أخبار رئيسيةأخبار وتقاريرعرب ودوليومضات

زوال السلام العظيم.. هل تقترب المواجهة بين الدول الكبرى؟

مقدمة الترجمة
في هذه المقالة التي نُشرت في مجلة فورين أفيرز أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2025، يقول غراهام أليسون وجيمس أ. وينفيلد الابن إن العالم يعيش استثناءً تاريخيا نادرا. فنحو ثمانية عقود من دون حرب مباشرة بين القوى الكبرى هي أطول فترة من هذا النوع منذ العصور الرومانية، لكن هذا الاستثناء بات اليوم تحت ضغط متزايد.

ويرى الكاتبان أن “السلام الطويل” بعد عام 1945 لم يكن نتيجة مصادفة، بل حصيلة هندسة إستراتيجية واعية صاغت أسس النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، وأن الحفاظ عليه يتطلب الآن قدرًا مماثلا من الخيال الإستراتيجي والإرادة السياسية كي لا ينزلق العالم إلى منطق التصعيد الذي يُعيد إنتاج الحروب الكبرى.

أما الكاتبان فهما غراهام أليسون الأستاذ في علوم الحوكمة بجامعة هارفارد، وأحد أبرز منظّري الأمن القومي وصناعة القرار، وشغل سابقًا منصب العميد المؤسس لكلية كينيدي، وله مؤلفات مرجعية حول الإستراتيجية النووية والعلاقات الأميركية الروسية ومع الصين.

أما جيمس أ. وينفيلد فهو أميرال متقاعد من البحرية الأميركية، شغل منصب نائب رئيس هيئة الأركان المشتركة (ثاني أعلى منصب عسكري في الولايات المتحدة)، وتولى قبل ذلك مواقع قيادية عملياتية وإستراتيجية رفيعة، مما يمنح المقالة وزنًا إضافيا عند تقاطع التحليل الأكاديمي مع خبرة إدارة القوة ومخاطر الحرب.

نص الترجمة
مثّلت العقود الثمانية الماضية أطول فترة بدون حرب بين القوى العظمى منذ عهد الإمبراطورية الرومانية. وقد جاءت هذه المرحلة الاستثنائية من السلام المُمتَد عقب حربَين كارثيتين، كانت كل منهما أشد تدميرًا بكثير من الصراعات السابقة، إلى حدّ أن المؤرخين وجدوا أنفسهم مضطرين إلى ابتكار تصنيف جديد كليا لوصفهما: الحروب العالمية. ولو أن ما تبقَى من القرن العشرين اتّسم بالقدر نفسه من العنف الذي كانت عليه الألفا عام السابقة، لكانت حياة معظم البشر الأحياء اليوم قد اختلفت اختلافا جذريا.

لم يكن غياب الحروب بين القوى العظمى منذ عام 1945 محض مصادفة، فقد كان لقدرٍ كبير من التوفيق وحسن الحظ دورٌ في ذلك بلا شك. غير أن تجربة الحرب الكارثية نفسها دفعت مهندسي النظام الدولي بعد الحرب إلى محاولة الانحراف بالتاريخ عن مساره التقليدي. وكانت التجربة الشخصية للقادة الأميركيين في تحقيق النصر في الحرب قد منحتهم ثقةً مكّنتهم من التفكير فيما عدَّ مستحيلا، ومن الإقدام على ما اعتبرته الأجيال السابقة غير قابل للتحقّق، وذلك عبر تشييد نظام دولي قادر على إرساء السلام.

السلام التاريخي
تُجسّد ثلاثة أرقام السمات الحاسمة لنظام الأمن الدولي ونجاحاته: 80 و80 و9. فقد مرّ 80 عاما منذ آخر حرب حيّة بين القوى العظمى، وقد أتاح ذلك زيادة عدد سكان العالم ثلاث مرات، وازدياد متوسط العمر المتوقع إلى الضعف، ونمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي 15 مرة. ولو أن رجال الدولة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية اكتفوا بما اعتاده التاريخ، لاندلعت حرب عالمية ثالثة، لكنها كانت ستخاض بأسلحة نووية، وربما كانت لتكون الحرب التي تنهي فعليا كل الحروب.

وقد مرّ 80 عاما أيضا منذ آخر استخدام للأسلحة النووية في الحرب، ونجا العالم من عدة لحظات خطيرة اقتربنا فيها من استخدام النووي مجددًا، وكان أخطرها أزمة الصواريخ الكوبية، حين واجهت الولايات المتحدة الاتحاد السوفياتي بسبب الصواريخ النووية التي نُصِبت في كوبا، وقدّر الرئيس الأميركي جون كينيدي في تلك الأثناء احتمالات اندلاع حرب نووية بما بين 33% و50%.

ومؤخرًا، في العام الأول من الحرب الروسية الشاملة على أوكرانيا والتي بدأت عام 2022، هدّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بجدية بتنفيذ ضربات نووية تكتيكية. ووفقًا لتقارير صحيفة نيويورك تايمز، قدّرت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية “سي آي إيه” (CIA) أن احتمال توجيه ضربة نووية روسية كان 50% إذا ما أوشكت الهجمات الأوكرانية المضادة على اكتساح القوات الروسية المنسحبة.

وردا على ذلك، أُوفد مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بيل بِرنز إلى موسكو كي ينقل المخاوف الأميركية. ولحسن الحظ، نجح تعاون جديد من نوعه بين الولايات المتحدة والصين في ردع بوتين، غير أن ذلك شكّل تذكيرًا بهشاشة “الخط الأحمر النووي”، هو العُرف العالمي غير المُعلن القاضي بأن استخدام الأسلحة النووية يجب ألا يكون خيارًا مطروحا على الطاولة للدولة التي تمتلكه.

في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، كان قادة العالم يتوقّعون أن تسعى الدول إلى بناء أسلحة نووية فور امتلاكها القدرة التقنية على ذلك. وقد تنبّأ كينيدي بأن 25-30 دولة ستصبح مسلحة نوويًا بحلول السبعينيات، مما دفعه إلى الترويج لإحدى أكثر المبادرات جرأة في تاريخ السياسة الخارجية الأميركية، وهي معاهدة حظر انتشار السلاح النووي، التي وقّعت عليها 185 دولة حتى اليوم، متعهِّدة بالتخلي عن امتلاكها، في حين تمتلك تسع دول فقط ترسانة نووية.

ومثلما يُعدّ 80 عامًا من السلام وغياب الحروب النووية إنجازا استثنائيا، فإن نظام حظر الانتشار، الذي أصبحت المعاهدة ركيزته الأساسية، هو بدوره إنجاز هش. فاليوم، تمتلك أكثر من مئة دولة القاعدة الاقتصادية والتقنية اللازمة لبناء سلاح نووي، وقد اختارت هذه الدول الاعتماد على الضمانات الأمنية التي توفرها بلدان أخرى، وهو من منظور جيوسياسي وتاريخي أمر غير مُعتاد.

وقد أظهر استطلاع أجراه معهد “أسان” عام 2025 أن 75% من الكوريين الجنوبيين يؤيدون الآن امتلاك بلدهم ترسانة نووية خاصا به لحمايته من تهديدات كوريا الشمالية. وإذا تمكّن بوتين من تحقيق أهدافه الحربية عبر توجيه ضربة نووية تكتيكية ضد أوكرانيا، فمن المرجّح أن تستنتج حكومات أخرى أنها بحاجة إلى مظلة نووية خاصة بها.

نهاية مرحلة
في عام 1987، نشر المؤرخ جون لويس غاديس مقالا مفصليا بعنوان “السلام الطويل”، وكانت قد مضت آنذاك 42 عامًا على نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي حقبة من الاستقرار قابلة للمقارنة بالفترة الممتدة بين مؤتمر فيينا عام 1815 والحرب الفرنسية البُرُّوسية عام 1870، ثم العقود اللاحقة حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914.

وقد جادل غاديس بأن أساس هذا السلام الطويل الحديث كان الحرب الباردة. ففي ظل شروط بنيوية كان من شبه المؤكد في عصور سابقة أن تُفضي إلى حرب عالمية ثالثة، وقف كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وجها لوجه ولدى كل منهما ترسانة تكفي لتحمّل ضربة نووية والرد عليها بشكل حاسم. وقد وصف منظّرو الإستراتيجية النووية ذلك الوضع بالتدمير المتبادل المؤكد “إم إيه دي” (MAD).

إلى جانب تدشين الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والترتيبات المتعددة الأطراف التي تطورت لاحقًا إلى الاتحاد الأوروبي، والبعد الأيديولوجي الحاد للتنافس الأميركي السوفياتي، رأى غاديس أن العامل الأساسي الذي تسبّب في حالة السلام الطويل هو الحكم المتبادل في واشنطن وموسكو بأن المصالح المادية والنظامية تفوق في أهميتها المصالح الأيديولوجية.

فقد كره السوفيات الرأسمالية ورفض الأميركيون الشيوعية، لكن رغبة كل منهما في منع التدمير النووي المتبادل كانت أهم من ذلك كله. وكما أوضح غاديس “يجب إذن اعتبار تهذيب الأيديولوجيات، إلى جانب الردع النووي والاستطلاع، آليةً رئيسية من آليات الضبط الذاتي في سياسة ما بعد الحرب”.

وكما أدرك غاديس، انقسم العالم إلى معسكرين، سعت فيهما كل قوة عظمى إلى استقطاب الحلفاء والدول المنحازة لها حول العالم. فقد أطلقت الولايات المتحدة خطة مارشال لإعادة إعمار أوروبا الغربية، وأسست صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لتعزيز التنمية العالمية، ودعمت الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة “غات” (GATT) لوضع قواعد التبادل الاقتصادي بما يعزز النمو. بل إن الولايات المتحدة تخلّت حتى عن إستراتيجيتها السابقة القائمة على تجنّب التحالفات التي تورِّطها في التزامات حين تبنّت حلف شمال الأطلسي (ناتو) والتزمت بمعاهدة دفاعية مع اليابان.

لقد سعت واشنطن إلى أي خيار متاح لبناء منظومة أمن دولية قادرة على مواجهة تهديد الشيوعية السوفياتية، وكما أوضح أليسون في مقال سابق بمجلة فورين أفيرز “لولا التهديد السوفياتي لما كانت هناك خطة مارشال ولا حلف الناتو”.

بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في أوائل تسعينيات القرن الماضي، بشّر منظرو الانتصار بعصر جديد أحادي القطب لم تبقَ فيه سوى الولايات المتحدة قوةً عظمى. وكان يُفترض أن يخلق هذا النظام “عوائد السلام”، بحيث يتاح لشتى الدول أن تزدهر دون القلق من صراع بين القوى الكبرى. بل هيمنت سرديات في أول عقدين بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أعلنت صراحة “نهاية التاريخ”.

بحسب تعبير أستاذ السياسة الشهير فرانسيس فوكوياما، كان العالم يشهد “نقطة النهاية في التطور الأيديولوجي للبشرية، وتعميم الديمقراطية الليبرالية الغربية بوصفها الشكل النهائي للحُكم عند البشر”. وباستخدام مثال مطاعم ماكدونالدز، جادل توماس فريدمان في “نظرية الأقواس الذهبية لمنع الصراع” (الأقواس الذهبية يقصد بها شعار ماكدونالدز الأصفر الشهير)* بأن التنمية الاقتصادية والعولمة ستضمنان عصرًا من السلام. وقد أسهمت هذه الأفكار في تحفيز غزو الولايات المتحدة لأفغانستان والعراق، اللذين تركا الولايات المتحدة غارقة في حروب لا نهاية لها ولا نصر فيها على مدى عقدين.

كانت الدبلوماسية الخلّاقة أيضا خيطًا أساسيا في هذا الفصل من القصة. فقد تفكّك الاتحاد السوفياتي وظهرت روسيا مع 14 دولة مستقلة جديدة في أوروبا الشرقية، وكان هذا أن يعني نظريا طفرة في عدد البلدان المسلحة نوويا، إذ تُرك أكثر من 12 ألفا و600 رأس نووي خارج روسيا عند انهيار الاتحاد السوفياتي.

وقد تطلّب الأمر شراكة استثنائية بين الولايات المتحدة وروسيا في عهد بوريس يلتسن، وتمويل من برنامج تعاوني لنزع السلاح بقيادة عضويْ مجلس الشيوخ الأميركي سام نَن وريتشارد لوغار، لضمان ألا تقع هذه الأسلحة في أيادٍ غير مرغوب فيها. وبحلول عام 1996، كانت الفرق المعنية قد أزالت كل السلاح النووي من أراضي الاتحاد السوفياتي السابق، وإما فكَّكتها وإما أعادتها إلى روسيا.

لقد أعادت التحولات الجيوسياسية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي تعريف علاقات الولايات المتحدة بكل خصومها السابقين ومنافسيها الصاعدين على حد سواء. ففي عام 2009، حين تولّى باراك أوباما رئاسة الولايات المتحدة، كانت كل من روسيا والصين توصفان بأنهما “شريك إستراتيجي”، وظل هذا التصوّر هو السائد حتى عام 2017، عندما أصبح دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة، وأدى واقع صعود الصين السريع والطموح، إلى جانب روسيا الناقمة على الوضع القائم، إلى إدراك واشنطن أن الولايات المتحدة دخلت عصرًا جديدا من التنافس بين القوى الكبرى.

خطر في الأفق
قبل وفاته عام 2023، كان وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر يذكّر زملاءه بين الحين والآخر بأنه لا يعتقد أن هذه العقود الثمانية من السلام بين القوى الكبرى ستصل إلى قرن كامل. ومن بين العوامل التي تكشف الخبرة التاريخية أنها تساهم في النهاية العنيفة لدورة جيوسياسية كبرى، ثمَّة عوامل خمسة بالتحديد قد تضع حدًا للسلام الطويل القائم.

على رأس هذه العوامل يأتي النسيان، إذ إن الأجيال المتعاقبة من البالغين الأميركيين، بمن فيهم جميع الضباط العسكريين العاملين اليوم، لا تملك أي ذاكرة شخصية عن التكاليف المُروّعة لحرب بين القوى الكبرى. وقليلون فقط يدركون أنه قبل هذه الحقبة الاستثنائية من السلام بين القوى الكبرى، كانت الحرب في كل جيل أو جيلين هي القاعدة. ويعتقد كثيرون اليوم أن حربًا بين القوى الكبرى أمر لا يمكن تصوّره، دون أن يدركوا أن هذا لا يعكس ما هو ممكن في العالم، بل حدود ما تستطيع عقولهم تصوّره ليس أكثر.

وجود منافسين صاعدين هو العامل الثاني الذي يُهدّد السلام، فالصعود الصاروخي للصين يتحدى الهيمنة الأميركية، مُكرّرا نمط التنافس الحاد بين قوة قائمة وقوة صاعدة، وهو نمط حذّر قديما منه المؤرخ الأغريقي القديم ثيوسيديدس بوصفه طريقا يؤدي إلى الصراع. ففي مطلع القرن الحادي والعشرين، لم تُعر الولايات المتحدة اهتماما كبيرًا للتنافس مع الصين، التي كانت متأخرة اقتصاديا وعسكريا وتكنولوجيا. أما اليوم، فقد لحقت الصين بالولايات المتحدة، أو تجاوزتها في مجالات عديدة، بما في ذلك التجارة والتصنيع والتقنيات الخضراء، وهي تحقق تقدمًا سريعا في مجالات أخرى.

في الوقت نفسه، فإن فلاديمير بوتين، الذي يحكم دولة تزداد ضعفا لكنها لا تزال تمتلك ترسانة نووية قادرة على تدمير الولايات المتحدة، أظهر استعداده لاستخدام الحرب لاستعادة قدر من “هيبة” روسيا ومكانتها السابقة، ومع تصاعد التهديدات الروسية وتراجع دعم إدارة ترامب لحلف الناتو، فإن أوروبا تجد نفسها تكافح من أجل التعامل مع تحديات أمنية حادة في العقود المقبلة.

التقارب الاقتصادي العالمي بدوره يزيد من احتمالات الحرب. فقد تآكل التفوق الاقتصادي الأميركي مع تعافي دول أخرى من دمار الحربين العالميتين. ففي نهاية الحرب العالمية الثانية، حين كانت معظم الاقتصادات الكبرى الأخرى مُدمَّرة، كانت الولايات المتحدة تمتلك نصف الناتج المحلي الإجمالي العالمي، أما عند نهاية الحرب الباردة، فكانت حصتها قد انخفضت إلى الربع.

واليوم، لا تمتلك الولايات المتحدة سوى السُبع، ومع هذا التحوّل في موازين القوى الاقتصادية الوطنية يتشكّل عالم متعدد الأقطاب تستطيع فيه دول مستقلة عديدة أن تتحرك داخل مجالات نفوذها دون طلب إذن أو الخوف من العقاب. ويتسارع هذا التآكل عندما تُفرِط القوة المُهيمنة في التمدّد ماليا، كما يحاجج مدير صناديق التحوّط الشهير راي داليو، قائلا إن الولايات المتحدة ترتكب اليوم ذلك الخطأ.

وحين تفرّط القوة القائمة أيضًا في التمدد عسكريا، لا سيما في صراعات تحتل مرتبة متدنية ضمن قائمة مصالحها الحيوية، تضعُف قدرتها على الردع أو الدفاع في مواجهة القوى الصاعدة. فقد كتب الفيلسوف الصيني القديم سون تزو “عندما ينخرط الجيش في صراعات مُطوّلة، تُستنزَف موارد الدولة”، وهو وصف ينطبق على التمدّد المكلف لمهام القوات الأميركية في العراق وأفغانستان طيلة العقدين الماضيين، وعلى عجز المؤسسة العسكرية الأميركية عن التركيز على تحديات أكثر إلحاحا.

إن تركيز الموارد بشكل ضيق على هذه الصراعات الممتدة صرف انتباه الولايات المتحدة عن تحسين قدراتها الدفاعية في مواجهة خصوم يزدادون تطورًا وخطورة. وما يثير القلق الأكبر الآن هو مدى انزلاق مؤسسة الأمن القومي الأميركية نحو حلقة مفرغة، بدعم من الكونغرس وصناعات الدفاع، تُطالب فيها بالمزيد من الوسائل -أي التمويل- بدلًا من البحث عن مقاربات إستراتيجية أكثر لمواجهة التهديدات الجسيمة لمصالحها الوطنية.

أخيرًا يأتي العامل الأخطر، وهو جنوح القوة القائمة إلى الانزلاق في انقسامات سياسية داخلية مريرة بما يشل قدرتها على التصرف بشكل متماسك على الساحة العالمية. ويزداد هذا الإشكال حين يتأرجح القادة بين مواقف متعارضة حول ما إذا كان ينبغي للبلاد الحفاظ على نظام عالمي ناجح وكيفية فعل ذلك. وهذا ما يتكشَّف لنا اليوم، إذ تعمل الإدارة الحاكمة في واشنطن، والتي تبدو حسنة النية ظاهريا، على قلب معظم العلاقات والمؤسسات والعمليات الدولية القائمة، لفرض رؤيتها الخاصة حيال الكيفية التي يجب أن يتغير بها النظام الدولي.

إن الدورات الجيوسياسية الطويلة المدى لا تدوم إلى الأبد. والسؤال الأهم الذي يواجه الأميركيين، والمجتمع السياسي الأميركي المنقسِم، هو: هل الأمة الأميركية قادرة على أن تجمع شتاتها للاعتراف بمخاطر اللحظة الراهنة، والعثور على الحِكمة اللازمة لعبورها، وتنظيم عمل جماعي يمنع -أو بالأحرى يؤجل- الاضطراب العالمي القادم؟

للأسف، وكما لاحظ الفيلسوف الألماني هيغل، فإن ما نتعلمه من التاريخ هو أن البشر في كثير من الأحيان لا يتعلمون من التاريخ. فعندما صاغ الإستراتيجيون الأميركيون إستراتيجية الحرب الباردة التي شكَّلت أساس “السلام الطويل”، كانت رؤيتهم تتجاوز بكثير الحكمة السائدة في العصور السابقة. والحفاظ على هذا الاستثناء، الذي أتاح للعالم أن يشهد فترة غير مسبوقة من دون حرب بين القوى الكبرى، سيتطلب اليوم اندفاعة مماثلة من الخيال الإستراتيجي والعزيمة الوطنية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى