ابدأ من بيتك
ليلى غليون
مخطئ من يظن أن سر قوة المجتمعات والأمم وتماسكها وصلابتها يكمن في قوة جيوشها وعتادها وعدتها، أو قوة صناعاتها واقتصادها، وإن كان كل ذلك من أسباب قوتها ونهضتها، ولكن السر يكمن في تلك اللبنة الصغيرة، التي بصلاحها وتماسكها فإنها تشكل قوة جبارة تكون الحصن الحصين لكل مجتمع ولكل أمة.
إنه البيت، إنها الأسرة، حيثما حل الصلاح والتوازن فيها، تحقق للمجتمعات ثباتها وصلاحها، وحيثما نخر فيها سوس التفكك، تفكك وانهار بعدها كل شيء.
فبيوتنا ليست مجرد جدران وسقف يحمينا من الحر والقر، فهي المدرسة الأولى وهي المعمل الإنساني الذي سينتج الفرد، ففي هذه المدرسة الأولى ستتشكل كل القيم، وتغرس الأخلاق، وستبنى الشخصية التي ستخرج وتُقدَّم إلى المجتمع غدًا أو بعد غد، والأسرة ليست مجرد إطار اجتماعي، فهي نواة للوجود الإنساني وفضاء للقيم السامية والتي منها سيتعلم الفرد أولى دروس الحياة، الحب، الصبر، العطاء، المسؤولية وكل مفردات الخير، وعلى هذا الأساس فإن إعداد الأسر إعدادًا صالحًا سليمًا هو بمثابة إعداد للمجتمع الصالح السوي الذي ننشده.
وإننا إذ تتفطر فينا القلوب كمدًا وغمًا على واقع مجتمعنا المأساوي الذي يتقاذف شرره في كل تفاصيل حياتنا، فكثيرًا ما تتحدث عن التغيير الذي نصبو إليه، وتتعالى الأصوات الصادقة والدعوات المنادية إلى التغيير والإصلاح، وقد خنق الأنفاس دخان هذا الواقع المحرق، فإن القلوب المخلصة تهفو وتتضرع إلى الله تعالى أن يغير هذا الحال بأحسنه، لتعقد الآمال وتتوجه الأنظار إلى المؤسسات، المدارس، المنابر وغيرها على أمل أن يجدوا مفتاح التغيير بحوزتها، محملين إياها مسؤولية تغيير ما يحدث في مجتمعنا، وقد نسينا أن التغيير الحقيقي لا يبدأ من كل ما ذكر آنفًا وإن كان لكل دوره ووظيفته في إحلال هذا التغيير، بل إن التغيير يبدأ من أقرب مكان نعيش فيه كل يوم وكل ساعة، إنه يبدأ من بيوتنا التي تصنع القيم أو تهدمها، من بيوتنا التي تغرس المبادئ والأخلاق أو تقتلعها، من بيوتنا التي تنهض بالإنسان أو تضيعه، فشعار التغيير أولًا لا يُحمل في الخارج بل يًحمل من الداخل، من بيوتنا التي تؤوينا.
فالإصلاح العام وهو إصلاح المجتمع، يبدأ من الإصلاح الخاص وهو إصلاح البيوت.
فابدأ من بيتك وكن أنت التغيير الذي تريد أن تراه في مجتمعك.
ابدأ من بيتك، حين تراك تلك العيون الصغيرة وأنت في مصلاك خاشعًا، ولكتاب الله تاليًا ومتدبرًا، وفي عملك مخلصًا، وفي قولك صادقًا محقًا تقول الحقيقة مهما كانت، سيكبرون وسترتوي نفوسهم من هذه القيم وستظللهم رقابة الله أينما كانوا وأينما حلوا، يأتمرون بما أمر الله به ويجتنبون ما نهى سبحانه عنه.
ابدأ من بيتك، وانظر إلى ذاك الغرس الصغير الذي ينمو ضمن جدران بيتك وفي أحضانك، أطفالك قرة عينك، اغرس فيهم القيم التي بدونها لن يتحقق التغيير، قيمة احترام الغير وقيمة الوقت، وأمانة الكلمة، والصدق، والحب، والعطاء وكيف يكون الاستماع للغير من غير أن تطلب منهم أو تعلمهم ذلك، علمهم أن هذه المبادئ لا تتجزأ ولا تتلون ولا تخضع لمزاج أو تقلبات الحالة النفسية أو لتغير الزمان والمكان، علمهم بالقدوة لا بالأوامر، فالكلمة قد تُنسى ولكنها المواقف هي التي تبقى، فسلوكياتك وأفعالك أمامهم أبلغ من ألف نصيحة أو موعظة تلقيها على مسامعهم.
ابدأ من بيتك، فمنه يولد الحب الحقيقي بلا مقابل، وفيه تصاغ ملامح المستقبل في عيون صغيرة تنظر إليك لتتعلم منك كيف تكون الحياة، اجعل بيتك أرضًا ممهدة خصبة تزرع فيها رحمة ومودة، فقد جعل الله تعالى بينك وبينها ( زوجتك) مودة ورحمة، فالمشاعر الصادقة غرس لا يذبل، والابتسامة الصافية نور لا ينطفئ، والكلمة الطيبة شمس لا تغيب. قدر زوجتك، احترمها، وابد لها مشاعر المحبة على مرأى من هذه العيون الصغيرة التي تراقب كل شيء حولها وتريد أن تتعرف على كل شيء ببراءتها، حينها سيعرفون ويتعلمون أن الحب وإبداء المشاعر وترجمتها ليس ضعفًا ولا قلة هيبة أو قلة رجولة ، بل هو قوة راقية وقيمة عليا لا تقدر عليها إلا النفوس الراقية.
ابدأ من بيتك، فالتربية أولًا والتعليم ثانيًا، وإياك أن تظن أن العلم وحده كاف لأن يصنع إنسانًا سويًا أو يبني مجتمعًا متوازنًا إذا لم ترافقه تربية راشدة ترسخ القيم والضمير والمسؤولية في النفس، وإن أي تقدم أو نهضة سيكون مآله الانهيار إذا لم يكن مؤطرًا بالأخلاق الراشدة. يقول فيكتور هوجو: “العلم دون ضمير خراب للروح”. ويقول المفكر الإسلامي الجزائري مالك بن نبي: “إن مشكلة أي أمة هي مشكلة الأخلاق أولًا، فإذا حُلت مشكلة الأخلاق، حُلت كل مشكلة”، وقد رأينا ماذا فعل العلم المنزوع من الأخلاق عندما اخترع القنبلة الذرية.
إبدأ من بيتك، اغرس فيه قيمة الحوار لا الصراخ ولا فرض الآراء بالقوة، فالبيت الذي يُبنى على الحوار وحسن الاستماع والإصغاء، ستتخرج منه شخصيات ذات عقول حرة، واثقة من نفسها، تعبر عن آرائها بكل أريحية ولا تخاف أن تبدي رأيها، علم هذا النشء الصغير أن الخلاف أو الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، بل سيثري القضية وسيساهم في حل خيوطها المعقدة.
ابدأ من بيتك، حين تربي صغارك على الاحسان في القول والعمل، وعلى حب الخير والعدل، وعلى مراعاة مشاعر الآخرين، حين تسامح، حين تصفح، حين تصبر، حين تستمع، حين تبتسم، حين تتنازل، حين تظهر الاحترام والتقدير لأهل بيتك وللناس، حين تظهر مشاعر الحب تجاه صغارك، فالمسؤولية الأسرية أمانة تبدأ منك أيها الأب أيتها الأم، لتنتهي بجيل صالح يعطي للحياة قيمة ومعنى، وماذا نريد غير هذه النتيجة؟!
ابدأ من بيتك، فملامح التغيير تبدأ من عتبة بيتك، فلا أحد ينكر أن الأسرة اليوم تحيطها تحديات كثيرة فرضها تسارع الحياة وضغط العمل وغياب التواصل الحقيقي الذي فرضته التقنيات الحديثة، وإن أخطر هذه التحديات الانعزال العاطفي في البيوت وخارجها، فإياك ان تجعل بيتك كبيوت الثلج التي فقدت رونقها ودفئها العاطفي، أبناؤها يعيشون تحت سقف واحد، ولكن قلوبهم شتى، ولكن اجعل من بيتك واحة غناء يهيم أفرادها في فضاءات فرح أنت صانعه.
ابدأ من بيتك، فلا تشيد حوله جدرانًا تفصلك عن الناس، بل اجعله منارة تضيء على من حولك، اجعل منه جنة صغيرة بإحسانك وخلقك، فحين تزرع في بيتك بذور الخير فإن ثمارها ستتعدى حدود بيتك لتصل إلى الشارع إلى المدرسة، إلى الحي، إلى المجتمع بأسره، علم صغارك حب الجار وتوقير الكبير ومساعدة المحتاج، فقيمة الانسان بما يعطي ويقدم لا بما يملك من حطام الدنيا.
فلا نبحث عن التغيير في الخارج لأن جذوره ضاربة في الداخل، في البيوت التي حين تستقيم يستقيم بعدها كل شيء.



