أخبار وتقاريرمقالاتومضات

معركة الوعي (253) خلف كرسي “الاعتراف”

حامد إغبارية

1)

إنّ الدول تُبنى بسواعد أبنائها، وبتضحيات شعوبها، وبمقارعتها الباطل، وبإصرارها على حقّها في الوجود، ولا يمكن أن تسمى دولةً تلك التي تجتمع فيها مجموعة من اللصوص والمجرمين والمستعمرين وتقرر منح شعب دولة أو تعترف له بدولة!

2)

أي اعتراف مسرحيّ عبثيّ هذا بالدولة الفلسطينيّة؟! أين هي الدولة الفلسطينية؟ ما حجمها؟ ما حدودها؟ ما مساحتها؟ ما طبيعتها؟ ما مداخلها ومخارجها؟

أي دولة هذه التي تتسول الماء والكهرباء ورواتب الحاشية من الاحتلال؟

أي دولة هذه التي لا يستطيع “أكبر راس فيها” مغادرتها إلا بإذن من الاحتلال؟ إنه “اعتراف” بشيء غير موجود على أرض الواقع. وتلك الدول التي قررت فجأة إعلان هذا الاعتراف هي السبب الرئيس في عدم وجود ما “اعترفت به”.

3)

لو اعتبرنا أن الدول الاستعمارية، وفي مقدمتها دولتا سايكس- بيكو (بريطانيا وفرنسا)، صادقة في اعترافها بالدولة الفلسطينية، وهي ليست كذلك، فهل يظن أحد أن هذه “الدولة” ستنمو وتزدهر وتلحق بركب الدول أو ما يسمونه “المجتمع الدولي” لمجرد إعلان الاعتراف من على منصة الأمم المتحدة، أو في مؤتمر صحافي، مع موجات من تصفيق القطيع الذي لا يسمن ولا يغني من جوع!

4)

إن الحق في الأرض والدولة والوجود يُنتزع انتزاعا، بالأسنان والأظفار، وهو ليس منِّة من أحد. فإنّه إذا كان مِنّة وتحقّقَ بالتوسل والنحيب والركوع والخضوع والانبطاح تحولت “الدولة” إلى وكر للجواسيس والمخابرات الأجنبية والقواعد العسكرية، وأصبحت مجرد وسيلة لتحقيق مصالح لا علاقة لها بمصالح الشعب. ثمّ يكون همّ العصابة التي تحكمها توفير موارد الحاشية المقربة وإشغال الناس بلقمة الخبز وجرعة الماء، ثم تربط حبل سرّتها ببنك النقد الدولي فلا تجد منه خلاصا حتى تفارق روحها الجسد.

وما أنظمة سايكس- بيكو الوظيفية العميلة عنا ببعيد. ففيها من الأمثلة ما ذهب مضرب الأمثال في الدياثة والخنوثة السياسية والتبعية والعبودية والاستجداء والاستخذاء، ثم صارت مضرب المثل في ميراث أبي رغال؛ زيد بن مخلف الثقفي.

هذا الذي قال فيه حسان بن ثابت رضي الله عنه:
إذا الثَّقفيُّ فاخركُم فقولوا هَلمَّ فعُدّ شأن أبي رِغَالِ
أبوكم أخبثُ الأحياء قِدْماً وأنتمْ مُشْبهوه على مِثَالِ

وإذا كان حسان بن ثابت قد حصر الأمر في بني ثقيف، فإن مقولته تصلح لكل “ثقفيّ” تولّد سفاحا من رحم الحملات الصليبية والاجتياح المغولي، وصولا إلى سايكس- بيكو.

فأبو رغال ذاك كان عبدا لأحد سادة حِميَر، وأما سلالته في حاضرنا فليست سوى مجموعة من أسوأ أنواع العبيد الذين استحمرتهم دول الاستعمار الغربية.

وأسوأ أنواع العبيد هو ذلك الصنف الذي استمرأ العبودية حتى استقر في ذهنه أنها هي الحريّة المطلقة، وكلما جلده سيده انتشى وطلب المزيد. فهذا لا يمكن أن يخطر له أنّ العبودية ذلٌّ يجب الخلاص منه. وعندنا من هذا الصنف في وطننا الفلسطيني، وفي عالمنا العربي والإسلامي، ما يصلح أن يكون “أفضل نموذج” للعبودية.

5)

وإليك مثال واحد (طازة) يدلل على تلك العبودية التي استمرأها هؤلاء:
لما منعت واشنطن، بقرار غير مسبوق، محمود عباس من دخول أراضيها للمشاركة في مؤتمر “حل الدولتين” الذي يحمل براءة اختراع فرنسية- سعودية، في الأمم المتحدة في نيويورك، لم يحرك أحد ساكنا من العرب والمسلمين.

وذهبوا جميعا كالقطيع وشاركوا في ذلك المؤتمر وكأن شيئا لم يكن. ولو كان عند هؤلاء كرامة أو شبه كرامة أو رائحة كرامة لقاطعوا المؤتمر حتى تتراجع واشنطن عن قرارها المخالف لميثاق الأمم المتحدة. لكنهم لم يفعلوها، لأن العبودية تسري في دمائهم.

وإلا فكيف يعقد مؤتمر كهذا بينما الذي يفترض أنه صاحب الشأن مستبعد غائب؟ كيف تركوه يصفق للمسرحية وحده في المقاطعة؟

بالمناسبة: محمود عباس ليس صاحب الشأن على الحقيقة، لكنه مجازيّ افتراضيّ، مثلما أن سلطة أوسلو مجازية افتراضية ومثلما أن الاعتراف بـ “الدولة” مجازي افتراضي…

إن صاحب الشأن الحقيقي هو الشعب الفلسطيني الذي يدفع، منذ أكثر من مائة سنة، ثمن الحرية من دمائه التي تجري كالأنهار، بينما يصفق هؤلاء لأكذوبة نسجت خيوطها في الظلام على خلفية أحداث غزة. إنه الرعب مما قد ينتج عن هذه الأحداث، ومحاولة يائسة لوقف كرة الثلج.

6)

إن كل قطرة دم، وكل ألم، وكل دمعة، وكل جَوْعة، وكل ظَمْأة، وكل معاناة، فردية وجماعية، وكل عويل، وكل حزن، وكل مأساة، وكل فاجعة، وكل تشريد، وكل تهجير، وكل بيت هدم فوق رؤوس أصحابه، وكل حقل دمّرت مزروعاته، وكل شجرة اقتُلعت من أرضها، وكل هواء لوثته رائحة البارود الغادر، تحمل وزره الأمم المتحدة؛ ذلك الوكر الذي ما أنشئ إلا ليضع نظاما دوليا يكون فيه الرجل الأبيض هو السيد وسائر شعوب الأرض في قبضته. ثم تتبع ذلك بريطانيا، التي كانت العصا التي جلدت بها الأمم المتحدة ظهور أبناء شعبنا، من أجل التمكين للمشروع الصهيوني وزرعه في قلب الأمة الإسلامية.

وإن كانت بريطانيا تظن أنها بالاعتراف المزيف بدولة غير موجودة إنما تكفر عن جريمتها الكبرى فهي مخطئة. إنّ التكفير الوحيد الذي يمكن القبول به هو أن تعمل بريطانيا، ومثلها فرنسا، التي ارتكبت هي الأخرى كل خطيئة وجريمة في البلدان العربية والإسلامية والأفريقية، على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، إلى ما قبل 2.11.1917. عندها فقط ربما يفكر الفلسطيني بالتنازل عن حقه في التعويض عن مائة وثماني سنوات من المعاناة.. ربما..

ولمّا أن بريطانيا ومَن في الأرض جميعا لا يملكون القدرة على إعادة الزمن إلى الوراء طرفة عين، فإن الجريمة لا تسقط بالتقادم…

7)

قبل مسرحية الاعتراف، وبعدها، خرجت قيادات الاحتلال، وعلى رأسها نتنياهو، ومعه سموطرتش وبن غفير لتؤكد أنه لن تكون هناك دولة فلسطينية.
وسلفا أعتذر من القراء إذ أضم صوتي إلى هؤلاء.
نعم، لن تكون هناك دولة فلسطينية..
وما حاجتنا إلى دولة كرتونية تنضم إلى 22 دولة عربية بلا كرامة و57 دولة إسلامية بلا انتماء ولا هوية حقيقية؟

إن فلسطين هذه، التي يقولون إنها لن تقوم ولن تُقام، ستكون – عمّا قريب- مركز الحكم في امبراطورية تقتلع جذور الشر وصانعيه.

8)

فليفرح الحمقى والأغبياء بمسرحية الاعتراف. وليهنأ الموهومون بأوهامهم. وليقل من يقول: سنعمل على إجراء انتخابات رئاسية بعد انتهاء الحرب (زي اللي سمعت مثل هذا الكلام عشرة – طناشر مرة قبل كم سنة ضوئية)، ونصيغ دستورا خلال ثلاثة أشهر، وليعمل على استبعاد من لا يلتزم بالشوارعية الدولية وبمنظمة التحرير ممثلا وحيدا للشعب الفلسطيني، فقد رُفع القلم عن ثلاث، منهم النائم حتى يفيق. والنائم يحلم… وأحيانا من لذة الحلم لا يريد أن يفيق، لأن الأحلام عنده هي المنهج والطريق.

9)

أما الذين “اعترفوا” فقد كان عليك أن تلاحظ، وهم يستعرضون عضلات ألسنتهم على المنصات، أن سهامهم وصواريخهم العابرة للشاشات لم توجه إلى الاحتلال، ليتضح لك أن مشكلة هؤلاء ليست مع الاحتلال وإنما مع ما أحدثته غزة التي “خربطت” كل حساباتهم وأفسدت عليهم عيشتهم.

إنهم لا يحلمون بدولة حقيقية للشعب الفلسطيني، يعيش فيها بحرية ورغد عيش وكرامة، وإنما يسعون إلى تغيير اتجاه بوصلة التاريخ. فإن كان أحد يملك ذلك فليفعل. فحركة التاريخ، والأحداث الجارية الآن على هذه الأرض التي باركها الله تعالى، تقود إلى مكان يعلمه هؤلاء وغيرهم. وهذا المكان ليس فيه مكان لأمثالهم، لذلك يريدون منع الوصول إليه، وأنّى لهم ذلك…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى