أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

أوراق فـــي زمن الكورونا… واقعنا المخصوص … رؤية مستقبلية في ظل واقع متكدر (8)

صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي

في الوقت الذي تزعم فيه عديد دول العالم انها تتعافى من وباء كوفيد 19 وتعمل جاهدة على التسريع في إيجاد مصل لهذا الوباء وصلت فيه المنافسة مستويات غير مسبوقة في تاريخ تجارة العقاقير، تشرع الدول ذاتها بالتحصن من الوباء نفسه تحسبا من جولة ثانية معه غير محسوبة الزمان والمكان والنتائج، ومن هذه الدول “اسرائيل” التي تعمل جاهدة على تحقيق عمل وقائي مستقبلي إذ يَعدُون له العدة الطبية والوقائية ويُلَحظُ للمتابع لهذا الملف الكوني بخصوصيته الإسرائيلية أنَّ من يتعامل معه منذ أسابيع بالإضافة الى أصحاب الصلة والاختصاص سواء من علماء في الصحة أو في الأوبئة أو أطباء على مختلف التخصصات جهاز الأمن العام عبر مكتب رئيس الحكومة، ويبدو لي أنّ هذه المعالجة بهذا الشكل ليس حكرا على المؤسسة الاسرائيلية بل هو ديدن كافة دول العالم، مما يعطي الموضوع بعدا أمنيا وإستراتيجيا عالميين وهو ما يزيد التكالب الدولي على احتكار العقاقير من جهة والتحسب من تجربة هذه الأدوية على الشعوب المقهورة والمغلوبة حال الشعب المصري (كشفت تقارير أممية عن موافقة حكومة السيسي لشركات دواء عالمية عملاقة تجربة عقاقير لعلاج السرطان على مرضى مصريين- نحن نعيش حالة من تسليع المرض لصالح مجموعات حاكمة تجعل المرض حالة ربحية خاصة بها برسم سيطرتها بالقوة على البلاد وعلى الاجساد) وسيكون لهذا التكالب انعكاساته على أكثر من صعيد محلي وغير محلي وسيصيبنا بعض من رذاذه.
في هذا الخضم نتساءل عن مستقبل الداخل الفلسطيني وماذا عساه أن يفعل تحسبا لموجات قادمة من هذا الوباء الذي يبدو أنه إلى حين يتحول الدواء الى متناول أيدي العامة نحتاج عدد سنين وخلال هذه الفترة الزمنية ثمة حاجة ماسة للإجابة على أسئلة التحديات التي تعترض الامم والشعوب والكيانات في مواجهتها لهذا الوباء، ونحن في وضعيتنا المخصوصة في مقدمة من عليه تقديم الإجابات، خاصة ونحن نفتقر الى أدنى أدوات الرعاية والحماية الصحيتين.
بادئ الأمر لا بدّ من الاشارة الى الجهود الكبيرة المباركة التي بذلتها العديد من الجهات من ابناء الداخل الفلسطيني للتعاطي مع هذا الوباء، كطواقم الطوارئ واللجان الطبية والعلماء، وخاصة المجلس الإسلامي للإفتاء وهو موضوع سنقف على عتباته قريبا إن شاء الله ضمن قراءاتنا لواقعنا المستقبلي في سياق فقهي النوازل والسياسة الشرعية والمستجدات المتعلقة بهما ضمن فلسفة الغرب الجديدة/ القديمة اتجاهنا، الساعية لتحييزنا أرضا وبشرا وخلق ما يسمونه البعض: “الإنسان المستباح ورديفها الحياة المستباحة”..
الإنسان المستباح..
نحن نعيش على أرضنا على ثلاثة مستويات: المستوى الخاص بكل واحد منا بما يحمله من اشواق وهموم وافكار وتصورات ومخططات واحلام، وبما يحمله من مشاكل خاصة، سواء كانت صحية أو معيشية أو كسبية أو غيرها، ومستوى محلي مع المجتمع المخصوص عائلة وبلدة وبلدا وداخلا فلسطينيا، ولكلِّ مما ذكرت قَدره من الهموم والقضايا التي تنعكس ايضا على الفرد، وهناك مستوى ثالث اسمه الدولة ومجتمع الاغلبية في الحالة التي نعيش حيث العنصرية والقوانين التمييزية والعداء المستشري من الاغلبية والدولة كسلطة سيادية، وبما تفرضه من سياسات تترك آثارها على ما سبق ذكره، مما يجعل حياتنا مستباحة وتجعلنا كأفراد كذلك مستباحين. ومن ضمن هذه السياسات، البيو سياسات المهنية بالسيطرة على أجسادنا صحيا ونفسيا وتربويا وديموغرافيا.
جرائم القتل التي حدثت خلال شهر رمضان المبارك وخلال فترة الحصار الداخلي خلال انتشار الوباء وحتى تلكم التي حدثت من قبل ونضيف اليها جرائم قتل السلطة الاسرائيلية لفلذات اكبادنا والتي كان آخرها قتل الشاب مصطفى يونس بدم بارد، بعد إخراجه من سيارته الخاصة في مستشفى تل هشومير الاسبوع الفائت، تبين ما ذهبت إليه من المستويات الثلاثة وتداخلاتها، كما وتؤكد على ثلاثة حقائق تؤشر على خطورة راهننا وعلى خطورة مستقبلنا: هشاشة هذا المجتمع وتفكك عراه الداخلية، تغلغل السلطة في جنباته واستغلالها جرائم القتل المتتالية للاستمرار في إضعاف المجتمع، وثالثا أن هذه السلطة يمكنها أن تفعل ما تشاء معنا وقت ما تشاء وكيفما تشاء، لأنه من خلال رصدها لردود أفعالنا تعلمت أنَّ أقصى ما يمكن فعله من رد فعل يتراوح بين مظاهرة (بغض النظر عن عدد المشاركين فيها) وإغلاق شارع، هذا على المستوى الشعبي أمّا على المستوى الرسمي فأقصى ما يمكن أن يفعله النواب العرب في الكنيست، المطالبة في لجان تحقيق وإصدار البيانات وتقديم تساؤلات وخطبة عصماء في الكنيست. ولست هنا في محل المناقش والناقد والمنتقص والمقلل من أهمية ما ذكرت بل هو توصيف لواقع مُعَاشْ. وفي هذا الواقع هل يمكننا كمجتمع إذا تعرض قطاع واسع منه للوباء وحدثت جائحة ووفيات وأغلقت وحوصرت مدن ونجوع وقرى أن نواجه هذه الجائحة، ونحن نعلم من تجربتنا المتواضعة أنَّ آخرُ ما تفكر فيه المؤسسة الاسرائيلية هو نحن ابناء الداخل الفلسطيني.
عمليا الذي يقوم بوضع السيناريوهات بغض النظر عن مستويات سوداويتها هم أهل الاختصاص والشأن، ومعهم راسمي السياسات ومتخذي القرارات، ولأن اسرائيل تُعرّف نفسها أنها دولة الشعب اليهودي، فإن أولوياتها لا تتعلق بمجموع الساكنة بل ابتداء باليهود ووفقا لتسلسل داخلي خاص بهم يجعل الداخل الفلسطيني في قاع سلم الاهتمامات ولا يكون الاهتمام إلا بقدر الفائدة المرجوة منا، وفي هذا سيكون رسم وجود اطباء وممرضين ومتخصصي أشعة وأصحاب تخصصات ذات صلة ممن يعملون في المختبرات أو مؤسسات خاصة ذات صلة بسبل مواجهة موجة الوباء القادم ممن لهم علاقة في السايبر من ضمن سيناريوهات ترسم.
كما أن العلاقة بين جهاز الصحة والدولة كشف عن جدل العلاقة القائم بين السلطة كجسم سياسي والجهاز كجسم صحي مسؤول عن جسد الانسان، كذلك الامر كشف كوفيد 19 وتداعياته عن السلطة البيوسياسية واهميتها وأدوارها “الغائبة “.. في الحالة الاسرائيلية مثلا كشف الوباء عن عمق العلاقة بين السلطة بسياقها السياسي والسلطة بسياقها البيو-سياسي، فسلطتها البيوسياسية تجلت بوضوح وجعلت ملايين البشر تحت رحمة مجموعة من متخذي القرارات في مكتب رئيس الوزراء ووزارة الصحة التي سيطر عليها بالمطلق رئيس الوزراء.
من المفيد هنا أن الفت نظر القارئ الكريم إلى تصريحات رئيس الوزراء في الايام الاولى من مواجهة الوباء وخروجه المنتظم شبه اليومي ليوجه الشارع الاسرائيلي، فقد كان من أهم مقولاته اننا في حرب، وفي المنطق في الحرب ضحايا وجرحى ومفقودين وخسائر، وبذلك وضعت الحكومة الاسرائيلية منذ اللحظة الاولى استراتيجيتها في المواجهة وفي هذا الخضم كان الداخل الفلسطيني من آخر ما فكرت به المؤسسة ولا استبعد أن تكشف الايام أو السنوات القادمة طروحات (سيناريوهات) حصار الداخل الفلسطيني يوم كانت تتم المناقشات في الغرف المغلقة وتوضع كافة التصورات ومعالجات الوباء وتداعياته!.
عودة للسياق المحلي المخصوص، فإذا كانت المؤسسة آخر ما يمكنها ان تفكر فيه هو الداخل الفلسطيني (انظر في سياق المقاربات كيفية معالجة فتح المساجد -وهنا لا مجال لمقارنة الوضع مع الكُنُس -وخاصة ما حدث يوم الثلاثاء الاخير من تصريحات صدرت عن أكثر من جانب في هذا الخصوص، مقابل سياسات العودة التدريجية لكافة مرافق الحياة بما فيها المصانع والمدارس والمقاهي والملاهي والمسابح والمطاعم، ذلكم أن القياس هنا محض اقتصاد ممهول بقليل من ورع الحفاظ على الانسان)، فما هو المطلوب منا كقيادات وكأصحاب مبادرات.
يقولون إن مسح المشكلة والتعرف عليها وعلى حجمها الحقيقي وتداعياتها نصف حلها، ولذلك فنحن اليوم نحتاج الى جسم عال “ولو ان تستمر لجنة الطوارئ الصحية التي انبثقت عن لجنة المتابعة مع تعزيزها بمختلف الخبرات ذات الصلة) بالعمل الفوري على ثلاثة محاور: إحصاء عدد العيادات والمشافي في الداخل الفلسطيني ومدى جهوزيتها وما يمكن فعله في هذا، وإحصاء عدد الاطباء والمهنيين من لهم علاقة بالموضوع، وثالثا ما الذي ستقدمه المؤسسة الاسرائيلية في حالة عودة الوباء واستفحاله وضربه الداخل الفلسطيني، وهل يتناسب ما ستقدمه فعلا مع حجم الإصابات.
واضح أنَّ لجنة المتابعة في وضعيتها الراهنة لا تستطيع حمل هذا العبء الكبير مما يؤكد مرة تلو المرة حاجتنا الى جسم سياسي منتخب أي لجنة متابعة منتخبة من جماهير الداخل الفلسطيني تشرع بالتعاطي مع كافة القضايا من خلال سقف سياسي تنبثق عنه هيئات رسمية تتطور في سياقات معالجاتها لقضايا الداخل المختلفة، وترسم الحلول والمخارج للأزمات المتتالية التي باتت تتكدس على عتبات مجتمع يعيش بدايات العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين مقومها مكننة الانسان والحياة السائلة التي تتلاشى فيها حدود الجغرافيا لصالح الفضاء المفتوح.
الداخل الفلسطيني أمام تحد جديد من نوع مختلف لم نعهده فقد اعتدنا منذ أن قامت اسرائيل على انقاض شعبنا وصادرت الاموال والاراضي والمقدسات أن تكون معاركنا مع هذه المؤسسة في مثلث المعيشة والمسكن والارض من جهة، ومثلث الوجود من جهة اخرى وفي قراءاتنا لصيرورات العلاقة مع المؤسسة الاسرائيلية والمجتمع الإسرائيلي، يجب أن لا يغيب عن اذهاننا المجازر التي ارتكبت والدماء التي سفكت والكرامات التي اهدرت وهذه كلها تشكل مراكمات في فهمنا للتحديات الناجمة عن حركة الوجود الاسرائيلي على هذه الأرض، خاصة وأننا نشهد منذ “نكبة اوسلو” التي جاءت بها منظمة التحرير الفلسطيني، مساع حثيثة لتذويت وجود اسرائيل كحالة أبدية لا يمكن مواجهتها، بل ثمة ضرورة للتسليم بوجودها والتعامل معها كما هو حال المستعمر في استراليا ونيوزلندا والولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي فمسألة معالجاتنا لقضية نازلة كهذا الوباء يجعل حياتنا اليومية مستباحة على اكثر من صعيد، فإذا كانت السلطة الرسمية في سياساتها البيوسياسية تتعاطى معنا على مستويين اثنين: مستوى تنظيمي (مثال تدخلها في معدلات الولادة ولعل المثال الصارخ على ما أذهب اليه نجاحها في سياسات ضبط النسل بيننا في الداخل الفلسطيني ورفعه بين الاسرائيليين بحكم انه يخدم سياساتها الاستراتيجية)، ومستوى الانضباط حيث تستهدف الانسان ذاتا وموضوعا” تستهدف الجسد والعقل كأفراد “وتتم عملية هذا الضبط من خلال منظومات تتطور باستمرار يكون مساعدها الاساس مراكز الابحاث والمخابر الاجتماعية والثقافية والتربوية والسياسية والصحية والعلمية، ومن ضمن أدوات ضبطها لنا كمجتمع فلسطيني عيادات المرضى المنبثقة كلها عن مؤسسات صهيونية، المدارس وما تقدمه من مستويات تعليم وبناء لهويات اجيالنا الناشئة، الجريمة والتحكم في مسارات انتشارها والحد منها.
ضمن هاتان السياستان تتجلى معالم عملنا المستقبلي وسبل الخروج من فك الوضع الذي نعيش فيه، فنحن بحاجة الى أن نتحرر من سياسات النظام والانتظام وسياسات الضبط والانضباط الى سياسات البناء الذاتي المؤسس على هويتنا الخاصة بموروثها الاسلامي الرامي الى تحرير الانسان، ابتداء من ارتهاناته الذاتية إذ فاقد الشيء لا يعطيه، فمن اراد أن يتحرر من أغلال الاستعمار أي كانت نوعياته وظواهره، عليه ابتداء أن يحرر نفسه من أسارها مرتقيا صاعدا بآدميته وإنسانيته يومئذ يخرج من فك آدميته المستباحة ومن حياته المستباحة.
محددات وجودنا المستقبلي
إذا كان فاقد الشيء لا يعطيه فالواجب تحديد محددات وجودنا والعمل من خلالها ليكون من بيننا من يملك الشيء ويقدمه، الوجود والحكمة والعمل تلكم هي محددات وجودنا وهادي ركبنا للخروج من الازمات، إذ أن مجرد وجودنا على أرضنا هو محدد اساس في رسم حاضرنا ومستقبلنا ومنه يتوجب الاصرار على الحياة كحق اساس لا يمكن لاي كان نزعه منا، ومحدد الحكمة التي يمتلكها من أوتي الحكمة ويكون شريكا في رسم حيواتنا على ضوء المعطيات والتحديات والمشكلات التي أشرت اليها في متن هذه المقالة، والمحدد الثالث، العمل المنضبط بمخططات والذي ينجم عنه فعل وأثرُّ، العمل يضمن وجودنا على أرضنا ومن ثم لاستمرار النسل والفعل يضمن بقاء ما أنجزه العمل خاصة الذي يضمن التأسيس السياسي والاثر ذلك التفاعل مع تلكم الاعمال والافعال، وهذه الثلاثية لها شرط مهم وأساس شرط العصبة (الرابطة الاجتماعية) في الرؤية الخلدونية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى