لا تحزني يا الفاشر وكفكفي دموعك يا غزة

الشيخ كمال خطيب
رغم أن شعبنا وأمتنا والعالم ما زالوا يعيشون على وقع الكارثة والحرب الدموية التي يوقعها جيش الاحتلال الإسرائيلي، بأوامر من نتنياهو وحكومته الفاشية وبدعم وحماية من أمريكا على أهلنا وأبناء شعبنا في غزة، هذه الحرب المستمرة منذ عامين والتي حصادها القتل والتهجير والتدمير والجوع والمرض والعطش .
وخلال ومع جرح غزة النازف وخذلانها المستمر، فإنها الأخبار تتوارد عن الكارثة التي تقع والمحنة التي تنزل بأهلنا في السودان عمومًا وفي دارفور على وجه الخصوص حيث القتل والتهجير والنزوح والتدمير والجوع والمرض والعطش، وفوق ذلك كله، فإنه الاغتصاب وهتك الأعراض.
إنها السودان التي دخلها الإسلام منذ عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان ذلك على يد الفاتح البطل عبد الله بن أبي السرح. ورغم وجود ممالك وإمارات مسيحية كثيرة في السودان، إلا أن الإسلام أخذ ينتشر فيها حتى أصبح المسلمون فيها هم أكثر أهلها. ويكفي بلاد السودان وشعب السودان فخرًا أن منهم لقمان الحكيم الذي أورد الله اسمه في القرآن، بل إنها سورة لقمان، وكان أسود البشرة من بلاد النوبة في السودان وكان وليًا صالحًا وليس نبيًا {وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا لُقۡمَٰنَ ٱلۡحِكۡمَةَ أَنِ ٱشۡكُرۡ لِلَّهِۚ وَمَن يَشۡكُرۡ فَإِنَّمَا يَشۡكُرُ لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيد*وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} آية 12+13 سورة لقمان.
ولأن السودان بلاد واسعة جدًا حيث تبلغ مساحتها 1,886 مليون كم مربع حيث تعتبر من أكبر ثلاث دول مساحة في أفريقيا، أكبر من 20 دولة مساحة في العالم، وتتكون من 18 ولاية إحداها وأكبرها هي دارفور التي تبلغ مساحتها نصف مليون كم مربع، أي قريبًا من ربع السودان، وتعادل مساحة فرنسا.
ولمكانة السودان وموقعها الجغرافي وأهميتها الاستراتيجية، فإنها كانت دائمًا مطمعًا للغزاة والمستعمرين قديمًا وحديثًا، فقد تمّ تشجيع المسيحيين في جنوب السودان على الانفصال بعد حرب دموية دعمها وموّلها الغرب وإسرائيل حتى نجحوا في ذلك في العام 2011.
ويبدو أن ما يجري في دارفور فإنها كل الملامح التي تشير إلى مخطط جديد لتقسيم السودان وانفصال واستقلال إقليم دارفور. هذا المخطط الذي تقوم عليه ما تسمى قوات الدعم السريع المشكّلة من قبائل الجنجويد وحلفائهم، مدعومين بمرتزقة أجانب تموّلهم وتسلّحهم دويلة الإمارات.
علي دينار ستشهد لك الكسوة والآبار
سمّي إقليم دارفور بهذا الاسم نسبة لأكبر قبيلة في تلك المنطقة وهي قبيلة الفور. ومعنى دارفور أي أرض الفور، هذه القبيلة المسلمة ولكنها غير عربية، وهي التي حكمت وأدارت الإقليم خلال أربعمائة سنة بين الأعوام 1445-1916. وكان آخر سلطان من قبيلة الفور هو السلطان علي دينار الذي حكم الإقليم بين الأعوام 1889-1916، وكانت عاصمته مدينة الفاشر ومعناها بالعربية “مقر السلطان”.
كان السلطان علي دينار صاحب علم ودين وورع إلى جانب كونه سياسيًا وقائدًا عسكريًا من الطراز الأول، ولأن هويته كانت إسلامية واضحة، فإنه قد انحاز إلى جانب الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، ولذلك فقد قاتله المستعمر البريطاني الجاثم على صدر السودان يومها حيث كانت معركة “برنجيه” التي وقعت يوم 6/11/1916 أي في مثل يوم أمس قبل 109 سنوات وفيها استشهد رحمه الله، وقد استخدمت يومها بريطانيا الطائرات في المعارك لأول مرة في أفريقيا.
كان موقف السلطان علي دينار رحمه الله وهو المسلم غير العربي، أنه انحاز إلى جانب الدولة العثمانية ضد الإنجليز، بينما انحاز العربي الشريف حسين إلى جانب الإنجليز ضد الدولة العثمانية وقاتلها.
أقام السلطان علي دينار دولته على الشريعة، وأقام مراكز لتحفيظ القرآن والتربية الدينية. كان في كل سنة يرسل خراج المحاصيل التي يجمعها من أصحاب الأراضي في دارفور لينفقها ويوزعها على فقراء مكة والمدينة. وهو الذي بنى مصنعًا في مدينة الفاشر عاصمة دارفور لصنع كسوة الكعبة الشريفة، ولمدة عشرين سنة كان هو من يصنعها، وقبيل موسم الحج كان يرسلها في موكب كبير إلى مكة المكرمة. وكان قبيل موسم الحج كذلك يرسل فرقًا من جيشه إلى مراكز الطرق التي كان يمرّ منها الحجّاج القادمون من غرب أفريقيا لحمايتهم من قطّاع الطرق من اعتداء ممالك وإمارات غير إسلامية عليهم. وهو الذي قام بحفر الآبار قرب المدينة المنورة عند ميقات “ذو الحليفة” حيث من هناك كان يحرم الحجاج، فقام بتجديد المسجد وحفر الآبار التي سميت باسمه “آبار علي” ومن هناك كان يزوّد الحجاج ليس فقط بالماء بل بالطعام في طريقهم إلى مكة المكرمة لأداء ركن الحج.
إنه كان يؤمن بالوحدة الإسلامية العالمية رغم كونه ليس عربيًا ولسان حاله يقول ما قال الشاعر:
ولست أرى سوى الإسلام لي وطنًا الشام فيه ووادي النيل سيّان
وحيث ما ذكر اسم الله في بلد عددت أرجاءه من لبّ أوطان
وكان رحمه الله محبًا عاشقًا لرسول الله ﷺ حتى أنه ألّف ديوانًا من الشعر في حبّ رسول الله ومدحه أسماه “ديوان المديح في مدح النبي المليح”.
وتقديرًا لموقفه الإسلامي وانحيازه إلى جانب الدولة العثمانية، وبعد أن قام الاستعمار الإنجليزي بالانتصار عليه وقتله، فقد حوّل الحاكم العسكري الإنجليزي قصره إلى مقرّ عسكري له ثم لاحقًا تم تحويله إلى متحف وطني سوداني. وفي العام 2006 قامت تركيا بترميم القصر على نفقتها تخليدًا لذكراه ومواقفه النبيلة.
الإمارات الشرّيرة
إن ما يجري هذه الأيام من حرب إبادة في الفاشر عاصمة دارفور وفي عموم الإقليم، لا يشبهها إلا حرب الإبادة التي تقوم بها إسرائيل بحق أهلنا في غزة.
إن ضحايا القتل والتشريد والتجويع والاغتصاب في دارفور هم من المسلمين غير العرب وخاصة قبائل الفور وغيرهم، كذلك من قبائل غير عربية وغير مسلمة. ومن يرتكب المجازر فإنها قبائل وعصابات الجنجويد برئاسة محمد حمدان دقلة المعروف باسم “حميدتي” والذي تدعمه وتمدّه بالسلاح بريطانيا وتمدّه بالأموال وبالمرتزقة من دول العالم دولة الإمارات الشرّيرة.
إنها أوجه الشبه الكبيرة جدًا لما يجري في غزة وفي دارفور حيث بصمات حكام الإمارات واضحة، ففي غزة يدعمون عصابات أبو شباب المتحالفة العميلة مع الاحتلال الإسرائيلي لضرب وتمزيق نسيج غزة وشعبها. وفي دارفور يدعمون عصابات الجنجويد بقيادة حميدتي لتمزيق نسيج السودان وتقسيمه.
وهكذا هو دورهم في ليبيا بدعم المجرم “خليفة حفتر” لاستمرار جرح ليبيا النازف بعد أن تخلّصت من طاغيتها القذافي، وهكذا كان دورهم في اليمن بعد الثورة وقد أقاموا لهم قوة عسكرية تنفّذ سياساتهم يقودها عبدروس الزبيدي. وهكذا كان دور الإمارات خلال الثورة السورية فهي التي احتضنت عائلة الأسد، حيث أخت بشرى الأسد مقيمة هناك وكذلك أبناء عمومته، وقد نقلوا أموال الشعب السوري التي نهبوها إلى بنوك الإمارات.
وكانت الإمارات أول دولة عربية تفتح سفارتها في دمشق بعد انتصارات بشار وطرد الثوار إلى إدلب ظانين أن ثورة الشعب السوري قد انتهت إلى الأبد. وما أن كان يوم 8/12/2024 ودخول الثوار إلى دمشق وهروب بشار حتى تلوّنت الإمارات وغيّرت جلدها كما تفعل الأفعى، وتظاهرت بتأييد ودعم الثورة، لكنها المدّة التي لم تطل حتى بدأت ملامح تشكيل قوات شبه نظامية تموّلها الإمارات بادّعاء أنها قوات شعبية رديفة وهي في الحقيقة ليست إلا للطعن في الظهر ومحاولة دقّ أسافين وخلق إشكالات داخلية في سوريا.
وإنها الإمارات التي موّلت انقلاب السيسي الدموي على الرئيس الشرعي الشهيد محمد مرسي، وهي التي موّلت ولا تزال تموّل انقلاب المهرج قيس سعيّد على ثورة الشعب التونسي والتي كانت باكورة ثورات الربيع العربي نهاية العام 2010.
حكام الإمارات لا أصالة ولا شرف
وأما عن دور الإمارات في التآمر على غزة فإنه الذي بدأ منذ حرب العام 2014 التي شنتها إسرائيل على غزة يوم تم الكشف عن رجال مخابرات إماراتيين بزيّ رجال إسعاف ودفاع مدني جاؤوا ليساعدوا أهل غزة، بينما هم رجال أمن واستخبارات جاؤوا لتتبع ومعرفة المواقع العسكرية والأنفاق في غزة لصالح الاحتلال الإسرائيلي.
إنها الإمارات التي لم توقف رحلاتها الجوية إلى مطار تل أبيب رغم المجازر التي ترتكب بحق أهالي غزة، فكانت دبي وأبو ظبي المتنفّس الجوي لإسرائيل تمامًا مثلما كان خط التجارة البريّ الذي أقامته الإمارات في موانئها عبر السعودية والأردن وصولًا إلى إسرائيل لنقل كلّ ما تحتاجه إسرائيل، وذلك بعد الحصار البحري الذي فرضه الحوثيون على التجارة والملاحة في البحر الأحمر وخليج عدن.
إنها الإمارات التي موّلت ودعمت ميليشيات العملاء الذين ظهروا في غزة في أوج المجازر التي ارتكبتها إسرائيل بحق أهلها. إنها ميليشيات ياسر أبو شباب وحسام الأسطل ورامي حلس والمنسي التي قامت ليس فقط بنقل المعلومات للاحتلال، بل إنها التي سرقت ونهبت شاحنات الإغاثة وقامت ببيع حمولاتها لتحقيق ثراء فاحش، وقد تبيّن أن سيارات الدفع الرباعي الحديثة التي كانوا يستعملونها كانت قادمة من الإمارات إما عن طريق القاهرة أو تل أبيب.
وإنها الإمارات التي أحزنها وأبكاها ليس حال أهل غزة والمجازر التي ارتكبت بحقهم، وإنما أحزنها وأبكاها عدم قدرة نتنياهو وجيشه الدموي على تحقيق أهم هدف من أهداف الاحتلال وهو القضاء على حركة حماس وفق خبراء ومحللين عسكريين إسرائيليين، وسرعان ما بدأت الإمارات تلوّح وتلمّح بأنها لن تساهم في مشروع إعادة إعمار غزة ما دامت غزة تحت سيطرة وحكم حركة حماس.
إنها الإمارات إذن تقوم بالدور الذي يأبى أن يقوم به عربي أصيل أو مسلم صادق أو حتى إنسان شريف، ولكنهم حكام الإمارات حيث غابت عنهم الأصالة والشرف، فإنهم يقومون بإمداد عصابات في السودان بالمال والسلاح والمسيّرات لاستمرار نزيف الدم والدمار سعيًا منها للوصول إلى ثروات السودان وخاصة مناجم الذهب والنفط واليورانيوم لإشباع جشعها الذي لا يقف عند حدّ.
لا تحزني يا دارفور وكفكفي دموعك يا غزة
إنهم أهلنا وإخوتنا في السودان، ورغم المجازر والتشريد والجوع وانتشار الأمراض، إلا أنهم لم يحظوا باهتمام لا عربي ولا إسلامي ولا عالمي، فهل لأن بشرتهم سمراء أم لأنهم مسلمون أم لكلا السببين مجتمعين، سمر ومسلمون؟!
إنهم أشغلونا بما تسمى المشاريع الوطنية حتى لا يهتم المصري بالسوداني، ولا يتألم المغربي للجزائري، ولا يبكي العراقي لحال السوري. يبدو أن ما يجري في السودان هو أقلّ من أن ينعقد لأجله مؤتمر قمة عربي أو إسلامي رغم المعرفة المسبقة بقراراته التافهة. ولم ينعقد لأجله اجتماع عاجل لمجلس الأمن لأنه منشغل بأوكرانيا حيث البشرة البيضاء والعيون الزرقاء والشعر الأشقر.
لكن شعوب الأمة المقهورة والمخذولة هي وحدها من تتألم لحال السودان وتبكي لحال غزة، وتكاد تنفجر غضبًا ممن يتآمرون على الأمة ومصيرها ومستقبلها ولسان حال كل واحد من أبناء الأمة الصادقين يقول ما قاله الشاعر أنس الدغيم ابن الشام:
إني أنا الممتد من بغداد في شرق البلاد إلى ذرى تطوان
ان كان قلبي من دمشق فإن لي قلب يعيش الهمّ في السودان
إنها قلوب الخيّرين من دمشق ومن غزة ومن القدس ومن بغداد ومن كل بلاد العرب والإسلام، تعيش همّ السودان وهمّ دارفور وتلعن الظالمين والمأجورين والعملاء.
كفكفي دموعك يا غزة، لا تحزني يا الفاشر، لا تحزني يا صنعاء بل لا تحزني يا قاهرة ولا تحزني يا مكة ولا تحزني يا طيبة الطيبة فإننا بين يديّ دورة جديدة من دورات تاريخ أمتنا بها نطوي دورة وصفحة الألم والدموع والدماء، ونفتح صفحات المجد والعزة والإباء، وإن غدًا لناظره قريب.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.


