أخبار رئيسيةأخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

المسجد الأقصى في العقلية الصهيونية ومسائل الفرص التاريخية (6)

صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
لا يزال جدل العلاقة بين السياسة والدين قائم منذ أن عرف الانسان معنى الحكم والحضارة، وكتبت في هذه العلاقية ماهيّة وجدلا الآلاف المؤلفة من الكتب والأبحاث والدراسات، بل أنّ النصوص الدينية التأسيسية في اليهودية والمسيحية والاسلام تربط ربطا وثيقا بين الدين والسياسة وتمنحه أبعادا عقدية وتعبدية وحركية في الحياة وتدبير المُلكْ، ذلك أن السياسة من حيث جوهرها فن القيادة قبل أن تكون فن الممكن ولأنَّ السياسة لا تخلو من نصيب الشخصانية فقد أنيطت بمناطات أخلاقية تضبطها وتعيدها الى قواعد الدين من حيث هي ناظمة للسياسة. وفي سياقات فن الممكن السياسي تتحدد معالم الفرص واستثمارها لصالح من يتقن التعامل معها أي مع السياسة.
بنظرة متواضعة إلى حركة الحياة العالمية في سياقاتها السياسية، سنجد أنها لا تخلو قط من بعد ديني بغض النظر عن نوع وماهية وجوهر هذا الدين، إذ الدين هو ناظم للحياة وفقا لمجموعات من القيم والأخلاق والقوانين والفلسفات المنضوية تحتها أو المنبثقة عنها ولهذه المنظومات أصول وفقه يتلون وفقا لدين القوم، فالدول المسيحية الغربية استثمرت الدين كرافعة استعمارية وبعد انتهاء عصور الاستعمار المباشر بقيت المسيحية تلون الاطياف السياسة داخل تلكم البلدان وفي الولايات المتحدة يلعب الدين دورا أساس عند الجمهوريين، وخاصة أولئك الذين يعتقدون بعقيدة عودة المسيح وفي الهند الهندوسية والصين حيث تحارب أديان التوحيد تصمت أمام الكونوفوشيه والشيوعية تجد ان العامل الديني هو المحرك الأساس لهذه الدول وفي إسرائيل لا يزال الدين سيد الموقف من حيث هو الهوية ومن حيث الموروث ومن حيث تغلغله في تفاصيل الحكم والتشريع والقضاء، أمّا في عالم العرب فالحرب على الهوية الدينية على أشدها والحرب على وجود سياسي للمتدينين المؤمنين أن للدين دور أساس في العمل السياسي مشرعة ومعلنة مما يعني أن صراعا سيبقى قائما بين من يعملون لفصل الدين “الإسلامي” عن الحياة وحركتها وبين يؤمنون أن الدين مركب أساس في هويات شعوب المنطقة وجزء أساس في تعيين السياسة والسياسات.
ترتبط مسألة قداسة المسجد الأقصى بالنسبة للمسلمين واليهود في ظاهر وتأويلات النصوص الدينية بغض النظر عن قداسة هذه النصوص عند الطرفين، ففي حين ترتقي النصوص الإسلامية المتعلقة بقداسة المسجد الأقصى الى النص المقدس المطلق كما هو بائن في مطالع سورة الاسراء وعديد الأحاديث في الصحاح بحيث لا يتسرب الى هذه النصوص ادنى درجات الجدل والشك، فإن الكتب التأسيسية للتوراة لم تذكر مطلقا جبل الهيكل ولا حتى اسم مدينة القدس وإن تناولت خيمة العهد (متنقلة) كمظهر تجل للقداسة الإلهية في عبادة الله وتوحيده.
أذكر هذه المقدمة لارتفاع شأو بعض التحليلات والتأويلات التي تناولت شططا مسألة التوراة وأنها نزلت على القوم في جزيرة العرب، من جانبنا العربي والإسلامي يقابلها دراسات وابحاث في الشارعين الإسرائيلي واليهودي تناولت عكس ذلك وأن حاخامات كبار كالرمبام صعدوا الى بيت المقدس وطافوا فيه وذلك للتدليل على صِدقية زعمهم بقداسة المكان بالنسبة لهم واستئثارهم به كحق وكوعد إلهي من دون الأديان السماوية الأخرى. ومع كل ما ذكرت تتعزز هذه المعطيات إسرائيليا مع ارتفاع شأو القوة وفرض الواقع في القدس والبلدة القديمة والمسجد الأقصى المبارك.
في هذا الخضم الذي ذكرت تتوافر الظروف والامكانيات والفرص لإسرائيل باعتبار الانسجام التاريخي بين الدين والسياسة لتحقيق منجزات تعزز من مكانة الدولة من جهة وتستثمر الفرص السانحة لتحقيق مزيد من التمكين والسيادة.
المسجد الأقصى كمثال لانسجام
الدين والسياسة في الحالة الإسرائيلية
في السياق الإسرائيلي كتبت الآلاف من الأوراق العلمية والتاريخية والاثرية لتحقيق أساس علمي وعملي للعلاقة بين اليهود والمسجد الأقصى، باعتباره قدس أقداسهم كما يؤمنون، ودارت محاججات فكرية وشرعية يهودية عميقة في جوهر وجدل هذه العلاقة، ومن أهم فصول هذه النقاشات مسألة تقديم النفس على المُقدس من حيث الحفظ والولاية، ومن يتابع هذه المحاججات سيجد أنها جمعت بين الدين والتاريخ والسياسة وبين القوة والفقه (الشريعة اليهودية والفتاوى المتعلقة بالقدس والمسجد الأقصى) وبين يقظة اليهود عالميا والعودة الى الأرض المقدسة وإعمار القدس وبناء الهيكل، وهذه المحاججات لا تزال قائمة وبقوة في الأروقة الحاخامية والعلمية والأكاديمية، في المدارس الدينية -المدرشوت- وفي اللقاءات الدينية البيتية -مفكاشيم- وتنتشر اليوم في الشارع الإسرائيلي بما فيه العلماني باعتبار ان هذه البلاد لهم وان القدس لهم وان بناء المعبد ضرورة شرعية تقتضيها مفاهيم السيادة- لا بدَّ لنا في هذا السياق ان نتذكر ماذا فعل اهود باراك العلماني في المفاوضات مع الراحل ياسر عرفات في كامب ديفيد لانتزاع حق لليهود على المسجد الأقصى وساحات الُبراق ولا ننسى انه من افتتح البوابات الثلاثية المتاخمة للمصلى المرواني- فالسياسة الإسرائيلية المتشبعة بالموروث التوراتي والتلمودي تراوح الفعل السياسي في القدس بين بين البرجماتية والواقعية، وهذه السياسة تتغذى من معطى بشري يتزايد باستمرار يذهب الى أن القدس والاقصى حق خالص لليهود ومن ثَمْ فكل ما عداهم هو بين محتل ومغتصب وبالتالي فمسألة طرده مسألة شرعية والتعاطي معه من حيث وجوده من عدمه مسألة أخلاقية، وهكذا في ظل القوة التي تملكها إسرائيل وفي ظل تعزيز وجودها ونفوذها في المنطقة وارتفاع أصوات عربية بحق اليهود في القدس وموافقة معظم الساسة العرب على بقاء إسرائيل في القدس بل وبناء مكان للعبادة في ساحات الأقصى وفي ظل ظهير دولي لها فلماذا لا تمارس سطوتها وبأسها في القدس والمسجد الأقصى؟
من المفيد للقارئ والقارئة الكريمين أن نشير الى أن الحركة الصهيونية أسست فكرتها اتجاه القدس لمسجد الأقصى (في مصطلحاتهم هار هبايت أي جبل الهيكل) من منطلقات ثلاثة، توراتية، وشرعية “هلاخاتية” وسياسية، وهو ما سأتطرق له في مقالات قادمة.
في المسألة الفقهية -الشرعية اعتمدت الحركة الصهيونية ومدارسها المختلفة على فتوى للحاخام الأكبر لليهود في القرن الثاني عشر، الحبر العلامة موشه بن ميمون “رمبام” حيث أشار الى ان قداسة القدس والمسجد لا تزول بالتقادم ولذلك بقيت هذه القداسة قائمة على الرغم من خراب الهيكل وحدوث النفي، وأن الصخرة المشرفة (تقابلها الحجر الأسود عندنا) يعتبر وجودها من تجليات الرب على البيت المقدس وهذه المسائل التوراتية ذات الطابع الخلافي داخل المدارس الدينية اليهودية، وإن حسم بشأنها الرامبام شكلت الأرضية الصلبة للفكر الصهيوني الذي يناقش ويحاجج حق اليهود في بيت المقدس، ولكن في خضم هذه المسائل لا تركن الصهيونية الى الجدل والمحاججة بل تعتمد الشراكات الدولية لتحقيق سياساتها فهي لم تالُ جهدا لاستغلال الفرص التاريخية لتحقيق منجز لها على ارض فلسطين والقدس والاقصى.
وبذلك تجمع بين الفتوى والنص المقدس والمصلحة السياسية ضمن منطق الشراكات وتداخل المصالح وما قام به رئيس لوزراء البريطاني ديزرائيلي من شراء لاسهم مصر في قناة السويس بمال يهود آلا روتشيلد، مقابل ضمان حقوق اليهود في منطقتنا في ظل تعاظم يقظتهم السياسية والدينية وأشواقهم التي لم يخفوها نحو بيت المقدس وتصريحاته الشتى بان سحر المشرق عظيم، وأن القدس منارة السلام العالمي وانها حق لليهود الا مثال بسيط على هذه التداخلات بين الديني والسياسي، واستثمار الفرص التاريخية لتحقيق مصالح عليا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى