أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

معركة الوعي (16)..أنقذوا مجتمعنا من وباء السوق السوداء صندوق إقراض وطني الآن

حامد اغبارية
لكلِّ حرب أثرياؤُها الذين يسيرون على الجثث، يحركهم الجشع، ولا يهمهم سوى جمع المال، دون التفات إلى الإنسان، لأنه آخر ما يفكرون به، إن كانوا يفكرون به أصلا، تماما مثلا عصابات الحكم التي تتحكم بشعوب الأرض في زماننا هذا.
ومن أثرياء الحرب، التي يخوضها العالم اليوم لمواجهة جائحة كورونا، عصابات السوق السوداء التي تقف للناس بالمرصاد، وتطلق عليهم نار البلاء دون رحمة، قبل أن تطلق عليهم النار عندما يعجزون عن تسديد الدين. أموال ملوثة بالفساد والدماء والإرهاب الاجتماعي والزعرنات التي لا تجد من يردعها بقانون أو نظام حكم هو في الحقيقة أسوأ من تجار السوق السوداء، وأكذب منهم.
ولمّا قيل في المثل إن صاحب الحاجة أرعنُ، فإن كثيرين يجدون أنفسهم يسقطون في مستنقع السوق السوداء بلا رغبة منهم ولا إرادة، خاصة أولئك الذين وجدوا أنفسهم فجأة بلا عمل، وقد سُدّت أمامهم السُّبل، وحولهم صغار وبيت وأسرة يطالبونهم باحتياجاتهم من طعام وشراب وغير ذلك، إضافة إلى التزاماتهم الشهرية التي لم يعد في إمكانهم تسديدها، ولا يجدون ضوءا في آخر النفق، في ظل الأزمة الحالية، كما لا يجدون دولة تقدم لهم الحلول وتنقذهم من هذا البلاء.
المطلوب الآن إنقاذ مجتمعنا من عصابات السوق السوداء، وليس بالكلام فقط.
المطلوب أولا حملة توعية قطرية ومتواصلة، تدخل كل بيت عبر نشرات توزع بالبريد، وعن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، ومن خلال رسائل قصيرة تصل كل بيت. حملةٌ تحذر الناس من التعامل مع السوق السوداء، وتحمل رسالتين: الأولى فتوى شرعية تحرّم التعامل مع هذه الجهات تحريما قطعيا (وقد أحسن المجلس الإسلامي للإفتاء بإصدار فتوى بهذا الخصوص، وأمامه مسؤولية أولى في حملة التوعية)، والثانية أن السقوط في هذا المستنقع يعني تفكيك المجتمع وارتفاع نسبة الجريمة والعنف. فعصابات السوق السوداء لا تتورع عن سفك الدماء وممارسة الإرهاب بالسلاح ضد من يقصّر في تسديد الدفعة. وما أعرفه، مما سمعته من كثيرين ممن تورطوا في هذا البلاء أن القسط يجب أن يسدد أسبوعيا وليس شهريا، وبنسبة ربا مرعبة، وإذا تراكم الدين فإن المائة شيكل تصبح ألفين، والألف تصبح 20 ألفا خلال أسابيع معدودة.
ومن خلال تطوعي في لجنة الزكاة المحلية في بلدي لسنوات طويلة واجهتُ قصصا مرعبة لأُسَر تورطت مع السوق السوداء بسذاجة متناهية. بعض هذه الأُسر اقترضت ألف شيكل أو ألفين لتسديد فاتورة الكهرباء، ثم وجدت نفسها مدينة لعصابة السوق السوداء بآلاف مؤلفة، وكان عليها دفع مبلغ معين أسبوعيا، وإذا قصرت في تسديد القسط الأسبوعي، تمهَل يومين أو ثلاثة، ثم يتضاعف المبلغ بمتوالية هندسية، مثل حبات القمح على رقعة الشطرنج. ثم يبدأ فيلم الرعب من تخويف وتهديد وإطلاق نار في الهواء، ثم على البيت، ثم أحيانا يطير البيت ليصبح مُلكا للعصابة.
وأنا شخصيا أعرف شخصيات ذات شأن تورطت مع السوق السوداء، وكان غرضهم حل أزمة طارئة واجهتهم فجأة، لكنهم حتى اليوم، وبعد مرور سنوات، ما زالوا غارقين في المستنقع. وهناك من آثروا الانتحار ومغادرة هذه الدنيا كي يتخلصوا من هذا البلاء، فتركوا خلفهم أسرة كاملة أصبحت هي “المسؤولة” عن تسديد الدين للعصابة.
ولعل الجميع قرأ أو سمع ما قاله أحد مجرمي هذه العصابات في المجتمع اليهودي، الذي قال عندما سُئل عن تسديد الديون: لا يهمني، يستطيع المدين أن يبيع أمه..
هل يريد أحد أن يبيع أمه أو أطفاله من أجل حفنة من مال ملوث فاسد، يظن أنها ستخرجه من أزمة فإذا هو يقع في مصيبة؟!!
من أجل ذلك لا بد من حملة توعية مكثفة لسد الطريق أمام عصابات السوق السوداء.
هذه الحملة التوعوية لا بد أن تتضمن مسارات عديدة، تهدف في نهاية المطاف إلى تغيير نظر الفرد والمجتمع إلى الجانب الاقتصادي في الحياة وكيفية التعاطي معه بعيدا عن الاستغلال والتعامل الربوي في كل صغيرة وكبيرة.
لكنّ هذا وحده لا يكفي. إذ لا بد من بديل عملي ملموس يخفف عن الناس أعباءهم المالية، ويقدم لهم حلا، حتى لو كان هذا الحل جزئيا متواضعا.
وتأمل معي قول الله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)} (سورة قريش).
فقد ربط الله تعالى عبادته بتأمين الشبع والأمن (شبعٌ وأمنٌ فردي ومجتمعي). فإذا توفر هذا الشرطان اللذان يعتبران أهم شيء في حياة الفرد، فإنه سيرتقي في عبادته، وسيرتقي في كل عمل يعمله.
فكيف يعبد ربَّ هذا البيت خائف وجائع عبادة خالصة؟ وكيف تكون حياة الجائع الخائف؟ أحياةٌ هي؟ أم هي موت دون موت؟!
وهذا نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم يؤكد هذا المعنى العظيم في قوله: {مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا} (رواه البخاري). تأمل هذا الحديث بعمق وستجد فيه أبسط الحلول لأكبر الأزمات: الجوع والخوف، أو الأمن والشبع.
إن الحل في المبادرة الفورية إلى تأسيس صندوق إقراض وطني هدفه إنقاذ المجتمع من السوق السوداء، ومن ثم يساهم في مواجهة أشكال جديدة – قديمة من العنف الذي ستمارسه عصابات السوق السوداء، كما مارسته حتى الآن، ولكن بوتيرة أعلى وبكثافة أكبر.
من أين لنا المال؟
قد يتساءل البعض: ومن أين يمكننا أن نوفر الأموال لهذا المشروع؟
ببساطة ودون تعقيدات: هذا المال يمكننا أن نوفره من رجال الأعمال الذي يملأون البلاد من شمالها إلى جنوبها. ومن خلالهم يمكننا رصد مبلغ أولي من 30-50 مليون شيكل، يشكّل نواة لصندوق الإقراض، من خلال مساهمات (أسهم) يكتتب لها رجال الأعمال وأثرياء البلد الشرفاء، وهم كثيرون. وشعبنا معروف بتكافله، خاصة في الأزمات. وتجاربنا الميدانية خلال 30 سنة فيها ألف دليل على أن الخير في الناس لا ينقطع، وأن هناك من هم مستعدون للمساهمة بأموالهم في مشروع وطني من هذا النوع.
أما عن الجهة التي تدير هذا الملف، فأقترح تأسيس جمعية تعاونية أعضاؤها محامون ومحاسبون ورجال اقتصاد وغيرهم من أصحاب الاختصاص في هذا المجال، يضعون آليات ونظام الإقراض من هذا الصندوق. ولا بأس أن تكون هذه الجمعية مرتبطة مباشرة بلجنة المتابعة العليا وتعمل تحت سقفها. وأنا أميل إلى هذا الرأي، رغم تحفظاتي الكثيرة على أداء المتابعة، ولكنها جسم قابل للإصلاح، ومهيأ أن يصبح جسما قويا ذا تأثير، إذا توفرت له الشروط والظروف المناسبة.

هل نستطيع تحقيق هذا الهدف؟
نظريا نعم، نستطيع وأكثر مِن مجرد أننا نستطيع. نحتاج فقط إلى الإرادة. وهذه الإرادة تحتاج إلى أن تكون جماعية لا فئوية، وتحتاج أكثر إلى مَن يحرّكها ويدفعها دفعا لتصبح واقعا ماثلا للعيان.
ربما يبدو الأمر مثاليا، أو شبيها بالمستحيل. ولكنني أعرف أشخاصا- بارك الله فيهم- يملكون خططا مشابهة، وأعتقد أنهم جاهزون للانطلاق بهذا المشروع الذي يمكن من خلاله تحقيق الكثير الكثير الكثير من الأهداف، وعلى رأسها حماية مجتمعنا من الضياع والتفكك، وتنظيف شوارعنا من عصابات السوق السوداء والخاوة، وتجفيف هذا المستنقع القذر الذي يكاد يحرق الأخضر واليابس.
كما أعرف تجارب سابقة عايشها مجتمعنا في أطر مختلفة، وحققتْ نجاحات لم تكن متوقعة، ومنها على سبيل المثال مشروع المجتمع العصامي.
على سبيل المثال:
قبل سنوات أجريتُ شبه بحث صغير في البلد الذي أعيش فيه، حاولت من خلاله أن أقدم صورة حقيقية عما يمكن أن يكون عليه الحال لو أن الذين تستحق عليهم أموال الزكاة دفعوا ما عليهم من خلال هذا الركن العظيم من أركان الإسلام، والذي يعتبر رافعة اقتصادية أساسية في المجتمع.
والمسألة باختصار شديد أنني وجدت أنه لو دفع كل هؤلاء ما عليهم من زكاة لتحصل لدينا مبلغ “متواضع” يصل إلى 25 مليون شيكل على الأقل (والمبالغ الحقيقية تصل إلى 3 أضعاف).
هذا المبلغ لو دخل صندوق الزكاة لوفر الكثير من الحلول، والكثير الكثير من الكرامة لأهلنا المتعففين.
ماذا يمكننا أن نفعل بمبلغ كهذا؟
على سبيل المثال في بلدي ما بين 1000- 1200 أسرة متعففة مسجلة في مختلف لجان الزكاة الفاعلة في البلد (العدد الحقيقي أكبر بكثير).
هذا يعني أن كل أسرة يمكن أن تحصل على مبلغ يتراوح بين 12 ألف شيكل و20 ألف شيكل.
يضاف إلى ذلك المبلغ على سبيل المثال صدفة الفطر، التي يُظهر حساب بسيط لها في المدينة التي أعيش فيها، أنه يمكن أن يصل إلى مليون شيكل. هذا المبلغ يمكن أن يوفر أقساط تعليم جامعية كاملة لأكثر من 70 طالبا، أو يوفر نصف القسط لنحو 140 طالبا، أو يوفر ربع القسط الجامعي لنحو 300 طالب جامعي. لماذا أضرب هذا المثال؟ لأنني أعرف أسرا كثيرة تضطر إلى الاقتراض من السوق السوداء، أو من البنوك الربوية التي لا تقل سوءا عن السوق السوداء، لتوفير القسط الدراسي لأبنائها فتتورط في المستنقع الذي لا يمكنها الخروج منه.
كذلك فإن مبلغ صدقة الفطر في البلد يمكنه أن يقدم مبلغ 1500شيكل لنحو 600 أسرة متعففة عشية العيد على سبيل المثال.
ماذا يعني هذا كله؟
إنه يعني أننا نملك القدرات المالية التي يمكننا من خلالها تأسيس صندوق الإقراض الوطني، لكن المشكلة أننا ما نزال نعاني من الفردانية. وهذه تعني التفكير الأناني، بعيدا عن التفكير بالهمِّ الجماعي. وأزعم أن أعداء مجتمعنا سعوْا منذ عقود إلى غرس الأنانية في الفرد والمجتمع حتى تسهل السيطرة عليه. وليس مثل الجانب الاقتصادي سلاحا للسيطرة.
المطوب إذن تغيير اتجاه البوصلة، ونفض الغبار عن الفطرة السليمة، وتحريك الوازع الأخلاقي، الذي يدفعك دفعا إلى التفاعل مع الهم العام. ونحن الآن نقف أمام أزمة حقيقية أنتجها بلاء كورونا رغما عنا. ولكننا بإرادتنا يمكننا أن نتجاوز هذه الأزمة بأقل الأضرار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى