وسائل التواصل وإهدار الوقت

إعداد: حركة الدعوة والإصلاح
من المفارقات العجيبة، أنّ بين أيدي كثير من الناس شاشات يقلّبونها بأصابعهم فيطوفون الأرض من مشرقها إلى مغربها يتفقّدون أحوال أهلها، فتجدهم يجيدون فن التواصل والإصغاء مع بعض معارفهم الافتراضيين ويحدّثونهم بأطايب الكلام، بينما هم عاجزون عن الإستماع لمن يجاورهم أو يعيش معهم تحت سقف واحد ولا يحسنون الكلام إليهم.
لقد تحوّلت وسائل التواصل الاجتماعي من مجرّد أدوات مساعدة إلى فضاءات ضخمة تتقاطع فيها المعرفة والتسلية، والجدّ واللعب، والنفع والضر. ولذلك وجب عليك أيها القارئ الكريم أن تسأل نفسك: كيف يمكننا أن نحسن استخدامها فلا نغرق في بحرها بلا بوصلة؟
من المؤسف أنّ كثير من الناس يرون العالم الافتراضي أرضًا بلا قوانين، فينشرون ما يشاؤون من أخبار، ولو كانت مشكوكًا فيها. غير أن الكلمة سواء قيلت وجهًا لوجه أو كُتبت خلف شاشة- تبقى أمانة. قال رسول الله ﷺ: “كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع”.
فمن المؤسف أن ينزلق النقاش في كثير من الأحيان في فضاء وسائل التواصل إلى حد تجرؤ الأخ على أخيه، فتزداد حدة الكلام ويسهل سوء الأدب ويُستساغ الكلام الجارح ولا يتورع كاتبه من نشره بضغطة زر.
ولكن تذكر أيها القارئ الفاضل أن خلف كل صورة حساب إنسان من لحم ودم، له مشاعر وكرامة. فالمجادلة بلطف، والرد بالحسنى، لا يعكس فقط أخلاقنا، بل يرفع قيمة الحوار نفسه.
ولا بد أن نتذكر أن خصوصية الآخرين حرمة لا يجوز تعديها، فمشاركة صورة دون إذن، أو كشف تفاصيل
شخصية للغير، هو تعدٍّ على حرمة لم يؤذن بها.
فكما أننا نربي أبناءنا وأنفسنا على أنه لا بد
من الاستئذان قبل الدخول على الغير، فلا بد أن نربيهم ونربي أنفسنا على أن “الموافقة” شرط أساسي قبل نشر صورة أو كلمة أو موقف أو معلومة فيها تعد على غيرنا.
وتذكّر أيضا أن خير الأمور أوسطها دون إفراط ولا تفريط، فكما أن الاعتدال مطلب عام في الأمور كلها، فهو مطلب خاص في استعمال وسائل التواصل الحديثة.
فلا يُلام الشاب الذي يتابع جديد التقنية، ولا الأم التي تبحث عن وصفة، ولا الأستاذ الذي يشارك مادة نافعة. لكن الخطورة حين تبتلع هذه الوسائل وقتنا بلا حساب. فالاعتدال هنا فضيلة، والوقت أمانة، سنسأل عن هذه الأمانات يوم القيامة، وسنسأل عن فراغنا فيما أنفقناه، أفي طاعة وعبادة وقربة، أم في مباح باعتدال دون إسراف، أم في غيبة ونميمة وقدح وذم وتشهير وأكل للحوم المسلمين وحب شهرة ومراءاة وتسميع عافانا الله وإياكم.
فلا تجعل للشيطان مدخلًا بأن يغلب على ظنك، إن لم يجعلك تبلغ اليقين، في حسن فعلك، بل في وجوب شغلك بالانغماس في وسائل التواصل دون استشعار رقابة الله في وقتك الذي تفنيه وكلامك الذي تفضيه في هذا الفضاء “الفارغ”.
فإن كنت ولا بد فاعلًا، فاجعل من هذه الوسائل فرصة عظيمة لبثّ الخير: قناة علمية، أو محاضرة ملهمة، أو قصة نجاح، أو مبادرة إنسانية. كل ذلك قد يصل إلى آلاف الناس بضغطة زر.
فلتكن بصمتنا الرقمية نافعة، كالأثر الطيب الذي يبقى بعد الغياب. فكن كحامل المسك ولا تكن كنافخ الكير.
ولا تكن كالذي سرق ضياعُ الوقت حياته العملية والأسرية، فنجد الطالب مقصرًا في دراسته، والعامل مشتتًا في عمله، والوالد والزوج حاضرًا بجسده غائبًا بروحه، والوالدة والزوجة تندب حظها من الدنيا مع ما ترى من السعادة الوهمية عند صويحباتها الافتراضيات.
فلتحذر أخي المسلم أن تكون ممن يمضون الساعات في متابعة مقاطع لا تزيد من معرفتهم شيئًا، ولا تهذب نفوسهم، ولا تكن كالذي يجلس على مائدة يترك ما فيها مما لذ وطاب ويتحول إلى الفتات، ولا تكن كالذين سألوا الفوم والعدس والبصل بعد أن أوتوا المن والسلوى.
فالتربية على قيمة الوقت تبدأ من الأسرة؛ حين يرى الطفل أنَّ والديه يضعان الهاتف جانبًا وقت العشاء العائلي، يتعلم أن الأولوية للواقع لا للشاشة.
وسائل التواصل ليست شرًا محضًا ولا خيرًا خالصًا؛ هي أداة في يد الإنسان، تصوغها نيته وطريقته في الاستعمال. فمن جعلها وسيلةً للمعرفة والإفادة والاستفادة والتواصل الراقي، نفعته وأفاد بها. ومن جعلها مهربًا من واقعه، أضاع وقته، وأثقلت نفسه بمقارنات وهمية.
فلنُحسن الإمساك بالميزان، ونحوّل هذه الوسائل من “مضيعة وقت” إلى “استثمار وقت”، ولنجعل من حضورنا الرقمي امتدادًا لأخلاقنا وقيمنا في الواقع.
وختامًا، لا بد من أن ننصح أنفسنا والقارئ العزيز، فالمسلمون بعضهم لبعض نصحة، والمنافقون بعضهم لبعض غششة، والمؤمن مرآة أخيه. ففي حين يشتكي كثير من الناس من ضيق الأوقات مع كثرة الواجبات فعليهم بالحرص على تحصيل البركة في الأوقات. فإن سأل سائل أنى لي بذلك، فالجواب في قوله تعالى “لئن شكرتم لأزيدنكم”. فإن أردت أن يبارك الله لك في نعمة أنعمها عليك، فاشكرها ولك من الله الزيادة.
وخير ما يشكر العبد به النعمة أن يتصدق بنفس صنفها، فخير ما يشكر العبد نعمة المال أن يتصدق ببعض المال الذي أنعم الله عليه فيه فيبارك الله له في ماله. وخير ما يتصدق العبد على نعمة الوقت أن يتصدق ببعض وقته فيبارك الله له في وقته.
ومن الصدقات في الوقت أن تحسن استعماله، وأن لا تضيعه. فإن الوقت الذي تمضيه على صفحات التواصل، إما أن يكون في مباح أو طاعة أو معصية. فإن كان في معصية أو خالطه حرام، كالغيبة والنميمة وزرع الفتنة والفساد بين المسلمين وحب الرياسة والشهرة وغيرها، فاتق الله في نعمه التي أنعم عليك بها فأنت تستعملها في معصيته، وإن كان وقتك فيها في طاعة كموعظة ودعوة وعلم فيه منفعة للناس، فاجتهد أن يكون فعلك موافقًا للشريعة وأن يكون خالصًا لله.
أما إن كان في مباح لا يتخلله حرام أو مكروه، فتذكر ما روي عن أبي بكر رضي الله عنه حين قال: “كنا ندع سبعين بابًا من الحلال مخافة أن نقع في باب الحرام” وتذكر ما روي عن عمر رضي الله عنه حين قال: “كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام”.



