أخبار وتقاريرمقالاتومضات

معركة الوعي (248) فاستخفّ قومه فأطاعوه

حامد اغبارية

استدراج

لنفترض، جدلا، أنّ نتنياهو احتل قطاع غزة بالكامل، وليس مدينة غزة فقط، كما يهدد الآن! ولنفترض، جدلا كذلك، أنّ الأزعرين بن غفير وسموترطتش نجحا في تهجير سكان غزة بالكامل وفي استيطان القطاع من شماله إلى جنوبه بالكامل!

ولنفترض، جدلا أيضا، أنّ فصائل المقاومة الفلسطينية بلغت مرحلة لم تعد تستطيع فيها مواصلة طريقها في واقع الخذلان الذي تعيشه غزة اليوم!

ولنفترض، من باب أفلام الخيال العلمي، أن نتنياهو وقف على تلّة قبالة غزة وأطلق صيحة النصر وضرب بقبضتيه على صدره انتشاء وانتفاشا وغرورا!

ولنفترض، أبعد من ذلك، أنّ أوهام المشروع الصهيوني تحققت كلها، بما في ذلك إنشاء مملكة إسرائيل الكبرى التي تشمل فلسطين التاريخية وسوريا ولبنان والأردن وأجزاء من أراضي مصر والعراق وجزيرة العرب!

ولنفترض أنّ هؤلاء نجحوا في بناء هيكلهم المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى، وأن سوائب المستوطنين رقصوا على قدمين اثنتين رقصة الانتصار، وانبطحوا على أربع انبطاحهم المعروف و”تفعْفلوا” في كل زاوية من زوايا المسجد، وذبحوا الذبائح وقدموا القرابين وأكلوا وشربوا نخب الانتصار حتى الثمالة!

لنفترض أن هذا كله سيحدث، فهل تكون الحكاية قد انتهت عند هذا الحدّ؟!!

هل ستُطوى هذه الصفحة من التاريخ إلى الأبد؟

لا والله! بل ستبدأ صفحة جديدة من التاريخ لا تشبه غيرها مما سبقها منذ العصور الوسطى.

نعم، أؤمن شخصيا أنّ نتنياهو يعتقد بأنه ملك إسرائيل (العلمانيّ الذي لا يؤمن بوجود خالق يدبر هذا الكون)، بل يعتقد أنه آخر ملوك إسرائيل، الذي اختاره “رب الجنود” لإنفاذ إرادته في بناء مملكة إسرائيل الكبرى.

وأؤمن أن هذا المخلوق سيواصل سفك الدماء في غزة، وسيقتحم غزة المدينة، رغم ما يدور الآن من حديث متجدد عن صفقة تلوح (أو تُلَوْلِحْ) في أفُق المبطلين والمطبّلين. وأؤمن أن سلوك نتنياهو يسير في اتجاه واحد لا علاقة له بالصفقات. لكنني موقنٌ في ذات الوقت أن هذا الأحمق المتعجرف لا يدري أنّ الخالق الذي يدبّر هذا الكون يستدرجه إلى حيثُ لو علمَ إلى أين لتمنى لو أنه لم تلده أمُّه.

إنّها سنّة الاستدراج التي يشمل رب العزة فيها كلّ ظالم متكبّر جبّار يظن أنّ الدنيا قد دانت له، حتى إذا وصل إلى خط النّهاية قرأ في صحيفته: “مُنتهي الصلاحية بعد أن ضيّع كل الفرص في الرجوع عن غيّه”.. أو كما في أفلام الكاوبوي الأمريكي .(The End)وفي التاريخ البشري ما يكفي من العِبر والدروس التي لا يستفيد منها الحمقى الذين يحبّون أن يجرّبوا بأنفسهم الاستدراج ويتذوقوا طعمه على جلودهم السميكة.

الفرضيات شيء والواقع شيء آخر

إن كنا افترضنا ما افترضناه أعلاه، فهذا لا يعني أنّه واقع؛ كلّه أو جلّه أو بعضه. وإنّ الذين استقر في قلوبهم الاطمئنان لقدر الله والثقة بوعد الله واليقين بأنّ الابتلاء سنّة كما الاستدراج، وأنه لا انفصال ولا انفصام بين الابتلاء والفرج الذي يتبعه، لا يمكن أن يداخلهم شكّ من أنّه لو وقع كل ما افترضناه بحذافيره وأسوأ منه إنما هو مرحلة من مراحل الابتلاء الضرورية للوصول إلى شاطئ الفرج.

أما ما علينا أن ندركه الآن فهو أنّ واقع الأمر أنّ غزة على وجه التحديد ستبقى عصيّة على أوهام الطامعين. هذا تقرأه في تاريخ غزة، كما تقرأه في حاضرها كذلك. قد يمسها السوء والأذى الشديد، وقد تزحف دبابات نتنياهو إلى غزة المدينة، وقد تحدث مجازر فظيعة، لكن بين هذا وبين أن يكون وقوعُ ذلك مؤشرا على تحقيق الأوهام كما بين المشرق والمغرب.

ولو كان سيحدث شيء من هذا لوقع أول الأمر، حين كان يبدو كأنّ الدخول البري نزهة، يدخلون من باب ويخرجون من آخر. وإن كانت غزة قد أعدت نفسها لمثل هذا الموقف طوال سنوات، خاصة على صعيد الإعداد البشري في مدرسة الصبر والثبات والوعي، فإنّ الله تعالى قد أعدّ غزة -فيما يبدو لي- لشأن عظيم له ما بعده.

… فأطاعوه

“أيمكن أن يكون مواطنو دولة مثل المؤسسة الإسرائيلية بهذا المستوى من الضعف والهشاشة، بحيث يصل الأمر درجة أنّ نتنياهو يفعل ما يريد، إلى درجة التصريح بالحلم الأكبر، دون أن يعبأ بشعبه، ودون أن يوقفه شعبه الذي يرى ويسمع ويدفع الأثمان؟”. سأل أحدهم مستغربا!

نعم، وأكثر. بل إنّه لكون هؤلاء هم مواطنوها بالذات وهذه هي دولتهم تحديدا يفعل نتنياهو ما يفعله. ولا غرابة في الأمر. فإنّ تحتَ القشور سوسٌ ينخر وعظام هشّة تتآكل، فلا يغرنّك المظهر، ولا ما يسوّقونه لك في الإعلام. وخلاصة الأمر وحقيقته أنّ هؤلاء تنطبق عليهم قاعدة قرآنية عظيمة تقول: “فاستخفّ قومه فأطاعوه”.

ولم يعرف التاريخ حاكما من هذا الصنف إلا وأورد نفسه وقومه المهالك دون أن يدرك ذلك إلا في اللحظة الأخيرة التي لا رجوع فيها. ولقد كان فرعون قد مدّ يده إلى موسى عليه السلام وقومه، وكاد يدركهم قبل أن تبتل قدماه بماء البحر، وأغلب الظن أنه كان في تلك اللحظة الفارقة شديد الفرح والسعادة والانتشاء ومنتهى الغرور، لأنه ليس بينه وبين موسى إلا أن يبطش به، فكانت النتيجة نهاية مأساوية لم يحسب لها ذلك الفرعون الأحمق حسابا، لأنه قد انتفخ انتفاخ من يقول: {أنا ربكم الأعلى} وانتفاش من يتمطى قائلا: {لا أريكم إلا ما أرى}. فأنّى لمثل هذا أن يدرك أن الله تعالى قد استدرجه بالذات إلى المكان (البحر) الذي ظن أنه سيقف حائلا بين موسى عليه السلام وبين النجاة؟!

أوروبا هي التي ستأتي إليه!

والشيء بالشيء يُذكر. في خضمّ الحرب الانتقامية على غزة، وأمام مشاهد التعاطف والتضامن الشعبي الغربي مع الشعب الفلسطيني، والغضب الهادر الموجّه إلى الاحتلال الإسرائيلي بسبب ما يرتكبه ضد المدنيين في غزة وكذلك في الضفة الغربية، يقف الإعلام العبري عاجزا أمام هذا التيار الجارف، محاولا أن يجد له تفسيرا منطقيا.

ولو كان هذا الإعلام إعلاما حقيقيا لا يكذب ولا يمارس الدجل، لما احتاج الأمر إلى كل هذا العناء في البحث عن تفسير. فالصورة الكاملة واضحة كالشمس في رائعة النهار. لكنه بدلا من ذلك راح يحرض على الإسلام ويحذر من انتشاره في أوروبا انتشار النار في الهشيم. وللحقيقة هذه قضية ليست جديدة، لكنها بدأت منذ الحرب على غزة تأخذ أبعادا أخرى ومعاني جديدة، تقرأها في ثنايا ما ينشره الإعلام العبري يوميا تقريبا حول هذه المسألة، وفي أجندته سؤال: هل بدأ الإسلام يغزو أوروبا؟ وهل ستتحول دول، مثل فرنسا على سبيل المثال، إلى الإسلام خلال سنوات قليلة؟

إلى جانب البُعد التحريضي المباشر على الإسلام في تناول الإعلام العبري للقضية تقرأ بين السطور خوفا ورعبا لم نكن نقرأه في سنوات سابقة، وكنا نضعه في سياق التحريض وحسب!

نعم، إنّه الرعب من تداعيات الحرب المجنونة على غزة، وما يمكن أن يحدث في المستقبل القريب، وتأثيرات هذا الحدث غير المسبوق على مستقبل المنطقة وعلى مستقبل أوروبا والعالم.

هناك حقيقة واحدة يحاول الإعلام العبري وأمثاله من الإعلام الأمريكي الالتفاف عليها والدوران حولها، متجنّبا لمسها مباشرة: الحدث الحالي في غزة يحمل مؤشرات على تحوّل عالمي، يقف الإسلام في مركزه، وهنا مكمن الخوف ومصدر الرعب. فقد استيقظ العالم على سؤال كبير: كيف يمكن لغزة أن تصمد طوال تلك الفترة دون أن تتمكن تل أبيب من حسم أمرها؟ والجواب تجده على ألسنة الشباب الغربي: إنه الإسلام، وإنه الإيمان الذي انتقلت عدواه إلى الشارع الغربي، ما دفع شرائح واسعة من جيل الشباب الأوروبي والأمريكي إلى اعتناق الإسلام بشكل غير مسبوق.

وهذا يمكن أن نلمسه ونجده عبر وسائل التواصل المتعددة على اختلاف مسمياتها… وهذا ما يثير الرعب في تل أبيب. وأعتقد أن مراكز الأبحاث الإسرائيلية بدأت منذ مدة دراسة هذه المسألة وتحليلها ووضع الخطط لمواجهتها. وما نقرأه في الإعلام العبري ليس سوى نزر يسير مما يدور في الخفاء.

إن أوروبا تعرف الإسلام جيدا. ولأنّها تعرفه فقد عملت على محاربته طوال قرون، لكنّها فشلت في كل معاركها العسكرية والفكرية. وخلاصة القول إن الإسلام ليس هو الذي يغزو أوروبا، بل أوروبا هي التي تأتي إليه، وسوف تأتي لحظة نرى فيها أوروبا تحث إليه الخطى بإرادتها شغفا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى