العصا الأمريكية وأحوال الطقس السياسي
الشيخ رائد صلاح
كثر المنجمون حول أحوال الطقس السياسية التي ستشهدها غزة، بخاصة بعد تسليم آخر أسير إسرائيلي من الأموات، بعد أن تم تسليم الأسرى الأحياء جميعهم.
وحتى هذه اللحظة، ليست الرؤية واضحة، بل اختلطت فيها كثير من تصريحات السياسيين وصناع القرار على الصعيد الفلسطيني والإسرائيلي، والعربي والإسلامي والعالمي. فهؤلاء، مجموعة من المسؤولين الإسرائيليين، لا يزالون يصرحون علنًا أن الحرب على غزة لن تنتهي حتى تسلّم حماس سلاحها، وحتى يتم تدمير مصانع الأسلحة في غزة وتدمير الأنفاق فيها، وحتى يتم التموضع الإسرائيلي في المساحة الواسعة حتى الخط الأصفر بغزة والتي تساوي 50% منها، وحتى يتم فرض رقابة على كل المعابر بعامةً، وعلى معبر رفح بخاصة، وما لم يتم تحقيق كل ذلك، فإن معبر رفح سيبقى مغلقًا في الحسابات الإسرائيلية، وستبقى كمية المساعدات التي تدخل إلى غزة محدودة جدًا. وهذا يعني أنه ينتظر غزة مفاجآت كثيرة قد تعيد الحرب على غزة مرة ثانية في كل لحظة.
ولو استمعنا إلى تصريحات ترامب ومن حوله من وزراء البيت الأبيض وقادته، إلى جانب تصريحات بعض المسؤولين الأوروبيين، لوجدنا أنها ليست بعيدة عن تلك التصريحات الإسرائيلية.
فها هو ترامب، بطل التصريحات المتقلبة، أكد في أكثر من تصريح له أن غزة ستصبح منزوعة السلاح، وأن المنطقة بأكملها أيدت خطة نزع سلاح حماس. بل ذهب إلى أبعد من ذلك، فقال: ستتخلى حماس عن سلاحها، وإن لم تفعل فسنفعل ذلك. ثم دعم هذا القول بتصريح آخر قال فيه: نزع سلاح حماس سيتم بسرعة أو بعنف.
وليس بعيدًا عن هذه الأقوال لترامب، تصريح القيادة الوسطى الأمريكية الذي قالت فيه: نطالب حماس بتسليم سلاحها.
ولأن ماكرون، رئيس فرنسا، له (في كل عرس قرص) كما يقول مثلنا الشعبي، فقد صرح قائلًا خلال الأيام القريبة الماضية: سيبدأ العمل الفني من أجل نزع سلاح حماس، وهو ما صرح به كذلك الرئيس البريطاني ستارمر.
بل إن ماكرون، صاحب القلب الحنون، صرح قائلًا في أجواء هذه التصريحات الكثيرة المتواصلة: سنعمل على تدريب قوة فلسطينية لضبط الأمن في غزة.
ومن يدري، لعل كل من ترامب وماكرون وستارمر قد أدلوا بهذه التصريحات وهم يذرفون دموع التماسيح على غزة، وما أكثر التماسيح في أمريكا وفرنسا وبريطانيا. وهكذا تلتقي هذه التصريحات الغربية مع التصريحات الإسرائيلية.
وقد يقول البعض منا، وهو يستمع إلى هذا الكم الهائل من التصريحات: ويل غزة من هدير هذه التصريحات! ولكن هدير هذه التصريحات لن يقف عند حدود غزة، بل إن موجات هذه التصريحات قد امتدت وتخطت الدائرة الفلسطينية إلى الدائرة العربية والإسلامية.
وها هو ترامب، وهو يحمل العصا الغليظة الأمريكية، قد صرح قبل أيام تصريحًا ملغومًا قال فيه: إن مساحة إسرائيل ضيقة.
فماذا يعني هذا التصريح؟ وما هي دلالته، ولماذا هذا التصريح الآن؟ وهل يلتقي هذا التصريح مع ما صرح به بعض المسؤولين الإسرائيليين عندما باتوا يكررون الحديث عن إسرائيل التاريخية أو إسرائيل التوراتية أو إسرائيل الكبرى؟ وإلا ما معنى تصريح ترامب الذي قال فيه قبل أيام: هذا النزاع تطلب ثلاثة آلاف عام حتى نصل إلى هذه اللحظة.
فهل يرى ترامب بنفسه أنه هو الامتداد لشمشون الجبار وثورة باركوخبا وحكاية متسادة التي تحدثت عنها توراة اليوم؟ وهل يظن ترامب أن الاتفاق الذي فرضه بلغة العصا الأمريكية الغليظة، والذي عُرف باسم خطة ترامب، هو خاتمة تلك الجهود التي كانت ناقصة حتى أتمها ترامب بخطة ترامب التي لا يعرف أسرارها إلا ترامب؟
وهل هذا يعني أن المرحلة الأولى من هذه الخطة، التي تكاد أن تتحقق، هي السطر الأول المعلن من هذه الخطة، والمخفي منها أعظم؟
ومرة أخرى أقول، قد يقول البعض منا، وهو يتابع سيرورة هذه الخطة: يا ويل غزة من هدير هذه التصريحات الترمبية الملغومة.
ومما يلفت الانتباه ويزيد من سخونة هذه الأحوال، لهذا الطقس السياسي، رغم أننا على أبواب فصل الشتاء مما يزيد من سخونتها، أن ترامب بات يصرح بصريح العبارة أن بعض الدول العربية والمسلمة على وشك أن تنضم إلى قافلة اتفاقية أبراهام، وأن تلتحق بركب المطبعين مع المؤسسة الإسرائيلية، حتى لا تبقى العصا الأمريكية الغليظة فوق رأسها.
وهذا يعني أن هذه الدول العربية والمسلمة، التي باتت تَرشَحُ أسماؤها يوم أن توقع على هذه الاتفاقية، فإنها ستوقع على بند من هذه الاتفاقية يقول: يحق لأصحاب الديانات السماوية أن يؤدوا عباداتهم في المسجد الأقصى.
وهذا يعني أن أمورًا جللًا تنتظر المسجد الأقصى، سيما وقد بات بعض المسؤولين الإسرائيليين يتحدثون عن بناء الهيكل، وبات البعض منهم يقتحم المسجد الأقصى علنًا ويؤدي فيه طقوسًا تلمودية.
فماذا بعد؟ وما هو المصير القادم الذي ينتظر المسجد الأقصى؟ وما هو مصير الوصاية الهاشمية على المسجد الأقصى؟ وما هو مصير مجلس الأوقاف ولجنة الإعمار الراعيين للمسجد الأقصى؟
هي أسئلة كثيرة تحذر من أحوال طقس سياسية عاصفة ستقع على المسجد الأقصى، وستكون مصحوبة بالبروق والرعود العاتية. ثم ماذا بعد؟
وما هي التغييرات التي ستقع على الدول العربية والمسلمة؟ لا أحد يستطيع أن يعطينا جوابًا قاطعًا، ولكن بعض منجمي أحوال الطقس السياسية القادمة يقولون، إن حال بعض الدول العربية التي ستوقع على صحيفة اتفاقية أبراهام سيكون كحال المتلمس مع صحيفة التي عرفت بصحيفة المتلمس، حيث إنه كان يحمل صحيفة تأمر بقتله، رغم أن ذاك المسكين كان يظن أن تلك الصحيفة تحمل له العز والسؤدد والغنى.
وهذا هو حال بعض الدول العربية المسكينة، التي تظن أن صحيفة اتفاقية أبراهام تحمل لها العز والسؤدد والغنى، ولكن هذه الدول المسكينة لا تدري أن صحيفة اتفاقية أبراهام ستقود إلى اختفائها، وإلى إعادة رسم خريطة جديدة للعالم العربي، يمكن أن نسميها سايكس بيكو رقم 2، حيث إن سايكس بيكو رقم 1 قد انتهت صلاحيتها وانتهى تاريخ استعمالها لا لسبب إلا لأنها قامت يوم أن قامت، ولم تأخذ بعين الاعتبار وجود كيان سياسي اسمه إسرائيل، والمطلوب اليوم في حسابات دهاقنة صحيفة اتفاقية أبراهام، أن يتم تعديل جذري على اتفاقية سايكس بيكو، حتى يأخذ هذا التعديل بعين الاعتبار وجود كيان سياسي اسمه إسرائيل.
وهذا يعني أن أحوال الطقس السياسي القادمة، إن وقعت، وجلبت عواصف وبرقًا ورعدًا على غزة، فقد توقع صواعق على العالم العربي على الأقل، وقد يمتد أذى هذه الصواعق إلى العالم الإسلامي.
ومما يجعل ما أقوله ليس مستبعدًا، أن بعض منجمي أحوال الطقس السياسي باتوا يتحدثون عن احتمالية توجيه ضربة إلى إيران، لدرجة أن البعض منهم قال إن من المحتمل أن تقع هذه الضربة حتى أواخر شهر 11/2025 وستهدف هذه الضربة إلى وضع إيران تحت الوصاية الأمريكية، ومن يدور في فلكها، كما تجري المحاولات الآن لوضع لبنان وغزة تحت هذه الوصاية. بل إن هناك بعض منجمي أحوال الطقس السياسي يذهبون إلى أبعد من ذلك، ويقولون إن هناك سعيًا حثيثًا لتصعيد التوتر بين المؤسسة التركية والمؤسسة الإسرائيلية، وقد يجر ذلك إلى صدام مباشر.
وإذا صدق من قال إن الصدام الأخير الأفغاني- الباكستاني قد وقع بتحريض من البيت الأبيض بعد أن رفضت الحكومة الأفغانية إعادة السيطرة العسكرية الأمريكية على قاعدة باغرام الأفغانية، فهذا يعني أن كل شبر من العالم الإسلامي، إلى جانب العالم العربي، بات مهددًا بالعصا الأمريكية الغليظة. ولن تفرق أحوال الطقس السياسي القادم بين غزة والبحرين، أو بين غزة وباكستان، أو بين غزة وأندونيسيا.
وهكذا بات يصلح أن نقول في هذا الحال: أكلت يوم أن أكل الثور الأبيض، أو يوم أن أكل الثور الأسود، أو يوم أن أكل الثور الأحمر.
وإن أخشى ما أخشاه أن يقال في قادم الأيام القريبة: أكلت البحرين يوم أن أكلت غزة، أو أكلت باكستان أو أندونيسيا يوم أن أكلت غزة.
وإذا كان ترامب قد أعاد صراع اليوم إلى ما قبل ثلاثة آلاف عام، فهذا يعني أن أنفاس الحملات الصليبية قد دخلت في هذا الصراع، وهذا يعني أن وحشية الاستعمار البريطاني والفرنسي، التي ظهرت واضحة قبل قرن تقريبًا في الجزائر ومصر وفلسطين وسوريا، قد دست أنفها في هذا الصراع، وهذا يعني أن مغامرات البيت الأبيض في العراق وأفغانستان قد انخرطت في هذا الصراع.
وهذا يعني أننا في مشهد صراع بات يمتد من غزة حتى كابل، وحتى كراتشي، وحتى أنقرة، وحتى جاكرتا، وحتى الرياض، وحتى المنامة، وحتى الدوحة، وحتى بغداد، وحتى نواكشوط.
وهذا يعني أن مشهد هذا الصراع ليس مع أمة غزة كجزء من الشعب الفلسطيني فقط، بل مع أمة غزة كجزء من العالم العربي والأمة الإسلامية، وهو صراع أراده البيت الأبيض ومن يدور في فلكه أن يكون صراع حضارات، ابتداءً بغزة، وأن يكون قابلًا للتمدد والاتساع، وأن يحمل معه موروث صراع تاريخي ابتدأ منذ ثلاثة آلاف عام، كما قال ترامب. إلا أن يكون ترامب لم يدرِ ماذا قال، أو لم يقصد ما قال، وأنا أستبعد ذلك.
لكل ذلك، فإن الأمة الإسلامية في أمسّ الحاجة لتجديد بناء ذاتها من جديد، كيما تنتقل من مرحلة الفصام المفروض عليها الآن، والذي يجعل منها الآن مئات القوميات المبعثرة، إلى الأمة الإسلامية الواحدة، ذات الإرادة الواحدة، والموقف الواحد، والقرار الواحد، والعقيدة الواحدة، والموروث التاريخي الواحد، والطموح الواحد الذي يصبو إلى رفع الحظر الصليبي
الصهيوني عن الخلافة الإسلامية، والذي يصبو إلى حتمية تجديد دور الخلافة الإسلامية على منهاج النبوة، لتجديد دورة الحضارة الإسلامية العالمية، الجامعة بين العلم والإيمان، وبين الروح والجسد، وبين السيادة والتسامح، حتى تملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعد أن مُلئت ظلمًا وجورًا، وحتى تُخرج أهل الأرض من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، وحتى تُرسي دعائم السلام العالمي الذي لا يزال شعارًا مُزيَّفًا حتى الآن، حيث فشلت هيئة الأمم المتحدة في تحقيقه، وثبت أنها أكبر أكذوبة في التاريخ، ولن يتحول هذا الشعار إلى واقع حي ملموس إلا على أيدي الخلافة الإسلامية العالمية القادمة.
ولكل ذلك، آن الأوان لمن يغمزون بالإسلام ويتهمونه بالطائفية، بعد أن منحوا أنفسهم لقب “مفكر”، أن يخجلوا من أنفسهم، وأن يُغلقوا أبواب دكاكينهم الكاسدة.



