أخبار عاجلةأدب ولغة

كيف أثرت الترجمة في القصة القصيرة العربية؟

تحظى القصة القصيرة بنصيب وافر من الترجمة إلى العربية، وتُستقبل باهتمام شريحة واسعة من القرّاء، خصوصاً المجموعات والمختارات التي تحمل أسماء الكُتّاب الكلاسيكيين المعروفين عالمياً. ولا ينسحب هذا الاهتمام على القصة القصيرة العربية، فهي أقلُّ مقروئية من مثيلتها العالمية، ومن الرواية العربية التي نجحت الجوائز الأدبية ووسائل الإعلام في ترويجها، بينما بقيت القناعة راسخة لدى القارئ العربي بأن القصة القصيرة فنٌّ غربي حصراً.

وكان البحث عن حلول لهامشية القصة القصيرة العربية يشغل الأدباء منذ عقود، فالروائي والقاص الأردني مؤنس الرزّاز يقول في مقدمة ترجمته لمختارات “من روائع الأدب العالمي: قصص قصيرة مترجمة” الصادرة عام 1980: “ولا شكَّ أن القصة العربية القصيرة تعيش أزمة خانقة، فلا يجد القارئ أكثر من أربعة أو خمسة أسماء بارزة، رغم عشرات بل مئات القصص القصيرة”.

فهل نجحت جهود الرزّاز في الترجمة، وغيره من الأدباء، في تغيير الحال بعد مرور عقود؟ وهل أثْرَت جهود الأدباء العرب في ترجمة القصة القصيرة القصةَ العربية أم أقصتها؟

دعوة الرزّاز إلى ترجمة “روائع أعمال أدباء الغرب العمالقة” سبقتها جهود فعلية في مضمار الترجمة القصصية، فقد لفتت القصة القصيرة أنظار المترجمين في النصف الأول من القرن الماضي، فنُقلت أعمال أشهر القاصّين عن الإنكليزية والفرنسية والروسية والإسبانية والإيطالية إلى العربية في ترجمات كثيرة متواترة. ولعلّ الشاعر والقاص الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس قد حظيت أعماله وحدها بنصيب وافر من جهود المترجمين العرب، إلى جانب أعمال الفرنسي موباسان، والروسي تشيخوف، والأميركي إدغار آلن بو.

وتميّزت بعض مؤسسات النشر العربية بتركيزها على ترجمة القصة القصيرة العالمية، منها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، الذي أصدر في العقدين الماضيين سلسلة من الترجمات القصصية بلغت خمس عشرة مجموعة بين مختارات وأنطولوجيات، تحت عنوان “إبداعات عالمية”، تمثّل آداب الشرق والغرب والشمال والجنوب.

المترجمون الأدباء
من أقدم الترجمات ما قام به إبراهيم عبد القادر المازني، الذي ترجم عام 1939 مختارات تحت عنوان “مختارات من القصص الإنجليزي: تشارلز ديكنز وآخرون”. وكذلك جبرا إبراهيم جبرا، الذي كان أوّل كتاب صدر له في بغداد مطلع الخمسينيات “مختارات قصصية”، وأعادت دار المأمون إصدارَه بطبعة موسّعة ومنقحة عام 1987 تحت عنوان “أيلول بلا مطر وقصص أخرى من الأدب الإنجليزي والأمريكي المعاصر”.

وقبل وفاته، صدرت لعباس محمود العقاد مختارات تحت عنوان “ألوان من القصة القصيرة في الأدب الأمريكي”. وتواصلت هذه الجهود على أيدي أدباء شباب، كالروائي المصري أحمد عبد اللطيف الذي ترجم في السنوات الأخيرة عدداً من المختارات والمجموعات القصصية من إسبانيا والبرتغال ودول أميركا اللاتينية. وقد اجتمعت كلُّ هذه الجهود المتباعدة زمنياً لتُتوّج قرنين من عمر القصة القصيرة.

التعريف بجنس أدبي فريد
تكشف المقدمات التي كتبها الأدباء لمختاراتهم عن السبب الرئيس الذي دفعهم إلى الاضطلاع بترجمة المختارات القصصية، ويتلخّص في تعريف قارئ العربية بهذا الجنس الأدبي الذي تعود جذوره إلى الأدب الأوروبي والأميركي. ففي مقدمته لمختاراته يرجو العقاد أن تقدّم المختارات “صورة صادقة لتطور القصة القصيرة في الآداب الأمريكية منذ وُجِدت في عصر الاستقلال إلى هذه الأيام”. ويردّ العقاد ازدهار القصة القصيرة الأميركية إلى عناصر التعدد والتنوع في البيئة الجغرافية والاجتماعية، وقدرة هذا الفن على التعبير عن “سمة الاعتداد بالذات، والمغامرة في وجه المجهول” التي طبعت حياة المهاجرين الأوائل إلى القارة الجديدة.

ويقدّم جبرا إبراهيم جبرا لمختاراته تعريفاً تاريخياً ونظرياً لفن القصة القصيرة، فيعزو ظهوره في النصف الأول من القرن التاسع عشر إلى تحوّل الكُتّاب من “الشمولية في معالجة قضايا الحياة الكبرى إلى التعبير عن النطاقات الضيقة من التجربة الإنسانية”، فوجدوا في القصة القصيرة شكلاً فنياً ملائماً للنطق بأزمة الإنسان المعاصر الذي فقد الثقة بقيم عصره. والشكل الفني القصصي يُعرّفه جبرا بأنه ليس القدرة على تقديم الحبكة أو الفكرة أو الفعل، وإنما القدرة على بلوغ دواخل التجربة الإنسانية، ونقل القارئ إلى صميمها فلا يشعر بأنها منفصلة عنه. أما الرزّاز فيركّز في مقدمته لمختاراته على ما يسميه “القصة الريادية”، وهي القصة التي “تمنح المتعة والرضا لكل من يتمتع برهافة المشاعر، ويرغب في فهم الآخر والتعاطف معه”.

جهود ضائعة
يتّفق المترجمون الأدباء على الهدف الأدبي الفني الثقافي الداعي إلى اضطلاعهم بالمختارات، ولا يغيب عن أذهانهم غاية التعريف والتثقيف بجنس أدبي قليل الحضور في الأدب العربي. فترجم المازني قصصاً لأدباء من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، كتشارلز ديكنز، وإدغار آلن بو، وأوسكار وايلد، وهنري جيمس وغيرهم، بلغة أدبية رصينة تعكس لغة العصر الذي كتبت فيه القصص. ويُصنّف العقاد القاصّين تصنيفاً زمنياً إلى “روّاد” وأبرزهم مارك توين، و”تابعين” وأبرزهم توماس آلدريخ، و”معاصرين” وأبرزهم وليم فوكنر وجون شتاينبك. ويترجم جبرا لجيل أحدث من القاصين، مثل جيمس جويس وفرجينيا وولف وإرنست همنغواي.

وتُضاف هذه المختارات إلى السجلّ الأدبي للأدباء الراحلين، وتفتح أبواباً إلى عوالم القصة القصيرة وتنويعاتها، منذ نشأتها وحتى أحدث أصواتها وطرائقها، كقصص الكندية أليس مونرو، الحائزة جائزة نوبل للآداب عام 2013، والهندية الأميركية جومبا لاهيري، الحائزة جائزة بوليتزر عام 2000. إلا أنّ كلّ هذه الجهود لن تقدم حلولاً لأزمة القصة القصيرة العربية مع قارئها الذي ينصرف عنها إلى الرواية، ومع كتّابها الشباب الذين يقول مؤنس الرزّاز عنهم إنهم “يكتبون ولا يقرأون”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى