أخبار وتقاريرمقالاتومضات

معركة الوعي (254) ….. وإمّا هُدنة لبضع سنين

حامد اغبارية

1)

تركيا ومصر والأردن وقطر وإندونيسيا وباكستان والسعودية والإمارات؛ هذه هي الدول العربية والإسلامية (غير العربية) التي وقّعت على صكّ خذلان غزة المستمر منذ سنتين. توقيعٌ على صك اعتراف رسمي بالذل والهوان والتبعية والخنوع والعبودية. إنه صك ممهور بتوقيع أنظمة تملك ولا تملك. إنها تملك جيوشا وقوة عسكرية، لكنها لا تملك الإرادة ليس لتحريك تلك الجيوش، بل لقول “لا” مرة واحدة لأمريكا.

لقد عاشت غزة طوال السنتين الماضيتين حالة من الخذلان غير المسبوق من عالم عربي ممتد (أو قل مُمدّد) من المحيط إلى الخليج، وأمة إسلامية تعاني من الهزال الشديد، ثم جاءت تلك الأنظمة لتؤكّد حالة الخذلان وتوقع عليها بأقلام فاخرة من إنتاج الصناعة الأمريكية الخالصة.

وكأني بأهل غزة يقول أحدهم لأخيه وهو يبتسم وسط الألم وتحت الركام: “أرأيت؟! إنني أرى الضوء في آخر نفق هذا الخذلان! أرى الراية تطلّ على رمال غزة المخضبة بالدماء من خلف تلك التلال. فإنّ ما نراه إنما يحمل البشرى. ووالله الذي لا إله غيره، لو أننا لم نعش هذه الحالة من الخذلان لشككنا في أنفسنا ولأيقنّا بالهزيمة. إنها يا أخي تأكيد لما كنّا نردده طوال سنيّ حياتنا:

(لا يضرُّهُم من خذلهم)، وقد خذلونا أيّما خذلان، ولن يضرّونا، وسيأتي أمر الله يقينًا، فلا تبتئس بما كانوا يعملون، ولا تحزن إن الله معنا، وأبشر فإن الفرج قريب”.

2)

وزراء خارجية تلك الدول الثماني أصدروا بيانا (مشتركا) هو أشبه بقصائد المتنبي التي مدح بها كافور الإخشيدي ذلك العبد الرقيق الخصيّ؛ بيانا فيه من الثناء الانبطاحي أو الانبطاح المديحيّ على رئيس إمبراطورية الشر دونالد ترامب وعلى خطّته الاستعماريّة ما يندى له جبين عبد رقيق يمدح سيده الذي يجلد ظهره كلما أشرقت الشمس وكلما غرُبت!

لقد أعلن هؤلاء المسوخ في بيانهم (المشترك) أنهم يدعمون خطة ترامب لتحقيق السلام في الشرق الأوسط؛ ذلك الشرق الذي يسعى ترامب مع شريكه نتنياهو إلى صياغته من جديد. شرق أوسط يخلو قاموسه من كلمة “لا للذل” و “لا للخضوع”، و “لا للاحتلال” و “لا للـ….” وكل “لا” لا تروق للثنائي الدموي.

وقد أعلن هؤلاء العبيد، الذين لم يجلبهم المستعمر الأمريكي أرقّاء من أدغال أفريقيا بالسفن، بل ذهبوا إليه بأنفسهم عن طيب خاطر، أنهم ملتزمون بالعمل المشترك “لإنهاء الحرب على غزة من خلال اتفاق شامل يضمن إيصال المساعدات الإنسانية الكافية إلى القطاع دون قيود، وعدم تهجير الفلسطينيين، وإطلاق سراح الرهائن، وإنشاء آلية أمنية تضمن أمن جميع الأطراف، والانسحاب الإسرائيلي الكامل، وإعادة إعمار غزة”.

فما هي الآلية التي سـ “تضمن أمن جميع الأطراف”؟ ومن هي الأطراف التي يتحدثون عنها؟ وما هو “الأمن” المقصود؟

إنه بالضبط وتحديدا وحصريّا الأمن الذي يريده نتنياهو؛ رأس حربة المشروع الصهيوني في هذه المرحلة الحاسمة من حاضر أمتنا ومستقبلها. أمنٌ ليس فيه من يقول “لا”، وليس فيه من يسعى إلى الانعتاق من الاحتلال، بل فيه من يؤمر فيطيع ويُطلب منه فيُعطي، ومن لا يفكر بحرية ولا كرامة ولا أنفة ولا عزة ولا شموخ.

3)

وما هي خطة ترامب- نتنياهو؟ أنها خطة تتضمن 21 بندا يمكن تلخيصها بجملة أو جملتين: على الشعب الفلسطيني الخضوع التام والقبول بواقع الاحتلال الإسرائيلي، الذي سيرافقه من الآن انتداب أمريكي- بريطاني جديد، ولكن هذه المرة بعيدا عن أروقة الأمم المتحدة، وبدون قرارات أممية تحمل أرقاما جديدة وأسماء “مزركشة جميلة” تتحدث عن السلام والحلول العادلة وإشباع البطون الخاوية ومنح الفلسطيني فرصة كي يعيش “بأمان ورفاهية” تحت “حماية” احتلال وانتداب يقطران “رحمة وإنسانية”.

4)

في خضم “تسونامي العار” الذي رافق الإعلان عن خطة ترامب، وانشغال الإعلام (العربي خاصة) بكل حرف وفاصلة ونقطة وعلامة سؤال وعلامة تعجب فيها، لفت انتباهي ما قاله نتنياهو غداة مؤتمره الصحافي مع ترامب. قال إنه نجح في جعل العالم يضغط على حماس للقبول بخطة ترامب. فـ “بدلا من أن تعزلنا حماس قلبنا الطاولة وعزلناها”.

هذا التصريح إنما يدل على نفسيّة مهزومة تذوق على جلدها وطأة التحولات العالمية التي أحدثتها غزة في الرأي العام العالمي، الذي كان بالأمس يحتضن المؤسسة الإسرائيلية ويمدّها بكل أسباب العجرفة والعلوّ، فإذ به اليوم يصطف في الجهة الأخرى، إلى جانب قضية شعب محاصر في أضيق بقعة على كوكب الأرض يتعرض لحرب كونية تقودها واشنطن وتل أبيب وسائر الحظائر والزرائب التابعة لمزرعتهما.

لقد حاول نتنياهو من وراء هذا التصريح تسويق وَهْم أنه نجح في قلب المعادلة لصالحه، في حين يدرك في قرارة نفسه أن الحقيقة هي العكس تماما.

إنه يعرف جيدا أن القضية ليست قضية حماس. فالدنيا كلها تعلم أن حماس معزولة ليس الآن فقط، بل منذ اللحظة الأولى، وليس من العالم الغربي فقط، بل من ذوي القربى، ومن الأكثر قربا.

فمسألة “العزل” ليست جديدة. لكن نتنياهو من خلال تصريحه ذاك يعترف ضمنيا بفشله في تحقيق حتى مجرد صورة انتصار على تنظيم صغير لا يملك من عناصر القوة المادية شيئا يذكر مقارنة مع ترسانته العسكرية التي ركّعت كل الجيوش العربية على الرُّكَب في ساعات.

شيء مضحك! أليس كذلك؟!!!!

إمبراطوريات تعلن تحقيق “انتصارها في عزل” تنظيم بحجم حارة صغيرة في تل أبيب…

كم هو “قائد صغير” نتنياهو هذا!! وأصغر منه ترامب، وأصغر منهما القطيع المستكين لهما داخل الزرائب والحظائر!!

5)

إن خطة ترامب في حقيقتها ليست خطة لإنهاء الحرب على غزة، ولا لإنهاء معاناة أهل غزة، إنها خطة تسعى إلى تحقيق هدفين: إنهاء وجود حركات المقاومة الفلسطينية، وحماية تل أبيب.
وأظنها خطة فاشلة لن تنجح.

نعم، لقد نجحت خطة ترامب في كشف الغطاء الأخير عن الوجه الحقيقي لأنظمة العار العربية والإسلامية. أما غير هذا فلا.

6)

ماذا سيكون بعدها؟!

يبدو ظاهر الأمر أن موقف الدول الثماني العربية والإسلامية التي وقعت على صك الخذلان المكوّن من صفحتين، قد وضع حركة حماس وسائر الفصائل في غزة في مأزقٍ لم تنجح آلة الحرب الإسرائيلية- الأمريكية- البريطانية- الألمانية- الفرنسية في وضعها فيه طوال سنتين. يبدو الأمر كذلك. ولكن…

لا أحد يعرف كيف ستسير الأمور بعد الآن.

تشتد الأزمة وتضيق الدائرة في مشهد غير مسبوق. فأنت تتحدث عن ثماني دول عربية وإسلامية (شقيقة) ملأ أغلبها الدنيا زعيقا وأغرقت المنطقة بطوفان من التفتفات، يبدو- فيما يبدو للرائي- أنها تدفع غزة نحو لغم شديد الانفجار.

فهل ينفجر اللغم في غزة أم تفجّر غزة اللغم في وجوههم؟!

بعد كل هذه الدماء التي روت رمال غزة لا يُتصوَّر أن تمر هذه المسألة بسهولة..

كيف؟ لا يمكنك أن تعرف..

غير أن ما نعرفه يقينا أنه لا يعلم جنود ربك إلا هو. يدبر الأمر كله، ويُخرج الحيّ من الميت… ويبدّل الخوف أمنًا واليأس أملًا والضيق فرجًا ومخرجًا في طرفة عين، وعلى أعجب ما يكون الأمر.
فأيَّ جندي من جنود الله سنرى عمّا قريب؟!!!

7)

المسألة الآن تقف أمام مفترق من طريقين: فإما أن تستمر الحرب -كسر عظم- حتى تُحسم، وإما أن يصل القوم إلى قناعة أنه ليس أمامهم سوى القبول بهدنة طويلة تمتد لسنوات، عشرٍ أو خمسٍ أو أكثر أو أقل. وبين هذه وتلك ستتحول خطة ترامب إلى مجرد تميمة (حجاب) يسترقي بها الموقعون على صك الخذلان.

8)

ما الذي يجعل ترامب، الذي سبق له وأعلن اعترافه بالقدس المحتلة عاصمة أبدية للمؤسسة الإسرائيلية، ونقل سفارة بلاده إليها، رغم قرار أممي يعتبر القدس أرضا محتلة وقضية متنازع عليها، واعترافه بضم الجولان السوري المحتل إلى تل أبيب، ووعده بالموافقة على ضم الضفة الغربية، وإمداد جيش الاحتلال بأعتى أنواع الأسلحة وأشدها فتكا لقصف غزة؛ ما الذي يجعل هذا الثعلب يخرج فجأة بلباس الواعظين، ويتحول إلى “حمل” وديع يحب السلام ويسعى إليه ويضع لأجله خطة، ويضع نفسه رئيسا للهيئة التي ستسعى إلى تحقيق السلام المزعوم؟

إنه الأصفر الرنان! إنه الأخضر الأمريكي الذي يعشقه هذا المخلوق الذي يمشي على اثنتين، وإنّه النيشان الذي سيعلق على صدره فوق منصة جائزة نوبل للسلام، التي يحلم بها. يقتل ويبتسم ابتسام الثعالب. ويسفك الدماء ويتحدث عن السلام. ذلك أننا في عالم تتحكم به عصابة لا مكان للإنسان في اعتباراتها، تمنح الجوائز لأزلام أوصلت البشرية إلى حافة الهاوية، ثم راحت تتحدث عن تحقيق السلام.

هذا فقط جانب من المشهد، وما وراءه أشد وأنكى وأكثر قذارة.

ولسوف يُمنح ترامب الجائزة. وستعلق النياشين على صدره المنتفش، وسيقبض جائزة مالية بمبلغ مليون دولار. مليون دولار. نعم، مليون دولار ستُنفق في وجوه الشر والرذيلة.

ولقد كان ترامب هذا قد أعلن عن أمنيته وسعيه إلى الحصول على الجائزة منذ الأيام الأولى لوصوله إلى الرئاسة في الجولة الحالية.

هكذا يتحول زعران الشوارع إلى “حمامات سلام” تقطر الدماء من مناقيرها. ومن ذا الذي سيتنبه إلى تلك الدماء إلا من كانت الدماء دماؤه والألم ألمه ودولارات الجائزة من قوت عياله؟!

9)

في هذه الأجواء وقّع ترامب على أمر رئاسي (نادر كما يقولون) ينص على أن أي اعتداء على قطر سيُعتبر اعتداء على الولايات المتحدة الأمريكية.

هل كان ذلك بغير ثمن؟ وما الثمن الذي قدمته أو ستقدمه قطر مقابل ذلك؟ وهل لهذا الثمن علاقة بغزة وحماس وقياداتها؟ هل له علاقة بخطة ترامب ورد حماس عليه؟

ما نعرفه يقينا أن ترامب لا يقدم شيئا إلا إذا قبض…! وتبدو “القبضة” هذه المرة ليست مليارات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى