أخبار وتقاريرمقالاتومضات

من سيوقف مواصلة قضم الحق الفلسطيني

الشيخ رائد صلاح

كان التمهيد لإيقاع نكبة فلسطين في حسابات من خططوا لإيقاع هذه النكبة، هو التآمر على إسقاط الخلافة الإسلامية.

وقد التقى على هذا التآمر كل من الصليبية العالمية والصهيونية العالمية وأبواق القومية العربية العمياء وأبواق القومية التركية العمياء.

حيث افترض سلفًا كل من أبواق هاتين القوميتين العمياء العربية والتركية وجود صدام بين الإسلام والعروبة أو بين الإسلام والطورانية، ثم تم الإعلان عام 1924م عن الإلغاء المؤقت للخلافة الإسلامية.

ولا يزال هذا الإعلان ساري المفعول حتى الآن ونحن في أواخر عام 2025، وهكذا رقص كل هؤلاء المتآمرين فرحًا، كل حسب طريقة رقصه، على إلغاء الخلافة الإسلامية.

وهكذا لا يزال يجمعهم حتى الآن الإبقاء على إلغاء الخلافة الإسلامية وإفشال كل مشروع إسلامي قد يقود إلى عودة الخلافة الإسلامية، وقد تختلف هذه القوى في الظاهر، ولكن يجمعها الإصرار على إفشال عودة الخلافة الإسلامية.

سواء اتفق هؤلاء المتآمرون سلفًا فيما بينهم أو جمعهم هذا الإصرار الموروث دون أن يتفقوا، ويوم أن تم لهؤلاء المتآمرين إلغاء الخلافة الإسلامية مؤقتًا، فقد ألغوا دور الحاضنة التي كانت تحافظ على وجود الأمة الإسلامية العابرة للقارات والحدود واللغات وجوازات السفر وأعلام الاستقلال المشكوك فيها ثم تلقائيًا تم إلغاء حاضنة الخلافة الإسلامية وحاضنة الأمة الإسلامية وحاضنة الإرادة الإسلامية.

ولم يعد هناك أي وجود لهذه الحواضن التي كانت تعتبر أن أي قضية طرأت على جسد الأمة الإسلامية هي قضية كل الأمة الإسلامية، سواء كانت هذه القضية الطارئة في الشام أو الجزيرة العربية أو العراق أو تركيا أو ما وراء النهر أو ما وراء خراسان أو المغرب العربي أو سائر امتداد جسد الأمة الإسلامية.

وكان جسد الأمة الإسلامية يتداعى بالسهر والحمى لكل قضية طارئة، وكانت الخلافة الإسلامية تحافظ على هذه الفاعلية الإسلامية لكل قضية طارئة دون تمييز بين كل القضايا الطارئة للأمة الإسلامية.

وكان في مقدمة اهتمامات الأمة الإسلامية هو الاهتمام بالقضية الفلسطينية على مدار تاريخ الأمة الإسلامية، حيث إن القضية الفلسطينية لم تطرأ عام 1948 فقط، بل طرأت يوم أن قامت ملوك أوروبا برعاية البابا في حينه بالحملات الصليبية، وطرأت القضية الفلسطينية يوم أن تعرضت الخلافة الإسلامية للغزو المغولي الذي امتد بعد احتلال بغداد حتى وضع يده على الأرض الفلسطينية التاريخية في حينه.

فكان أن قامت حاضنة الخلافة الإسلامية وحاضنة الأمة الإسلامية وحاضنة الإرادة الإسلامية بالدور المنوط بها في بعدها الإسلامي العروبي قبل أن تطرأ بدعة القومية العربية العمياء.

وكما يعلم الجميع فقد تم يومها إنصاف القضية الفلسطينية وإنصاف الحق الفلسطيني، واللافت للانتباه أنه تم تحقيق هذا الإنصاف على يد قيادات مسلمة غير عربية، حيث كان في مقدمة هذه القيادات نور الدين زنكي التركي وصلاح الدين الأيوبي الكردي وقطز التركي وبيبرس التركي، ثم ألغي هذا الدور بعد أن كانت المؤامرة على الخلافة الإسلامية، وتم إعلان الإلغاء المؤقت للخلافة الإسلامية عام 1924.

ولذلك فإن أبواق القومية العربية العمياء التي رفعت صوتها منذ القرن الثامن عشر داعية إلى إسقاط الخلافة الإسلامية، كانت في المحصلة من ضمن من تآمر على القضية الفلسطينية، وإن أوهمت نفسها أن الصليبية العالمية ستوافق لها على إقامة دولة عربية كبرى تمتد ما بين الجزيرة العربية والشام.

ثم بعد إلغاء حاضنة الخلافة الإسلامية وحاضنة الأمة الإسلامية وحاضنة الإرادة الإسلامية، وبعد أن وقع المشهد الأخير لنكبة فلسطين عام 1948، وبعد أن طرأت القضية الفلسطينية من جديد، فإن الذي تولى هذه القضية منذ المشهد الأخير لنكبتها هي حواضن قوى طاردة للقضية الفلسطينية وليست حواضن قوى راعية للقضية الفلسطينية.

وهكذا انقلب مبدأ التعاطي مع القضية الفلسطينية من حواضن راعية لها تمثلت بالخلافة الإسلامية والأمة الإسلامية والإرادة الإسلامية إلى حواضن قوى طاردة لها.

وهذا يعني أنه لن يتم في يوم من الأيام إنصاف القضية الفلسطينية وإنصاف الحق الفلسطيني ما دامت الحواضن التي تحيط بالقضية الفلسطينية اليوم هي حواضن قوى طاردة لها وليست حواضن راعية لها.

وكما أنه لا يمكن لنا أن نجني من الشوك العنب، فلا يمكن أن تقوم دولة فلسطينية اليوم وغدًا أو بعد غد ما دام مصير القضية الفلسطينية معلقًا بحواضن هذه القوى الطاردة للقضية الفلسطينية والحق الفلسطيني.

فهي هذه القوى التي تآمرت على إسقاط الخلافة الإسلامية بالأمس، وهي التي تطوق القضية الفلسطينية اليوم برًا وبحرًا وجوًا، وما دام مصير القضية الفلسطينية سيبقى منوطًا بحواضن هذه القوى الطاردة للقضية الفلسطينية، فمن المستبعد جدًا وفق هذه المعطيات إنصاف الحق الفلسطيني.

بل إن دالة سيرورة الحق الفلسطيني بعد المشهد الأخير لنكبة فلسطين، تبين أن سياسة القضم التدريجي للقضية وللحق الفلسطيني لا تزال تقع على القضية الفلسطينية منذ المشهد الأخير لنكبتها حتى الآن.

ويكفي أن نمر على أرقام القرارات التي صدرت عن هيئة الأمم المتحدة حول القضية الفلسطينية، فسنجدها كثيرة، وسنجد أنها أكثر من قرار (181) وقرار (242) المشهورين، وسنجد أنها تشير إلى سياسة القضم التدريجي للحق الفلسطيني التي لا تزال تتعرض لها القضية الفلسطينية، سيما وهي تعيش محنتها المصيرية الآن في غزة والضفة الغربية والقدس والمسجد الأقصى المباركين.

فكان هناك قرار التقسيم المشهور الذي رسم جغرافيا حدود الحق الفلسطيني يومها، ثم تم قضم هذا الحق، وباتت حواضن هذه القوى الطاردة للقضية الفلسطينية تتحدث عن إمكانية إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة مع تأجيل الحديث عن شرقي القدس وملف اللاجئين، ثم تم قضم هذا الحق، وباتت حواضن هذه القوى الطاردة للقضية الفلسطينية تتحدث عن إمكانية إقامة سلطة فلسطينية في غزة وفي جزء من الضفة الغربية مع غموض حول مصير شرقي القدس والمسجد الأقصى وملف اللاجئين.

ثم تم قضم هذا الحق، وباتت حواضن هذه القوى الطاردة للقضية الفلسطينية تتحدث عن حق بقاء الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة، وهكذا قضمت حواضن هذه القوى الطاردة للقضية الفلسطينية كل الحق الفلسطيني، وتحول من حق فلسطيني لإقامة دولة فلسطينية إلى حق فلسطيني محصور في حق بقاء الشعب الفلسطيني حتى لا يتعرض للترحيل من غزة أو من الضفة الغربية إلى المجهول.

وهكذا بعد أن تم الإلغاء المؤقت للخلافة الإسلامية، وبعد أن تم إلغاء حاضنة الخلافة الإسلامية وحاضنة الأمة الإسلامية وحاضنة الإرادة الإسلامية للقضية الفلسطينية هذه الحواضن الراعية والناصرة للقضية الفلسطينية، هكذا بعد أن تم كل ذلك، تم ترحيل القضية الفلسطينية من الحواضن الراعية والناصرة لها إلى حواضن القوى الطاردة لها والمتآمرة على قضم الحق الفلسطيني بالتدريج، وهكذا كانت فلسطين.

ثم بعد إلغاء الخلافة الإسلامية مؤقتًا، وقعت نكبة فلسطين في مشهدها الأخير، ثم فرضت حواضن القوى الطاردة لها سياسة قضم الحق الفلسطيني عليها حتى الآن.

ونحن في عام 2025، وبتنا نتساءل هل ستُرفع سياسة التجويع عن غزة، وهل ستنجو غزة من الإبادة الجماعية، وهل سينجو أهل غزة من الترحيل إلى المجهول، وهكذا بات الحديث عن دولة فلسطينية بعيدًا جدًا.

وبتنا نتساءل هل ستتوقف اعتداءات المستوطنين في الضفة الغربية، وهل سيتوقف بناء جديد لمستوطنات جديدة في الضفة الغربية، وهل سيتم إعادة قطيع الأبقار التي سرقها المستوطنون من مسافر يطا، وهل سيتمكن الفلسطينيون من قطف زيتونهم في الضفة الغربية؟!

وهكذا تدنى منسوب الأسئلة عبر هذا القضم المتواصل للحق الفلسطيني من السؤال حول موعد قيام الدولة الفلسطينية إلى السؤال حول موعد قطف الزيتون في الضفة الغربية وحول بقاء الوجود الفلسطيني في غزة.

وهكذا أصبحت كل الثوابت الفلسطينية في عين العاصفة، وبات من الواضح أن الحاضنة الأوروبية الطاردة للقضية الفلسطينية التي تسببت بنكبة فلسطين أصلًا، والشواهد على ذلك بالعشرات، لا ينتظر منها عاقل منا أن تغير جلدها وأن تتحول في عشية وضحاها إلى حاضنة راعية وناصرة للقضية الفلسطينية.

لأن صليبيتها كانت ولا تزال تملي عليها هذا الموقف، ولذلك فإن قيام كيان سياسي اسمه إسرائيل هو مشروع صليبي أوروبي قبل أن يكون مشروعًا صهيونيًا، وقد تختلف الصليبية الأوروبية مع نتنياهو وحكومته، ولكنها لا تختلف معه حول الحفاظ على إسرائيل ككيان أوروبي متفوق قبل أن يكون كيانًا صهيونيًا متفوقًا.

ويوم أن نسمع أن بعض الدول الأوروبية باتت تتحدث عن مبدأ الاعتراف بدولة فلسطينية، فنحن نحتاج إلى مئة عام على الأقل حتى نفهم ما هو المقصود بكلمة دولة فلسطينية في ميزان هذه الدول الأوروبية.

ثم نحن نحتاج إلى مئة عام أخرى على الأقل حتى نفهم موقف هذه الدول الأوروبية من ملف اللاجئين وملف القدس والمسجد الأقصى.

ثم نحن نحتاج مئة عام أخرى على الأقل حتى نفهم موقف هذه الدول الأوروبية من آلية تحقيق إقامة دولة فلسطينية على أرض الواقع، لأن الذي يوجه هذه الدول هو صليبيتها أولًا قبل مصالحها وقبل ضغوط الصهيونية العالمية عليها.

ومن ظن غير ذلك فهو لا يزال يخدع نفسه منذ قرون طويلة، وهكذا هو الحال مع الحاضنة الأمريكية الطاردة للقضية الفلسطينية والتي واصلت الإمعان في نكبة فلسطين وتجذيرها، فهل هناك عاقل ينتظر أن تتحول أمريكا إلى حاضنة راعية وناصرة للقضية الفلسطينية، وهي التي تعتبر أن الحفاظ على تفوق إسرائيل في كل شيء هو واجب عليها على اعتبار أن هذا الكيان السياسي الذي اسمه إسرائيل هو مشروع أمريكي قبل أن يكون مشروعًا صهيونيًا.

وواجب الحفاظ عليه في الحسابات الأمريكية هو كواجب الحفاظ على واشنطن ونيويورك وسائر الولايات الأمريكية، ويوم أن تقدم له الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي، فهي تقدم هذا الدعم لنفسها، ومن ظن غير ذلك فهو خادع مخدوع، وهو ضال مضل، وهو غافل متغافل.

وهكذا هو حال هيئة الأمم المتحدة التي تحولت إلى أكبر أكذوبة في التاريخ، حيث إنها في المجمل هي وليدة هذه الحاضنة الطاردة الأوروبية للقضية الفلسطينية والحاضنة الطاردة الأمريكية للقضية الفلسطينية.

وأما حاضنة الدول العربية والمسلمة فهي حواضن متخاذلة مع القضية الفلسطينية، بل إن البعض منها حاضنة متآمرة على القضية الفلسطينية، وأما إيران فهي حاضنة نفعية ليس إلا، قد تقترب وقد تبتعد من القضية الفلسطينية وفق ميزان مصلحتها الفارسية.

وأما الصين وروسيا والهند وما شابهها من دول فهي دول مصالح، فأينما كانت مصلحتها كانت مواقفها، وإن المصالح متغيرة ومواقفها متغيرة، فهي حواضن متغيرة مع القضية الفلسطينية، ولا يُنتظر منها أكثر من الضريبة الكلامية الاستهلاكية التي تموت في مهدها.

وهذا يعني أن كل حواضن الأرض اليوم لا يمكن أن تدعم إقامة دولة فلسطينية، ولذلك المطلوب الحتمي لإقامة الدولة الفلسطينية هو تجديد دور حاضنة الخلافة الإسلامية، وحاضنة الأمة الإسلامية وحاضنة الإرادة الإسلامية، وذلك يستوجب رفع الحظر المؤقت عن الخلافة الإسلامية حتى تعود خلافة إسلامية على منهاج النبوة تملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما ملئت ظلمًا وجورًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى