جدل فلسطيني واسع حول قرار مجلس الأمن: مخاوف من وصاية دولية على غزة وتغيير طبيعة الصراع

لا يتعامل الفلسطينيون مع قرارات مجلس الأمن باعتبارها نصوصًا قانونية مجردة، بل يرون فيها عوامل قادرة على إعادة تشكيل واقعهم وحدودهم ومستقبل قضيتهم. ويبرز ذلك بوضوح في الموقف من القرار الأخير المتعلق بغزة، الذي جاء تحت عناوين “الاستقرار” و“الإعمار”، إذ لم يُنظر إليه كخطوة تقنية لإنهاء الحرب فحسب، بل بوصفه منعطفًا قد يمهّد لنمط جديد من الوصاية الدولية على جزء حيوي من الأرض الفلسطينية ويعيد تعريف طبيعة الصراع.
وترى الفصائل الفلسطينية أن صيغة القرار تندرج ضمن مسار لتحويل القضية من قضية تحرر وعودة وإنهاء استعمار استيطاني إلى “ملف إنساني وأمني” تُديره منظومات دولية وإقليمية. فاللغة الواردة في القرار – مثل “قوات استقرار” و“آليات مراقبة” و“لجان دورية” و“ترتيبات أمنية واقتصادية” – تُقدّم غزة بوصفها منطقة أزمة تحتاج إلى إدارة، لا أرضًا محتلة تستوجب التحرير.
ويخشى فلسطينيون أن يؤدي النقاش حول شكل القوة الدولية وتركيبة اللجان وآليات الرقابة إلى تهميش جوهر القضية المتمثل في الاحتلال والحصار والاستيطان وحق العودة، بحيث يتحول الاحتلال إلى خلفية صامتة بينما تتصدّر مفردات “الاستقرار” و“إدارة الوضع الميداني”.
وتُعد فكرة نشر قوة دولية أو إقامة إدارة انتقالية واسعة الصلاحيات في غزة أحد أبرز عناصر الجدل. فبالرغم من أن “الحماية الدولية للمدنيين” قد تبدو مطلبًا منطقيًا بعد الكارثة الإنسانية، إلا أن التساؤل المركزي بالنسبة للفلسطينيين هو: من يحدّد تفويض هذه القوة؟ ولصالح من تعمل؟ إذ تُقرأ التجارب الدولية في البوسنة وكوسوفو وتيمور الشرقية كتحذير، بعدما تحوّل الوجود الدولي فيها إلى إدارة طويلة الأمد كرّست الانقسام أو قيّدت السيادة الوطنية.
وتتعمق المخاوف من تكرار السيناريو نفسه في غزة، بحيث تدخل قوة دولية باسم الحماية ثم تتحوّل مع الوقت إلى سلطة أمر واقع تتحكم بالمعابر والحدود والمشاريع، بما يكرّس الفصل بين غزة والضفة ويخلق وصاية دولية بصيغة جديدة.
ويتصدّر ملف سلاح المقاومة المشهد، إذ يتعامل القرار معه كـ“مشكلة أمنية” يجب تفكيكها أو تحييدها، بينما ترى الفصائل أن هذا السلاح جزء من حق الشعب في مقاومة الاحتلال، ولا يمكن فصله عن سياقه المتمثل في الحصار وغياب أي مسار سياسي جاد يضمن الحقوق الوطنية. وترفض الفصائل أي ربط بين وقف العدوان أو الإعمار وبين نزع السلاح أو تصنيفه ضمن “الإرهاب”، معتبرة ذلك تفريغًا لحق المقاومة وتحويله إلى ملف أمني.
ومع ذلك، يبقى النقاش حول طبيعة هذا السلاح وإدارته مسألة فلسطينية داخلية، تتعلق باستراتيجية وطنية جامعة وتوازن بين الفاعلية العسكرية وحماية المدنيين.
الانقسام الفلسطيني إزاء القرار لا يقتصر على ثنائية “مقاومة مقابل مجتمع دولي”، بل يمتد إلى الداخل؛ فحركتا حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية تعتبره مقدمة لوصاية دولية وفصل غزة عن الضفة، بينما ترى السلطة الفلسطينية فيه فرصة دبلوماسية يمكن تعديلها واستثمارها لتعزيز دورها في الإعمار والإدارة. ويعكس هذا التباين اختلافًا في الرهانات: فالفصائل تضع وحدة الأرض وحماية السلاح ورفض الوصاية في المقدمة، بينما تراهن السلطة على توسيع حضورها ضمن النظام الدولي.
ويتداخل البعد الاقتصادي مع الأمني والسياسي، إذ لا تُعد قضايا المساعدات والإعمار والتحكّم بالمعابر شؤونًا تقنية؛ فإدارة تدفق الأموال والمواد وتحديد الجهات المنفذة قد تتحول إلى أدوات ضغط لإعادة تشكيل المجتمع والنخب السياسية. كما يُنظر إلى استهداف وكالة الأونروا وتقليص دورها بوصفه مساسًا بجوهر قضية اللاجئين وحق العودة.
في المقابل، يشير مؤيدو القرار إلى معطيات واقعية مثل اختلال ميزان القوى والحاجة الملحّة لوقف نزيف الدم وصعوبة حشد تمويل دولي واسع خارج إطار رسمي منظم. ويرون أن قبول إطار دولي غير مكتمل قد يكون أقلّ كلفة من استمرار الحرب.
لكن معارضي القرار يردّون بأن التجربة الفلسطينية الطويلة مع “المجتمع الدولي” لا تمنح أسبابًا للثقة، وأن قبول صيغ الوصاية تحت ضغط الضرورة الإنسانية اليوم قد يفرض واقعًا سياسيًا جديدًا غدًا.
وفي المحصلة، يتجاوز الجدل الفلسطيني سؤال “مع أم ضد” القرار، ليصل إلى سؤال أعمق: هل يُراد لغزة أن تكون بوابة لحل عادل أم مدخلًا لفرض وصاية دولية وتسوية منقوصة؟



