أخبار رئيسيةأخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

أوراق في زمن الكورونا…واقعنا المخصوص.. رؤية مستقبلية في ظل واقع متكدر (7)

صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
قبل سنوات خلت، في عام 1995 قرر مركز الدراسات المعاصرة المحظور اسرائيليا عام 2015 حيث حظر مع حظر الحركة الاسلامية وعشرات المؤسسات الاخرى، الشروع في مشروع ضخم هو الاول من نوعه في تاريخ الشعب الفلسطيني توثيق النكبة شفويا ومن اجل السير قُدُما في هذه الخطوة الفريدة جمع المركز عددا من اصحاب الاختصاصات في علمي الرواية والدراية في علم الحديث ليستفيد من طُرِق التوثيق الاسلامية التي وثقت احاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وخرج المركز بطريقة جمعت بين التجربة الاسلامية والسردية التاريخية المعاصرة وشرع في مشروعه الضخم الذي استمر لسنوات يبحث وراء الناجين من أهلنا في مخيمات الشتات في الضفة والقطاع وبقاع الارض كافة يسجل شهاداتهم، وراجع آلاف الاوراق من مذكرات وقصص وقصاصات صدرت عن العديد ممن شاركوا أو عاشوا تلكم السنوات العجاف بما في ذلك تقارير أممية وما خزنته ارشيفات بعض الدول لنكتشف حينها ان عددا من الدول التي كانت على صلة بالنكبة ما زالت تمنع الباحثين من الاطلاع على ما كتبه مخبريهم او شخصيات سياسية من طرف تلكم الدول كُلِفت بمراقبة الأحداث، ووصلنا الى قناعات قاطعة ان الهاغانا التي أشرفت على المذابح وكذلك باقي المليشيات الصهيونية وثّقت بدقة متناهية ما فعلوه من جرائم ومخازي في كل نجع وقرية ومدينة بل ووصلنا آنذاك الى نتائج قطعية ان عددا من القيادات المليشياوية الصهيونية ما زالت تحتفظ ليس فقط بمذكراتها الخاصة في تلكم الحقبة بل وبمسروقات من البيوت التي نُهِبَتْ وبمذكرات تفصيلية خاصة بالبلدان التي شارك في تدميرها وقتل أهلها وتشريدهم. ومعلوم أن المؤسسة الاسرائيلية تقاتل بقدها وقديدها من اجل تثبيت روايتها، واليوم ثمة سباق محموم بين عديد الباحثين والمؤرخين لتوثيق تلكم اللحظات التاريخية توثيقا شفويا وذلك لإعادة كتابة تاريخ نكبتنا وفقا لما يرويه اصحاب القضية، وهذا امر محمود واتمنى لكل باحث التوفيق في جهده المبذول ففي هذه المحاولات الجادة يمكننا اعادة نسج تاريخ سَلفْ.
أضع هذه المقدمة لألج من خلالها الى ثلاثة مسائل: مسألة توثيق حاضرنا الفلسطيني في الداخل بوقائعه اليومية، ومسألة توثيق واقعنا السياسي بمدافعاته المختلفة وتوثيق داخلنا الفلسطيني بوقائعه الاجتماعية وما يطرأ عليها من تحولات وتطورات وتغييرات. ولعل ما يجري هذه اللحظات من تعاطي الداخل الفلسطيني مع الجائحة التي تتعرض لها البلاد وعموم دول العالم تؤكد أهمية كتابة وقائع الحالة في الداخل الفلسطيني.

لماذا هذا التوثيق..
التوثيق اساس من اسس نجاح الاعمال مهما صغُر وحقُرَ شأنها أذ التوثيق مادة اثبات ومراجعة ومدارسة وكلما كان التوثيق دقيقا وأمينا كانت الدراسات المبنية على هذه التوثيقات أكثر موضوعية مهما اختلفت درجات التحليل اتجاهها بل وإن شطت وغالت في التحليل والمخرجات.
ألا ينكر الا مكابر اننا في الداخل الفلسطيني مجتمع تكالبت عليه الازمات سواء كانت من فعل داخلي كجرائم العنف المستشري بيننا او بفعل سياسات المؤسسة الاسرائيلية الرامية الى إبقائنا تحت مكبرات مجاهرها المختلفة وتحويلنا الى ضباء جفلة جبانة تنتظر مصيرها على يد جلادها وخلال انتظار المصير تأكل وترعى وتتزاوج.
هذه الازمات تتعقد مع تقدم الايام واختلاف مظَّان الحياة في الداخل الفلسطيني الذي يعيش سلسلة من الأزمات السياسية والاقتصادية وكتابة وقائع هذه الاحداث تكمن أهميته بما يقدمه للأجيال المستقبلية من الفلسطينيين.
حتى أبين للقارئ الكريم أهمية كتابة الوقائع اليومية في مسيرتنا الحياتية اتناول ما حدث مع الشهيد مصطفى يونس ابن عارة الذي قتله غيلة جمع من حراس مستشفى شيبا “تل هشومير” ظهر يوم الاربعاء المنصرم فتدليس وتزييف الرواية الصادرة عن المؤسسات الاسرائيلية ستُضَيع حقيقة ما حدث، ولئن القتل كان دمويا ومباشرا وشاهده العشرات ففي مثل هذه الحالة سيكون توثيق هذه الجريمة بتفاصيلها نوع من السردية (للسرد، في معناه البسيط، كما جاء في لسان العرب، مفاهيم مختلفة، تنطلق من أصله اللغوي، الذي يعني – مثلاً – التتابع في الحديث، يقال سرد الحديث ونحوه، يسرده سرداً، إذا تابعه، وفلان يسرد الحديث سرداً، إذا كان جيد السماع له . يعدّ تزفيتان تودوروف هو مَنْ ابتكر هذا المصطلح عام ،1959 بعد أن شكله من كلمة (narrative logy) أي سرد وعلم ليحصل على مصطلح علم السرد أو السردية، على أنه العلم الذي يُعنى بمظاهر الخطاب السردي أسلوباً وبناء ودلالة: أنظر، عثمان مشاورة :” في مفهوم السردية ومكوناتها)..خاصة وأننا نعلم يقينا حجم التزييف والتحوير الذي ستتعرض له هذه القضية والدفاع المستميت من طرف المؤسسة والمجتمع الاسرائيلي عن القتلة والمجرمين ومن نافلة القول هنا ان اشير مثلا الى ما عنون به موقع واللا الاخباري الحادثة على صفحته الخاصة على الفيسبوك اذا كتب الموقع: “شخص طعن حارسا في مستشفى تل هاشومير وقتل رميا بالرصاص” ومجرد العنوان يدفعك مباشرة لفهم العقلية الناظمة لهذه المؤسسة والاجسام المختلفة التي تصب في خدمتها، -(على الرغم من توثيقها بالصوت والصورة لتفضح الحراس ومن خلفهم فهو حقيقة لم يقتل إلا لأنه عربي وملتح وللقارئ الكريم والقارئة الكريمة أن تسبح ويسبح بخياله وخيالها بعد ذلك)-، ولذلك ثمة حاجة ماسة لتوثيق هذه الجريمة أولا ليتبين لنا حجم التزييف وهو ما يتطلب منا تسجيل هذه الوقائع بتفاصيلها الدقيقة لأننا من خلال هذه الوقائع ننسج روايتنا الحقيقية ونضع النظريات والتصورات والرؤى التي تعيننا مستقبلا على رسم خطانا بموضوعية ودراية تامين.
وثانيا لأنّ هذا النوع من العمل يعني اننا مجتمع مدرك لواقعه وحاضره ومستقبله وبذلك نرتقي بأعمالنا ونحفظ تاريخنا بما له وما عليه لتستفيد منه الاجيال القادمة بعدئذ تخبطت اجيال عدة منذ النكبة خبط عشواء ولَّما تخرج بعدُ من تيهها المتعلق بنظم العلاقة وشكله سواء مع المكون الفلسطيني او العربي او الاسرائيلي وكيف يجب ان يكون وبناء عليه كيف يجب أن نتصرف عند وقوع الازمات كمثل جائحة كوفيد 19.
من الخطورة بمكان ان يكتب غيرنا تاريخنا، ومنذ النكبة والى هذه اللحظات لم يخرج كتاب يوثق تاريخنا في الداخل الفلسطيني منذ النكبة والى هذه اللحظات اللهم الا نزر من الابحاث والدراسات تناولت مواضيع عينية بسياقات مختلفة بيدّ انها لم تسجل الوقائع وفقا لزمانيتها.
اليوم وأكثر من أي وقت مضى تزداد اهمية كتابة وقائع يوميات الداخل الفلسطيني بكل تفاصيله على اكثر من صعيد وناحية أذ كتابة تاريخية بوقائع الاحداث ونحن بكامل وعينا وإدراكنا سيقطع الطريق على المدلسين ومزوري حقائق التاريخ وما أكثرهم اليوم في عصر سيولة المعلومة والزمان والحياة، واذا كان قد قيل سابقا أن المنتصرين هم من يكتبون التاريخ- وهو قول مجاف للصحة ويعبر عن النظرة الاستعلائية الكولونيالية- فإننا ابناء الداخل الفلسطيني ممن استمرَّ وجودهم على ارضهم سيشكل كتابة تاريخنا ملحمة من ملاحم السرديات التي تتناول مصائر الشعوب في ظل كولونياليات مدعومة وتتمتع بقوة هائلة.
إن الحاجة ماسة جدا في ان نكتب تاريخنا ونحن في قمة الوعي والادراك وهذا الامر يتطلب قيام ثلة من الشباب النابه بدراسة علم التاريخ وكيفية كتابة التاريخ والوقائع والاحداث ودراسة القضية الفلسطينية فاذا كانت عديد الامم في اصقاع الارض لها مؤرخون يكتبون التاريخ الرسمي لدولهم وشعوبهم وهناك من يكتب التاريخ السياسي والاجتماعي وهناك منظمات تُعنى بتوثيق كتابة وقائع الاحداث الجارية معها فمن باب اولى ان تقوم فئة بهذه المهمة ولأننا لا نعيش في الخيال فانا مدرك تماما ان من سيعمل على مثل هذه المهمة سواء كان فردا او فريق عمل يحتاج الى المال والدعم الذي لا ينقطع، ولذلك فإنني أدعو مرة ثانية الى ضرورة تنظيم وضعيتنا في الداخل الفلسطيني ليتشكل وبحق جسم يرعى هذا الداخل إذ ما زال المثل العربي القائل “من ليس له كبير ليس له تدبير” صحيح في كل الاحوال خاصة في مثل حالتنا في الداخل الفلسطيني.
نحن نحتاج الى التوثيق والكتابة الدقيقة الساردة لمسيرتنا ليس فقط لحفظ هذا التاريخ بل ولتستفيد منه الاجيال القادمة ولتتعرف بدقة على صيروراتنا الحياتية، فقد آن الاوان ان نؤرشف تاريخنا ونحتفظ به لا أن تبقى اوراقنا في أراشيف المؤسسات الاسرائيلية، اذ لطالما كان التاريخ مدرسة للمستقبل نتجاوز بدراسته الوقوع بالأخطاء وتراكماتها فالسعيد من اتعظ بغيره.
كوفيد 19 وضرورات السرد الصحيح
تعاملت مختلف الفئات في الداخل الفلسطيني مع جائحة كوفيد19 بمسؤولية عالية سواء كانت المسؤولية ذات صبغة رسمية او تطوعية، سياسية أو اجتماعية او شرعية- فقهية… تتعاظم أهمية كتابة تاريخ هذه المرحلة من تاريخنا في الداخل الفلسطيني في ظل التمييز الخانق والقاهر والفاضح الذي نعيشه مع المؤسسة الاسرائيلية وتزداد أهمية تسجيل وقائع هذه اللحظات من تاريخنا بشكل دقيق لمنح من سيعمل غدا على تفكيك هذه المجتمع والخروج بمخرجات تدفع نحو الانعتاق من عنق الزجاجة فمثلا يوم يكتب المؤرخ في وقائعه التفصيلية عن الجائحة وتعاطي الناس معها وتدافعهم الى الاسواق بعد بيانات المؤسسات الرسمية عن إمكانية الخروج المنضبط للشراء وعندما يكتب عن القتل وأطلاق النار في ظل هذه الجائحة وعندما يكتب عن قتل بعض مخلفات المؤسسة الرسمية للشاب مصطفى يونس بدم بارد مع ذكر تفاصيل حالته الصحية ومشاهد لحظات القتل في ظلال الجائحة والشهر الكريم ” شهر الصيام ” وعندما يكتب عن عدم الصلاة في المساجد والفتاوى التي صدرت وجدل العامة في الموضوع ناقلا بأمانة ودقة هذه المشاهدات وكيف جمع الفقهاء بين الموقف الشرعي وموقف اهل الاختصاص من اطباء وعلماء صحة اجتماعية لإصدار البيانات الشرعية والفتاوى موثقا لحظات تلكم الاجتماعات والنقاشات، وعندما يكتب عن اضراب السلطات المحلية بسبب التفريق العنصري المتعلق بميزانيات الدفع للسلطات المحلية مقارنة مع السلطات المحلية الاسرائيلية .. مستقبلا في ظل هذه الوفرة الصادقة من المعطيات سيكون للباحث والمفكر والفيلسوف ما سيكتبه عن هذه اللحظات التاريخية في ازمنة الداخل الفلسطيني، وعندها ستجد عالم الاجتماع والسياسة وشؤون الصحة والفقه في سياقاته الاجتماعية المقروءة عبر بوابات المصالح ما سيكتبه ويبدع فيه وستجد من سيكتب عن تلكم الأزمنة أي كانت كتابته وأي كان مشربه وفكره تحليلاته يضيف مدماكا الى تاريخ الداخل الفلسطيني والى الشعب الفلسطيني وسيتخرج الفوائد وقد يجترح نظرية او نظريات من خلال تلكم السرديات تؤسس لأبواب جدية وجديدة يمكن الاستفادة منها لصالح المجتمع الفلسطيني برمته وللداخل الفلسطيني بشكل خاص.
لأننا نعيش مع الحاضر الإنساني تزداد أهمية التوثيق التي أشرت اليها خاصة وان المئات من المؤرخين في اصقاع الارض شرعت تثبت وقائع التعاطي مع هذه الجائحة ولن يبعد الزمان الذي ستتوالى فيه المنشورات بلغات عدة تتحدث عن هذه الجائحة سواء بالسرد اليومي لوقائعها او بالتحليل الاجتماعي او السياسي او عبر قراءات فلسفية او عبر روايات تكتب .وفي ذات السياق/ على سبيل المثال لا الحصر، ألا يستحق الاطباء والممرضين العرب من ابناء الداخل الفلسطيني أنْ تكتب بحقهم رواية بيضاء تسجل دورهم الانساني والصحي والطبي في مواجهة هذه الجائحة، فقد كانوا جنود المواجهة الأوَلْ، فهل من همام؟.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى