أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

معركة الوعي (13).. إلى أين سيوصلنا الكنيست؟

حامد اغبارية
الجواب على السؤال في العنوان “إلى أين سيوصلنا الكنيست” أبسط مما يتخيله أحدنا، لكنه في نفس الوقت أصعب بكثير مما يتخيله كثيرون من الذين يظنون أن الكنيست الصهيوني هو الوسيلة الوحيدة لبقائهم.
وللحقيقة فإن الواقع يؤكد، بما لا يدع مجالا للشك، أن خيار الكنيست هو الضامن الوحيد لاستمرارية فاعلين سياسيين، أحزابا وأفرادا، وبالتراجع عن هذا الخيار فإن إمكانية تصدرهم (أو مشاركتهم في تصدر) للمشهد السياسي في المجتمع الفلسطيني في الداخل مسألة مشكوك فيها، وإمكانية غيابهم عن الساحة أقوى بكثير من إمكانية بقائهم. ولهذا تراهم يعَضّون على الكنيست بالنواجذ! حتى لو كان الثمن أسوأ مما تتخيل. وهو أسوأ من مجرد تلقي الدعم المالي من صناديق ومن جهات لها مصلحة في إبقاء فلسطينيي الداخل تحت السيطرة.
“إلى أين سيوصلنا الكنيست”؟!! تماما إلى المكان الذي يريد المشروع الصهيوني أن نصل إليه.
وماذا يريد المشروع الصهيوني، الذي تُشكّل المؤسسة الإسرائيلية رأس الحربة فيه؟
إن المكان الوحيد الذي يمكن أن يوصلنا إليه هذا الخيار السيء هو خانة “العربي الإسرائيلي” الذي سعت كل حكومات المشروع الصهيوني إلى إنتاجه وتشكيله طوال سبعة عقود.
“عربي إسرائيلي” منزوع الدسم، لا يهش ولا ينش، كما يقال في اللهجة الدارجة، لا وزن له ولا تأثير إلا بالقدر الذي يخدم الأجندة الصهيونية وأهدافها القريبة والبعيدة.
“عربي إسرائيلي” مرتبك الهوية مشوش الانتماء، لا علاقة له بشيء اسمه الشعب الفلسطيني، ولا علاقة له بشيء اسمه العالم العربي، ولا علاقة له بشيء اسمه الأمة الإسلامية. تلك الدوائر الثلاث التي تحدد للفلسطيني ابن الداخل اتجاه البوصلة الذي يجب أن يسير فيه.
“عربي إسرائيلي” لا حول له ولا قوة، مشغول بنفسه، بمعيشته، بمستقبل أولاده الذي تحدده له أجندة المشروع الصهيوني. مشغول باللهاث خلف حقوق يومية وهمية، أوهموه أنها هي الوسيلة لرفع شأنه، وأنها هي المنفذ الوحيد للحرية.
“عربي إسرائيلي” لا يقوى حتى على التفكير، ولا يملك الرغبة في التفكير بالقضايا الكبرى لشعبه وأمته، وعلى رأسها القضية التي تُحسم على صخرتها مصائر أمم الأرض جميعا؛ القدس والمسجد الأقصى المبارك.
“عربي إسرائيلي” فاقد للذاكرة، قد نسي ما حدث لآبائه وأجداده عام 1948، يوم اقتُلعوا من أرضهم وبيوتهم وهُجِّروا عنوة، ثم مسحت آثارهم عن وجه الأرض.
“عربي إسرائيلي” لا يحصل على شيء سوى الذي حدد المشروع الصهيوني أن يحصل عليه، وهو فتات الفتات. وقد عبر المؤسسون الأوائل لبؤرة هذا المشروع، وعلى رأسهم بن غوريون، أنه لا يمكن أن نرى في العرب أناسا يستحقون المساواة، فهم لا يساوون اليهود في القيمة ولا حقوق متساوية لهم في دولة إسرائيل. هكذا حرفيا. ويؤكد ذلك، حتى لو لم يقولوه صراحة، ما حدث على أرض الواقع طوال سبعة عقود.
“عربي إسرائيلي” أفرغت ذاكرته من مجزرة كفر قاسم، ومن أحداث يوم الأرض، ومن أحداث الأقصى، ومن أحداث هبة القدس والأقصى، التي سفك دماء أبنائنا فيها من يعتبرهم الذاهبون للكنيست من أكثر الإسرائيليين يسارية!!
“عربي إسرائيلي” يعتبر أرضه التي نهبت أرض “منهال” يستجدي كي يحصل على قطعة منها ليبني عليها بيتا بقرض إسكان يقيّده طوال حياته.
“عربي إسرائيلي” يُفرغ غضبه على هدم البيوت باتهام قياداته في الدرجة الأولى، ويفجر غضبه بصراخ لا طائل منه في مظاهرة هنا ووقفة هناك.
“عربي إسرائيلي” يرى أبناء شعبه في الضفة والقطاع يُذبحون ويجوّعون ويحاصرون ويهانون وتنتهك حرماتهم، وينهب المستوطنون ما تبقى لهم من أرض، ولا يحرك ساكنا، لأن الأمر لا يعنيه، ولا يجب أن يعنيه!!
“عربي إسرائيلي” يصدق الروايات التاريخية الكاذبة، ويشكك في روايته هو، ويبدأ بمناقشتها بدلا من فضح زيف الروايات التي قامت عليها مظالم لا نهاية لها.
“عربي إسرائيلي” يكتفي بالتصبب عرقا وهو يركض تارة خلف الرغيف، وتارة خلف الأصوات التي ستصب في صناديق الكنيست الإسرائيلي، ليحتفل أخيرا بالرغيف مرة وبـ “النصر المظفر” في الصناديق تارة أخرى.
من أجل ذلك لاحقوا الشرفاء وحظروهم وسجنوهم وضيقوا عليهم، لتخلو الساحة لمن يريدونهم أن يكونوا هم البديل.
من أجل ذلك بذلوا كل جهد ليصل الفلسطيني في الداخل فيها مرحلة يقول فيها: هذا هو الواقع، فماذا نستطيع أن نفعل؟ ليس أمامنا سوى هذا الطريق، وربما، ربما من خلال اللعب في ملعب السياسة الإسرائيلية، نحقق شيئا، وهكذا نستمر في الدوران في دائرة مفرغة دون أن نرى الضوء في آخر النفق. نفعل هذا ونحن (كلنا) نعلم أن الضوء موجود في نفق آخر، غير النفق الذي حفروه لنا، وساهم جزء منا في تجميله وتحسين صورته!!
هم لا يريدون عربيا فلسطينيا حُرّا، يجوع ولا يقبل الدنية. يُسجن ولا يطأطئ رأسه، يقيّد بكل أنواع القيود ولا يسير مع القطيع.
لا يريدون فلسطينيا يقولها للدنيا كلها: أنا فلسطيني حر.. أعلم أن هذا الوطن اختطفته عصابات طارئة في زمن انحطاط الأمة.
يقول بأنفة وإباء: ضعفي المادي لا يجعلني جزءا من القطيع، لأنني لست إمَّعة مع الإمّعات الكثيرة التي تملأ فضاءنا الملوث بقاذورات الاستخراب..
ويؤكد كل صباح وكل مساء: أنا عربي أعلم أن أرضا عربية انتهكت حرمتها في غفلة من أمة أصابها الضعف وأنهكتها أنظمة الخيانة.. بعد أن جلست على صدور أبنائها وتآمرت على كل شيء وسلَّمت كل شيء. لكنني لا يمكن أن أطأطئ رأسي للعاصفة الهوجاء التي يحرّكها معسكر الباطل وأعوانه من بلني جلدتي.. فهذه عاصفة ستمر يوما وإن طال بقاؤها، وسأبقى أنا.
ويحفر على صخرته: أنا مسلم أعرف أن هذا الوطن فتحه عمر بن الخطاب، وحرَّره صلاح الدين، ودافع عنه قطز وبيبرس، وصان كرامته عبد الحميد ودفع عرشه ثمنا لذلك، ولأجله سالت دماء زكية، وإن ما أعيشه طارئ وليس قدرا مؤبدا.. طارئٌ داهمنا يوم هانت الأمة وتراجعت عن قيمها وأسباب عزتها وكرامتها، ودخلت تحت عباءة دول الاستخراب الماسونية.
عربي فلسطيني مسلم يدور حيث يدور الحق، لا حيث يدور الناس، وقد استقر في وعيه أن الكنيست الإسرائيلي ليس عنوانا إلا لشيء واحد. هو عنوان للانحطاط الفلسطيني والعربي والإسلامي، من حيث أنه مؤسسة سيادية صهيونية تصفع وجوهنا بالحقيقة المرّة كل صباح وكل مساء.
عربي فلسطيني مسلم يدرك أن ما يسوِّقونه في الكنيست وللكنيست إنما هي أضغاث أحلام، لا طائل من ورائها، ولا يمكن أن تحقق فعلا ما ينشده. وهذا عليه ألف دليل ودليل من الواقع الذي عشناه ونعيشه وسنعيشه.
في كتابه الشهير “عرب جيدون”، الذي يكشف خبايا وخفايا أجهزة الأمن السرية الإسرائيلية في تعاملها مع ملف العرب الفلسطينيين في الداخل، يقول هيلل كوهين إنه منذ إقامة هذه الدولة التي تحول فيها العرب فجأة إلى مواطنين فيها، اعتبرتهم السلطات طابورا خامسا، وطمحت إلى أن تسيطر على أراضيهم وأن تكوي وعيهم وتسيطر على أنماط تصويتهم (للكنيست).
ويضيف: “كانت المخابرات الإسرائيلية وأعوانها العرب أداة لتحقيق هذه الأهداف. ويقول في مقدمة الكتاب: وجد العرب في إسرائيل أنفسهم بعد انتهاء الحرب في 1948 مواطنين في الدولة التي يرفضونها، وبدأوا يكتشفون إيجابيات وسلبيات هذا الوضع الجديد. وبطبيعة الحال اعتُبر العرب في نظر السلطات طابورا خامسا، ولذلك جاء النشاط المخابراتي لضمان السيطرة الأمنية والسياسية الكاملة على هؤلاء الناس”.
وبالنسبة للسيطرة السياسية، وهو بيت القصيد هنا، كان الهدف – كما يقول كوهين- ليس أقل أهمية من السيطرة الأمنية، وقد بذلت عناصر الأمن في سبيل تحقيق هذا جهودا كبيرة. وهكذا مثلا عملت في سنوات الخمسين والستين على تقوية ما يسميه القيادات التقليدية التي لا علاقة لها بالهمّ الوطني والقومي، وتقوية تبعية العرب للمؤسسة الرسمية.
ولم يتوقف هذا السلوب كما لم تتوقف هذه الجهود حتى لحظة كتابة هذه السطور.
وقد ذهبت جهود المخابرات وأذرعها الأخرى (الأحزاب الصهيونية وما شابهها) إلى العمل على بلورة وتشكيل وعي وهوية العرب الفلسطينيين في الداخل، بحيث يبدأون بطرح الأسئلة الجوهرية المصيرية على أنفسيهم: هل نشعر بالانتماء لهذه الدولة؟ هل نعتبر أنفسنا إسرائيليين؟ هل من الممكن أن نتعاون مع مؤسسات الدولة؟
لم تنس هذه الأجهزة أن الفلسطينيين في الداخل يعتبرون أنفسهم جزءا من الشعب الفلسطيني الذي قاوم المشروع الصهيوني، وأنه بعد قيام دولة المشروع الصهيوني تكونت مجموعات فلسطينية ذات بعد قومي ووطني (ولاحقا إسلامي) تجب معالجتها هي الأخرى. وقد عملت على تدجينها بكل الوسائل الممكنة، وكانت المشاركة في الكنيست تصويتا وترشيحا إحدى هذه الوسائل، بل أهمها، كيما تبقى تحت السيطرة. ولكن مخاوف أجهزة المخابرات كإحدى أدوات التطويع للمؤسسة الإسرائيلية لم تختف كليا، وظلت أعينها تراقب وتتابع وتضع الخطط والبرامج. وكانت إحدى وسائلها، تشويش الهوية وخلق هوية “العربي الإسرائيلي”، وهي هوية – كما يقول هيلل- تساهم في دفع العرب إلى قبول الدولة، أي قبول الواقع والتعايش معه. ومن أجل بلوة الهوية الجديدة (العربي الإسرائيلي) عملت المؤسسة الرسمية بكل أجهزتها (بما في ذلك منهاج التعليم) على إسكات الرواية الفلسطينية أو إضعافها وتشويشها وإرباكها بكل ما يتعلق بأحداث النكبة وما قبلها، وكأنها أرادت أن يفهم العربي الفلسطيني في الداخل أن تاريخه يبدأ وينتهي عند الرواية الصهيونية وداخل الإطار الجغرافي الذي حددته المؤسسة الإسرائيلية. وكان من مظاهر ذلك إصرار السلطات الإسرائيلية على تذكير الفلسطيني في الداخل بضرورة إظهار الولاء للدولة، بأشكال مختلفة، وإذا كانت هناك ضرورة فإن عليه أن يخرج في كل مرة ليعتذر ليس عما فعله أو يفعله هو، بل عما فعله أو يفعله أيٌ من أبناء شعبه. وليس مثل المشاركة في الكنيست سبيلا لتأكيد هذا الولاء، حتى لو بدا الأمر وكأنه مختلف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى