معركة الوعي (250) نعم.. صحيح 100% “لا شيء يمكنه إيقاف القادم” (دونالد ترامب)
حامد اغبارية
1
“قريبا سيفهم العالم”… “لا شيء يمكنه إيقاف ما هو قادم”.
هذه الكلمات كتبها رئيس الولايات المتحدة الأمريكية على منصته هذا الأسبوع، مع صورته الشخصية وهو يمد يديه أمامه، وخلفه الكرة الأرضية، وفي طرف الصورة الرمز (Q+).
يبدو الأمر “طبيعيا” إذا ارتبط في أذهان الناس برجل قادم من حلبات المصارعة الأمريكية، يتصف بالجنون والتقلب وقول الشيء وضده في ذات الساعة، لكنه في الحقيقة مرتبط برئيس دولة عظمى يتصف بجنون العظمة إلى أقصى الحدود.
فما الذي سيفهمه العالم قريبا؟
وما هو القادم الذي لن يوقفه شيء؟
سنحاول قراءة التصريح الذي يبدو أنه يحمل شرا مستطيرا للبشرية كلها، وفي مقدمتها أمريكا وشركاء المصير.
قبل هذا التصريح بأيام قال ترامب جملة مر عليها الناس مر الكرام، إذ ربما اعتبروها مقولة لرجل مهووس مغرور لا يدري ما يقول. فقد قال إن غالبية الأمريكيين يفضلون أن يحكمهم دكتاتور.
وإن المتأمل في سلوك ترامب منذ أن وصل إلى كرسي الرئاسة في فترته الأولى سيدرك أن الرجل يتصرف فعلا كدكتاتور. لكنّه- في نظر نفسه- دكتاتور مقدس أرسله الرب لأداء مهمة.
أما رمز (Q+) فهو تعبير عن جماعة أمريكية متطرفة جدا، يطلق عليها “كيو أنون”، ظهرت عام 2017، مع وصول ترامب إلى كرسي الرئاسة. وهذه الجماعة تشكل النواة الصلبة لأنصار ترامب، وتروّج لفكرة وجود مؤامرة ضده، وهي ذات المجموعة التي اقتحمت مبنى الكونغرس في يناير 2021، بعد إعلان خسارة ترامب أمام الرئيس بايدن.
وكان واضحا لدى الكثيرين أن ترامب يدعم هذه الجماعة، رغم نفيه ذلك أكثر من مرة.
إلى هنا يمكن أن تنتهي القصة باعتبارها مسألة أمريكية داخلية. لكن المسألة تبدو أكبر من كونها قضية داخلية. فتصريح ترامب الأخير يوجه رسالة إلى العالم وليس إلى الأمريكيين، ومضمون الرسالة، مع رمزية الصورة المرفقة، يتجاوز حدود الولايات المتحدة إلى العالم بأسره.
إن ترامب يدير جماعة خطيرة تدعى “كيو أنون”، إنجيلية العقيدة، تحيط به مثل السوار بالمعصم وتؤمن -كما يؤمن هو- أن الرب اختاره، وأن نبوءات الكتاب المقدس تشير إليه بأنه الرجل الذي سيحقق إرادة الرب في آخر الزمان.
يتبع ترامب للكنيسة الإنجيلية المسيانية الخلاصية التي ربطت مصيرها بالحركة الصهيونية، إذ ترى أن عودة المسيح الذي سيخلص البشرية من “الأشرار” لا يمكن أن تتحقق إلا “بوحدة المصير” مع الصهيونية، لأن هذه “الوحدة” هي وحدها التي ستمهد لعودته بعد بناء الهيكل الثالث وإقامة دولة أو مملكة إسرائيل الكبرى، التي تُعتبر شرطا لعودة المسيح، لأنه يحتاج إلى مملكة يحكم منها العالم.
وهي الدولة التي تحدث عنها نتنياهو مؤخرا.
في كانون الثاني 2020 شارك ترامب في قداس خاص به في كنيسة “الملك يسوع الدولية” في ميامي، وحوله حشد من المبشرين الإنجيليين الذين راحوا يدعون الرب إلى دعمه في معركته الانتخابية أمام بايدن، مؤكدين أنه القائد الذي سيحقق نبوءات الكتاب المقدس.
ورغم أن ترامب، على المستوى الشخصي، يعتبر “أزعر شوارع” و “زير نساء”، وغارق في الخطيئة، وليس لديه قيم أخلاقية أو دينية، حتى في نظر الكتاب المقدس الذي يؤمن به الإنجيليون، إلا أن هذا لم يمنع القسيسة الإنجيلية باولا وايت، مستشارة ترامب الروحية، أن تعلن على الملأ بأن الذي يقول “لا لترامب فإنه يقول لا للرب”.
ووايت تلك كانت قد وقفت عام 2017 على منصة التنصيب، كأول امرأة قسيسة، لتبارك “القديس” ترامب بعد انتخابه، وقالت فيما قالته: حين أدخل البيت الأبيض فإن الرب يدخله كذلك، لذلك أعلن أن البيت الأبيض أرض مقدسة، لأن كل مكان أقف فيه باسم الرب هو مكان مقدس”.
بهذه العقلية يدير دونالد ترامب سياساته الداخلية والخارجية. فهو يؤمن بأنه دخل دائرة القديسين الذين اختارهم الرب لقيادة العالم وتجهيزه لاستقبال “يسوع القادم من بين السحاب”. وإنّك حين تتأمل في سلوك الرجل لدى ظهوره في أية مناسبة ستجد أنه يتقمص دور القديس الدكتاتور الذي يجب على الجميع طاعته صاغرين أو راضين، وإلا فإن غضبه المقدس سيحل بمن يقف في وجهه معترضا.
وتراه يتحدث باستعلاء وفوقية، ويجلس جلسة المتعجرف، ويحرك رأسه ويديه وأصابعه بطريقة الواثق بأنه فوق الجميع، وربما استقر في قرارة نفسه أنه نصف إله.
هكذا تراه، على سبيل المثال، في مؤتمراته الصحافية، أو لدى لقائه بقادة الدول، حتى الأوروبية منها، ناهيك عن قادة الدول العربية أو الإفريقية، الذين يُشعرهم بلسان الحال تارة ولسان المقال تارة أخرى، بأنهم مجرد متسولين يقفون على بابه المقدس، فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، في حين تراه بحجمه الطبيعي عندما يلتقي شخصية مثل نتنياهو، باعتباره ممثلا “لتوأم المشروع المشترك والمصير المشترك بأمر من الكتاب المقدس”.
تقف أمام تصريحات ترامب، خاصة تلك المتعلقة بما يجري في هذه الأيام في منطقتنا، فيظهر لك التناقض الفاضح بين تصريح وآخر. لكنك حين تتمعن في تلك التصريحات وتقرأها بعمق ستكتشف أنه ليس فيها أي تناقض، وإنما هو من أساليب “قديسي آخر الزمان” الذي يسعوْن من خلاله إلى خلط الأوراق أمام الرأي العام، بينما يمضي هو في تنفيذ مخططاته التي تخدم أجندة واحدة: نبوءات الكتاب المقدس.
ولنأخذ على سبيل المثال تصريحه السابق بخصوص تهجير أهل غزة والاستيلاء على القطاع وتحويله إلى “ريفييرا” سياحية. ثم إذا به يخرج بتصريح آخر يتحدث فيه عن معاناة أهل غزة وضرورة وضع حد لها، حاضا نتنياهو على إنهاء الحرب في أسرع وقت. وتجد مثل هذه التصريحات “المتناقضة” في ظاهرها الكثير.
لكنها في الحقيقة تصريحات تصب كلها في هدف واحد، وتحمل ذات المعنى. فهو عندما يتحدث عن ضرورة إنهاء معاناة أهل غزة لا يعني بالضرورة وقف الحرب حالا وانسحاب الاحتلال ووقف قتل المدنيين وما إلى ذلك.
فإنهاء المعاناة قد يكون بالتخلص من الضحية. وهذا التخلص ليس بالضرورة أن يكون بالموت، وإن كان القتل الجاري هو أحد أدواته، لكن قد تنتهي هذه المعاناة بالتهجير الكامل وتسليم القطاع لنتنياهو وبن غفير وسموطرتش وسائر عصابات المستوطنين الخلاصيين الذين يؤمنون -مثله- بمملكة إسرائيل الكبرى التي سوف تستقبل “يسوع الرب” أو “ميلخ مشيح”.
من خلال هذه السياسة يمكن أن نفهم مقولة ترامب إن العالم سيفهم قريبا، من أنه لن توجد قوة تمنع ما هو قادم”.
و “القادم ” هو حلم “القديس” ترامب في تحويل العالم إلى مزرعة شخصية تستعد لقدوم “الرب يسوع”. لذلك فإن الكرة الأرضية التي ظهرت في تصريح ترامب ذاك تبدو أصغر بكثير من أوهامه التي يسعى إليها.
إنها “نبوءة” الهيمنة التامة على العالم، بالشراكة مع “شركاء المصير” الذين هم شرط أساس كي يتحقق الحلم. إنها “نبوءة” الصدام الأخير الحتمي، والمعركة الهرمجودنية الكبرى التي كان أول من تحدث عنها من رؤساء أمريكا ممثل السينما الفاشل، الرئيس الأسبق رونالد ريغن، صاحب مشروع “حرب النجوم” لتصل في نهاية المطاف إلى وكيل المصارعة الأمريكية، الرئيس الحالي دونالد ترامب، صاحب مشروع الهيمنة النمرودية على الفضاء بما فيه من نجوم وكواكب ومجرّات.
إلى أين ستصل الأمور مع هذا الرئيس الأهوج الذي يظن نفسه قديسا مرسلا بأمر الرب؟
إلى حيث وصل النمرود وفرعون وقيصر وكسرى. هكذا باختصار.
إنه يقود بلاده وشركاءه في المشروع والمصير إلى مكان تصعب العودة منه، ولكن ليس قبل أن يسبب دمارا وخرابا ويعيث فسادا وإفسادا في كل بقعة. فليؤمن بما شاء، فإنه لن يعدو كونه داخلا في قدر الله تعالى، وقدر الله نعرفه جيدا أكثر مما نعرف أبناءنا وأسماءنا.
نعم… لا توجد قوة بشرية يمكنها أن توقف القادم، بما فيها قوة ترامب وترسانته العسكرية التقليدية وغير التقليدية، وقوة شركائه وترسانتهم العسكرية التقليدية وغير التقليدية.
فالقادم قدر من الله، رب أمريكا ورب ترامب ورب نتنياهو ورب بن جفير ورب سموطرتش، ورب أوروبا والصين والهند وروسيا، ورب القارات الخمس، ورب السماوات والأرض وما بينهما؛ رب العالمين، القائل سبحانه: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا ۖ إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)} (المدثر).
2
ليس المهم ما يقوله ترامب، بل ما يفعله.
إن ما فعله ترامب حتى الآن مؤشر على ما سيفعله غدا..
– في ولايته الأولى نقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة، واعترف بالمدينة عاصمة موحدة للدولة الإسرائيلية.
– في ولايته الأولى أيضا اعترف بضم الاحتلال الإسرائيلي لهضبة الجولان المحتلة.
– في ولايته الأولى كذلك ألمح إلى موافقته على ضم الضفة الغربية المحتلة عام 1967 أو أجزاء منها (كمرحلة أولى) إلى الدولة الإسرائيلية.
– في ولايته الأولى أصدر قرارا بمنع المسلمين من دخول أمريكا.
– في ولايته الأولى ألغى اتفاقية النووي مع إيران. وقد صرح حول الموضوع قائلا: “أعظم شيء فعلته ليس القدس ولا الجولان وإنما إلغاء اتفاقية النووي مع إيران”.
– في ولايته الأولى قرر إغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن إرضاء لتل- أبيب، على خلفية مطالبة سلطة رام الله الجنائية الدولية بالتحقيق ضد ممارسات الاحتلال.
– في ولايته الأولى أطلق صفقة القرن التي خرج من عباءتها مشروع أبراهام التطبيعي بين تل أبيب والأنظمة العربية.
– في ولايته الحالية هدد بمسح غزة وتهجير أهلها وتحويلها إلى منتجع سياحي عالمي.
– في ولايته الحالية دعا إلى تهجير سكان قطاع غزة إلى الأردن ومصر، قائلا: هاتان دولتان تأخذان من أمريكا المليارات.
– في ولايته الحالية منع وفد سلطة رام الله من دخول أمريكا لحضور جلسة الهيئة العامة للأمم المتحدة.
– في ولايته الحالية مدّ تل أبيب بكل أنواع الأسلحة لتدمير قطاع غزة.
– في ولايته الحالية هدد غزة بالجحيم.
– في ولايته الحالية شارك تل أبيب في حربها ضد إيران وقصف المفاعلات النووية الإيرانية.
– في ولايته الحالية رفع رسوم الجمارك على دول العالم كافة.
– في ولايته الحالية أعلن عن رغبته في ضم كندا إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
– في ولايته الحالية أعلن عن رغبته في ضم قناة بنما وجزيرة غرينلاند إلى السيادة الأمريكية.
– في ولايته الحالية أعلن عن نيته تغيير اسم خليج المكسيك التاريخي إلى خليج أمريكا.
– في ولايته الحالية وجه لنتنياهو رسالة مفادها: اتركوا الحديث عن الصفقات وأنهوا الموضوع في غزة.
– في ولايته الحالية أعلن ترامب رفضه لقرار عدد من الدول الأوروبية الاعتراف (الفارغ من المضمون) بالدولة الفلسطينية.
إن ما فعله ترامب وما قاله، وما يفعله وما يقوله الآن إنما هو مؤشر لما يفكر به ولما سيفعله في المستقبل. فهو يتصرف حرفيا كمن يشعر بأنه المسيطر الوحيد على كوكب الأرض بقرار سماوي، وهو شعور مصدره التوهم بأنه فعلا الرجل الذي اختاره الرب لتحقيق نبوءات الكتاب المقدس.
يمشي ترامب مهووسا بأحلامه الخلاصية، لكنه لا يدرك أنه يسير “بالشقلوب”، وأن الأمور تتجه بعكس ما يطمح به، وأن هناك مشكلة “صغيرة” تشكل عقبة كؤود اسمها “غزة”.



