوانه وأهله، فأشاروا عليه بقتلها، فولّى الرجل وقد عزم على قتلها، فبينما هو يرصدها إذ اطلع في جحرها فوجد درة صافية وزنها مثقال! فلزمه الطمع، وأتاه الشيطان فغرّه حتى عاد له سرور هو أشدّ من سروره الأول بها. فقال: لقد غيّر الدهر طبيعة هذه الحية، ولا أحسب سمّها إلا قد تغيّر كما تغير بيضه. فجعل الرجل يتعاهد جُحرها بالكنس ورش الماء والريحان، وذات يوم، وبينما هو نائم عدت الحية عليه فنهشته ومات.
هذه قصة من الأدب العالمي، قصة لها دلالات معنوية كثيرة، الطمع مشكلة، وصدق النبيّ صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (‏لو كان لابن ‏ ‏آدم ‏ ‏واديان من مال لابتغى واديا ثالثًا ولا يملأ جوف ابن ‏‏آدم ‏ ‏إلا التراب ويتوب الله على من تاب).
هذا الذي أعماه الطمع في المال إلى الاستغناء عن أهم الحاجيات في حياته. المال هو عصب الحياة، والله سبحانه وتعالى جعله من أجلِ أن تسير الحياة الدنيا؛ فسماه فتنة: “إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ” (التغابن: 15). ويفتن الإنسان إذا ما انشغل قلبه به وقد لا يهتم بمصدره حلالاً أم حرامًا. فيصبح خادمًا له، ويضحِّي بصحته وأسرته ودينه من أجله.
هذه القصة يُضرب بها المثل بالوالدين اللذان ابتعدا عن تربية أبنائهما بحجة الركض وراء الدنيا واللهث خلف الملذات والشهوات ويفرحون بالإنجازات البسيطة على حساب تربيـــة أبنائهم وتعليمهم الأخلاق والقِيم.
إنّ نظرة صادقة إلى الواقع الذي نحياه تبين أن استقالات تربوية جماعية قد حدثت في كثير من بيوت المسلمين، لقد استقال كثير من الآباء تربوياً، واستقالت كثير من الأمهات تربوياً، وأودعوا أبناءهم لمربي العصر الحديث: الإعلام بكل سقوطاته، الشارع بكل انحرافاته، المدرسة بما فيها من صحبة قد تكون فاسدة! ويبدأ التقليد والانحراف، فيما ينشغل الوالدين بالأمور المادية والجري وراء الكسب الدنيوي وتوفير كل ما يطلب الأبناء، تُركت الفضائل لتحل محلها الرذائل، واستبدل اللباس الشرعي الأصيل بلباس الموضة الذي لا يكاد يستر عورة، فقدت الأم أمومتها يوم أن تخلت عن وظيفتها التربوية، وفقد الوالد أبوته يوم أن تخلى عن وظيفته التربوية وشعر الأولاد بيتم تربوي حقيقي في كثير من البيوت.
فليس اليتيم من انتهى أبواه وخلفاء في هم الحياة ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولاً
فيا آباء ويا أمهات، ربما جاءت جائحة كورونا لتعيد لنا التفكير بمهمّتنا الأولى والأساسية، اجعلوها محطة مراجعة للأخطاء السابقة وابدؤوا بزراعة الإيمان والقيَم والأخلاق، حادثوهم، حاوروهم، ضعوا الهواتف الذكية جانبًا واهتموا بهم، ولا تجعلوا الانشغال بالدنيا وشهواتها يفقدكم أبناءكم، فإنهم أغلى ما نملك، هم رأس مال المجتمع إن ضاعوا فقدنا بوصلة الأمان. ولا تنسوا إن ضيعتموهم صغاراً أضاعوكم كباراً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى