جِمال الشّعب السعودي وحمار “هَمَشِيَّح”
الشيخ رائد صلاح
هكذا قال سموترتش؛ أحد وزراء حكومة نتنياهو الحالية: (إذا قالت لنا السعودية: تطبيع مقابل دولة فلسطين فالإجابة: لا، شكرًا، استمروا في ركوب الجمال في الصحراء في السعودية).
وسلفًا أقول: لديّ ملاحظات كثيرة على مواقف الحكومة السعودية بعامة، وولي العهد محمد بن سلمان بخاصة، وإلى جانب هذه الملاحظات الكثيرة، هناك شعب سعودي، وهو شعب كريم ومحب للشعب الفلسطيني، ومحب للقدس والمسجد الأقصى المباركين، ومناصر لقضايا الأمة الإسلامية والعالم العربي.
وخلال الرحلات التي شدَدتُ فيها الرحال إلى أرض الحرمين لأداء الحج والعمرة، فقد أكرمني الله تعالى وزرت العشرات من الأهل السعوديين، فوجدت فيهم كل الخير وكل الغيرة على واقعنا الإسلامي والعربي والفلسطيني، ولمست فيهم كل الحرقة على آلامِنا الكثيرة الممتدة على امتداد جغرافيّة المسلمين والعرب والفلسطينيين.
ويوم أن قال سموترتش هذه المقولة الاستعلائية، وطالب الشعب السعودي أن يواصل ركوب الجمال في الصحراء، وكأنه غمز بِتخلّف الشعبِ السعودي الذي لم يصل إلى مرحلة ركوب السيارة في حسابات سموترتش؛ يوم أن قال ذلك قلت في نفسي: إذا قال الشاعر العربي في الجاهلية في عَجُز بيت شعر له: (ومن يساوي بأنفِ الناقة الذّنبا) فإني أقول اليوم: ومن يساوي بالجمل الحمارَ؟ ثم من يساوي بالناقة الأتان؟
وإذا قال مثلُنا الفصيح: أين الثرى من الثريا، فأنا أقول اليوم: أين الحمار من الجمل؟ وأين الأتان من الناقة؟ فهي الناقة؛ أنثى الجمل التي كانت مركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفائه من بعده، وسائر من جاء بعدهم بإحسان إلى يوم الدين.
وهو الحمار أو الأتان الذي سيكون مركب (همشِيّح) كما هو وارد في ملحقات توراة اليوم.
وإذا وجد سموترتش في الناقة أو الجمل محلَّ تندُّر وعلامة فارقة للغمز واللمز والرجم بالتخلّف لها ولمن ركبها، فماذا نقول عن الأتان أو الحمار؟!
وها هي الناقة قيل عنها سفينة الصحراء، وقيل عن الجمل: أصبر من جمل، وهي مقولات جاءت تُبرز بعض محاسن الناقة والجمل، فماذا قيل عن الأتان أو الحمار إلا أن البعض جعل منهما رمزًا للغباء والبلادة؟
وها نحن عندما نقرأ في القرآن الكريم نقف على قول الله تعالى حول الجمل: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}. ومن الواضح أن هذه الآية القرآنية تدعونا للتفكر في خلق الجمل والناقة، وما يحملان من أسرار في بنيتهما الجسدية تدل على عظمة خلق الله تعالى.
وفي المقابل عندما نقرأ في القرآن الكريم نقف على قول الله تعالى حول الحمار: {إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}. ومن الواضح أن هذه الآية القرآنية تحذرنا من انفلات أصواتنا دون ضبط ولا رقابة، حتى لا ترتفع وتيرة هذه الأصوات ارتفاعًا قبيحًا وتجعل منها كصوت الحمير.
وكـم لنا مع الناقة تاريخ أليف، فنحن نألفها وهي تألفنا، وكـما لنا مع الجمل عبر وبيان حتى قيل عن صاحب الهمة فينا: جملُ محامل.
وهذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما هاجر من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة كان قد ركب على الناقة، وهكذا كانت الناقة هي المركب الذي نقل الإسلام من العهد المكي إلى العهد المدني، ومن مرحلة الضعف إلى مرحلة السيادة، ومن مرحلة المطاردة إلى مرحلة التمكين، فبارك الله تعالى في سنام تلك الناقة التي ركبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبحرت به في الصحراء تتحدى كل المخاطر والصعاب حتى رست به وبصاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى شاطئ الأمن والأمان والمنعة بالمدينة المنورة. فما أقل عقلِ من يسخر من الناقة ومن وزنِها، أو يسخر من راكبها وبضاعته!!
وهذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما دخل مكة المكرمة فاتحًا وصادحًا يقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركب على الناقة.
وهكذا كانت الناقة هي المركب الذي حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة المكرمة بعامّة، وإلى المسجد الحرام بخاصة، ليرفع في سمائها راية التحرير من العرب المحتلين لهُما، وراية التطهير من مئات الأصنام التي دنّست طهرهما، وراية التوحيد التي كانت قد صودرت على مدار قرونٍ في عصر مظلم عُرف بعصر الجاهلية.
وهكذا كانت الناقَة هي المركب الأمين والمتين الذي حمل كل هذه الغايات السامقة في مسيرة الإنسانية، وجعل لها راية توحيد تأنس في ظلالها بعد أن كان قد خيّم على الأرض ظلمات الكفر والشرك وانحراف التاريخ وفساد الحاضر.
وهكذا كانت الناقَة هي التي حملت العود المشهود الذي حمله رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة وراح يخز به الأصنام التي كانت قد أحاطت بالكعبة إحاطةَ السِّوارِ بالمِعصَم، فتهاوت تلك الأصنام وسقطت على وجوهها وتحولت إلى حطام.
فيا لك من ناقة يا ناقة الفتح المبين؛ فتح مكة! ليتني نلت شرف أن أُطعِمَك أو أن أسقيَكِ أو أن أسرح شعر عنقك وشعر سنامِك!
ويا لغباءِ من تسوِّل له نفسه أن يتطاول على مقامك الرفيع، فهو كطفل حمل حجرًا ورماه كي يشجّ به القمر، فوقع على رأسه وشجَّهُ. وهو كنافخ على الشمس ليطفئ نورُها، فهل هناك أجهل منه وأسفه منه؟!
وهي الناقة التي ركبَها الفاروق عمر رضي الله عنه وأبحرت به من شاطئ سكينةِ المدينة المنورة، على ساكنِها أفضل الصلاة والسلام، إلى شاطئ سكينة القدس والمسجد الأقصى المباركين.
وهناك عند أسوار القدس المباركة تسلّم مفاتيحها من البطريرك صفرونيوس الذي كان على يقين، لما رأى الفاروق عمر بعينيه، أن هذا هو الذي تحدثت عنه كتب أهل الكتاب، وهذه أوصافه كما تحدثت عنه هذه الكتب، وهذا الذي سينال شرف فتح القدس فتحًا سلميًا لم تُرفع فيه السيوف، ولم تُرَق فيه الدماء، ولم تُزهق فيه أرواح الأبرياء.
فهي ناقة الفاروق عمر رضي الله عنه، وهي ناقة القدس والمسجد الأقصى المباركين، وهي ناقة تمكينهما في لحظات دخول الفاروق عمر إليهما ومِن خلفه الصحابة رضي الله عنهم؛ تمكينهما من الاغتسال من أدران المجوسية والكفر والشرك، ثم رفع راية التوحيد في سمائهِما.
وهكذا اكتمل المشهد التوحيدي المطلوب. فهي راية التوحيد قد أصبحت مرفوعة في سماء مكة المكرمة والمسجد الحرام، وفي سماء المدينة المنورة على ساكنِها أفضل الصلاة والسلام والمسجد النبوي، وفي سماء القدس والمسجد الأقصى المباركين.
فيا لتلك الناقة التي نالت شرف حمل كل هذه الفضائل التي تناطح كلُّ فضيلة منها عنانَ السماء، وهل هناك عاقل في الأرض يساوي بخُفّ هذه الناقة كلَّ حمير الدنيا؟!
وهي الناقة التي حملت رسالة الإسلام للعالمين؛ فهي التي أبحرت بالصحابة رضي الله عنهم من مكة المكرمة والمدينة المنورة حفظهما الله تعالى، إلى شتّى بقاع العالم القديم؛ فوصلوا إلى الشام والعراق ومصر وسائر إفريقيا وفارس وخُراسان وما وراء النهر وتركيا والهند، وما أن وطأت أقدامهم كل هذه المواقع من الأرض حتى بنوا فيها المساجد، ورفعوا في سمائها راية التوحيد، وملأوا الأرض قسطًا وعدلًا، وحرروا العبيد، وردّوا للمرأة كرامتها، وللشعوب حريتها وإنسانيتها، وقلّموا أظافر الطغاة والبغاة والعتاة والظالمين الذين قد أذلّوا شعوبهم، وانتهكوا أعراضهم، وصادروا لقمة طعامهم. فيا لتلك الناقة التي حملت رحمة أبي بكر الصديق وعدل عمر وحياء عثمان وعِلم عليّ- رضي الله عنهم- إلى كل أهل الأرض!
ويَا لَتلك الناقة التي حملت فِقه ابن عباس، وفَهم معاذ بن جبل، وزُهد أبي ذر، وتواضعَ سلمان الفارسي، ورُؤية حذيفة بن اليمان، وحِنكة معاوية بن أبي سفيان، وعبقرية خالد بن الوليد، وأمانة أبي عبيدة، وحكمة شداد بن الأوس، وهمّة أبي أيوب الأنصاري، وكنوز العبادلة، وندى صوت بلال بن رباح، وروحانية أبي الدرداء، وحفظ أبي هريرة، وثبات عمار بن ياسر، ومكارم مَن سِواهم من الصحابة والصحابيات إلى ربوع العالمين.
وها نحن اليوم لا نعرف بقعةً من الأرض إلا احتضنت صحابيًا أو اثنين أو أكثر. فيا لشرف هذه القافلة التي ضمت ألف ناقَة وأكثر، التي حملت كل هؤلاء الصحابة والصحابيات رضي الله عنهم، وحملت خيرهم الذي ما بخلوا به على أحد من البشرية قاطبة!
وها هو كل عاقل في الأرض يعلم أنه على أكتاف هذه القافلة التي ضمت ألف ناقَة وأكثر، قد قامت حضارة إنسانية عالمية، احتضنت كل الشعوب على اختلاف أنسابها وأجناسها وألوانها ولغاتها وأديانها.
وهي الحضارة الإسلامية الفريدة من نوعها في عمر البشرية لأنها هي الحضارة الوحيدة التي جمعت بين العلم والإيمان، وبين مطالب الروح ومطالب الجسد، وبين سلامة القلب ونباهة العقل، وبين التمدن والأخلاق، وبين السيادة والتسامح. وهي الحضارة الوحيدة التي عاش فيها المسلمون وأهل الكتاب وغيرهم سواء بسواء كأصحاب مواطنة واحدة لا فرق بينهم إلا بالتقوى.
وهي الحضارة الوحيدة التي عاش فيها الشعب اليهودي آمنًا مطمئنًا، يتمتع بكامل حقوقه دون أن ينقص منها شيء. فَعاش هكذا في مرحلة الخلافة الراشدة، ثم الخلافة الأموية، ثم الخلافة العباسية، وصولًا إلى الخلافة العثمانية.
فهكذا كان حاله في بغداد وفي الأندلس وفي إسطنبول، لدرجة أن السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، عندما بنى بيتًا كبيرًا للعجزة في إسلامبول، جعل من ضمن مرافقه مسجدًا وكنيسًا وكنيسة، مما يعني أن ذلك البيت الكبير كان للعجزة كلهم، سواء كانوا مسلمين أو يهودًا أو مسيحيين!!
فيا لهذا التاريخ الإسلامي العظيم! ويا لهذه الحضارة الإسلامية العظيمة! ويا لهذه القافلة التي ضمت ألف ناقَة وأكثر، والتي حملت على أكتافها حركة المد الإسلامي: دعوة ودولة وتاريخًا وحضارة وسيادة وقيمًا، ونشرتها بعدل وسوية في ربوع العالمين.
ومن يدري؟! لعل مِن ضمن جِمال الأهل السعوديين التي غمز ولمز فيها سموترتش، مَن هي ناقات من أحفاد أحفاد تلك الناقة المباركة التي حملت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحملت الفاروق عمر رضي الله عنه، وحملت خيار الأمة الإسلامية من جيل الصحابة فصاعدًا!
وفي المقابل، ها هي ملحقات توراة اليوم تتحدث لنا أن (همشيّح)، أي المنقذ، أو كما يسمى -ملك إسرائيل- يوم أن يظهر، وفق معتقدات ملحقات توراة اليوم، فسيظهر وهو يركب على حمار، ولهذا الحمار أوصاف غريبة وعجيبة من نوعها!
وماذا سيفعل؟!
هناك ظنٌّ عند ملحقات توراة اليوم وطمعٌ، أنه سيحقق السيادة العالمية للمجتمع الإسرائيلي.
ثم أضيف وأقول: كنت ذات يوم أتجول خارج محيط المسجد الأقصى، فمرَّ بي متدين يهودي، فقال لي بلهجة التمني:
“نحن نؤمن أنه لدى ظهور (هَمشيَّح) فسينزل مبنى الهيكل كاملًا من السماء ويستقر فوق المسجد الأقصى”.
ثم ذات يوم عندما كنت أسيرا في السجن، كان هناك سجان متدين يهودي فقال لي:
“نحن نعلم أنكم يا مسلمون تنظفون أدباركم بعد قضاء الحاجة، ثم تتوضؤون، وأما نحن اليهود فلا نفعل ذلك. ولكن عندما يظهر (هَمشيَّح) فسيأمرنا بذلك”.
فهي ملامح من دور (هَمشيَّح) وفق ظن ملحقات توراة اليوم، ووفق ظن من التقيت بهم من متديني المجتمع الإسرائيلي، وكلّهم متفقون وفق ظنهم أنه سيأتي راكبًا حمارًا.



