معركة الوعي (245) كيف سينتهي المشهد الحالي؟
حامد اغبارية
1)
من الطبيعي أن يسأل كل واحد منّا كيف سينتهي ومتى سينتهي المشهد الحالي، الذي ليس له مثيل في تاريخ الصراع على فلسطين بين المشروع الصهيوني وبين المشروع الإسلامي.
2)
نعم، هو ليس صراعا بين المشروع الصهيوني وبين الفلسطينيين، ولا هو صراع بين المشروع الصهيوني وبين العرب. إنه صراع بين فكرتين؛ فكرة قامت على تدمير الآخر وبناء مجدها على أنقاضه، بمزاعم دينية وتاريخية ليس لها دليل حقيقي، حتى على مشرحة البحث العلمي، وبين فكرة حضارية إنسانية وضعت الإنسان وحقوقه وكرامته وحريته ورفاهيته في مركز اهتمامها، والعدل والعدالة على ميزانها لا تحيد عنه قيد أنملة. (للمزيد: أنصح بقراءة واعية لكتاب “نبوّة واحدة أمة واحدة” الشيخ رائد صلاح).
3)
بنى دهاقنة المشروع الصهيوني فكرتهم على روايات وسرديات ذات بُعد ديني توراتي- رغم كونهم علمانيين لا دينيين، كما صرحوا بذلك، وكما هو لسان حالهم ومقالهم- وهي سرديات ثبت علميًّا وتاريخيًّا ودينيًّا أنها لا علاقة لها بالوحي، وإنّما صاغ هؤلاء وحي السماء الذي نزل على موسى عليه السلام على هواهم، وفسّروه بطريقة تنسجم مع تلك السرديات؛ طريقة وقف عندها التاريخ، فأصبح ملكهم الخاص، يصنعون به ما يشاؤون وكيف يشاؤون، ويصيغون رواياته وتفاصيله كما يحلو لهم، وانتفى سائر البشر، فلا قيمة لهم إلا بما يخدم تلك السردية ويدعمها، حتى أصبح الأمرُ في عُرفهم عقيدة دينية.
ولما أنَّ الصانع يعرف صنعته، ويحفظ ظهرا عن قلب تفاصيلها وعيوبها ونواقصها ونواقضها وما تحتاجه من دعائم خارجية كي لا تنهار مع أول تجربة، وحتى تبدو للناس سليمة صحيحة، فقد عمد هؤلاء إلى استدرار عطف كل “دعامة” ممكنة لتقوية “صنعتهم/سرديتهم”، فكان ما نراه اليوم من دعم غربيّ- صليبيّ قائم على سردية مشابهة تؤمن بنبوءات العهد القديم التي نسجتها الرواية الصهيونية، فالتقت السرديتان تحت شعار واحد ومفهوم واحد قائم على عقيدة الخلاص والعودة الأخيرة.
4)
جرى تحقيق الفكرة الصهيونية على أرض الواقع، منذ 1948، بثلاثة أساليب: الإخلاء والإخفاء والإحلال: إخلاء المكان من أصحابه ومالكيه الأصليين، وإخفاء كل مَعْلم يمكن أن يذكّر بهم، من آثار أو تاريخ أو مظاهر حضاريّة، أو قرية أو بيت أو مسجد أو مدرسة وكل ما يشير إلى حياة نابضة بكل شيء كانت هنا. وإحلال حياة جديدة في ذات المكان، بعد الإخلاء والإخفاء، لتصبح “الحياة الجديدة” هي أول الأمر وآخره، وأن ما كان هو طاريء مؤقت!
5)
من هنا سأحاول الإجابة على السؤال الذي طرحته أعلاه. كيف سينتهي المشهد ومتى؟
الإجابة لن تكون مباشرة. لن أقول لك: سينتهي المشهد بهذا الشكل أو ذلك، أو بانتصار هذا الطرف أو ذاك الطرف، وإنما سأترك لك الحكم في نهاية المقال.
6)
في آب 2022 تحدث رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود براك، الذي أشغل أيضا منصب وزير أمن وقائد أركان، وخاض في حياته معارك ونفذ اغتيالات كثيرة ضد قيادات فلسطينية وعربية، عما يسميه “عقدة العقد الثامن”. كان ذلك في أوج احتفالات الإسرائيليين بالعام الرابع والسبعين لقيام دولتهم في فلسطين.
ومما قاله إن إسرائيل لم تعد طفلة، إنها في العقد الثامن من عمرها. ونحن في تجاهل صارخ لتحذيرات التلمود وندفع نحو النهاية. لم يُعمّر لليهود دولة أكثر من 80 عامًا، إلا في فترتين وهما فترة الملك داود وفترة الحشمونائيم.
غير أن براك هرب من الحقيقة الكاملة، أو قال نصفها فقط، حين ذكر بأن السبب الذي يمكن أن يقف وراء انتهاء عصر الدولة الحالية هو الانقسام والتشظي الداخلي، إذ قال إنه “لا الإرهاب قادر على تدميرنا، ولا الفلسطينيون ولا حزب الله ولا إيران.
إن العدو الحقيقي هو الانقسام الداخلي والتحريض والتعصب والعصيان”. كرجل عسكري، ربما لم يخطر لبراك يومها أن حدثا مثل السابع من تشرين الأول 2023 يمكن أن يحدث، لذلك بنى منطقه على التفتت الداخلي، وهو سبب وجيه يكفي لتدمير إمبراطوريات وليس فقط دولة صغيرة بحجم كف اليد كهذه، خاصة إذا انتهجت سياسة الظلم والقهر والطغيان.
لكن المسألة في الحقيقة أكبر من ذلك وأبعد من ذلك. ولعله من الجيد أن نفهم نفسيّة الإسرائيلي حين يتحدث في مثل هذه القضايا. فهو يُقرّ بجزء من الحقيقة، لكنه لا يمكن أن يعترف صراحة أن عدوه يمكن أن يهزمه ذات يوم. وهذا سببه الكِبر والغرور والاستعلاء، وهو كذلك جزء من حرب نفسية تحمل للعدو رسالة بأنه لا يمكن أن ينتصر.
7)
لم يكن إيهود براك هو الوحيد الذي يحمل عُقدة “لعنة العقد الثامن”. ففي عام 2017 قال نتنياهو، الذي يقود الآن الحرب على غزة، كجزء من حربه الكبرى التي سأتحدث عنها لاحقا، إن دولة الحشمونائيم عاشت 80 سنة، وعلينا أن نضمن أن تعيش دولة إسرائيل 100سنة. قال ذلك أثناء لقاء توراتي في بيته.
ومما قاله أيضا إن استمرار وجود الدولة ليس مفهوما ضمنا، بل يجب العمل من أجل تحقيقه، ولتحقيق ذلك يجب تدمير حركة حماس وتجريدها من سلاحها، وضرب علاقتها بإيران ودفع المنطقة للاعتراف بإسرائيل دولة للشعب اليهودي.
8)
عندما يقول نتنياهو إن وجود الدولة ليس مفهوما ضمنا، فإنه عمليا يعترف بأن هذا الوجود مهدّد، ولذلك لا بدّ من إزالة هذا التهديد حتى تستمر الدولة ويصل عمرها مائة سنة. وهذا سقف زمني متواضع جدا، مقارنة مع دول وإمبراطوريات نقشت على رايتها شعار البقاء والاستمرار إلى الأبد أو على الأقل لعدة قرون.
وأظن أن المؤسسة الإسرائيلية هي الدولة الوحيدة في التاريخ (القديم والحديث) التي تقول إنّ غاية حلمها هو البقاء مائة سنة، في الوقت الذي يرافق قادتها سيناريو الرعب من لعنة العقد الثامن. وهذا له سبب واحد…
9)
إن قيام المؤسسة الإسرائيلية لا يشبه قيام أية دولة أخرى عبر العصور، ومنذ لحظة قيامها الأولى كان قادتها يدركون أنها ولدت في أكبر عملية تزوير تاريخية ودينية عرفتها البشرية، ولادة غير طبيعية وغير شرعية، أُنجزت في عملية توليد غريبة من حمل كاذب.
10)
لذلك لا بدّ من وسائل لضمان استمرار حياة المُوَلّد المشوّه أطول مدة ممكنة من الزمن. وكان على رأس تلك الوسائل ضمان الدعم الدولي الذي شكل إكسير الحياة وأنبوبة الأكسجين التي يتنفس منها المولود العجيب.
ولم تُعجِز ذوو المولود الوسائل، وفي مقدّمتها الهيمنة الاقتصادية، ثم إيهام الدول الداعمة، بنبوءات دينية، بأن مصيرهما واحد، وأن استمرار الوجود من عدمه لا يستثني أحدا، وهذا نجده في السلوك السياسي والدبلوماسي لدول الغرب وفي مقدمتها أمريكا، وفي تصريحات قادة تلك الدول في المحطات الكثيرة التي كانت تل أبيب تخوض فيها مواجهة عسكرية، بما في ذلك المواجهة الحالية، ثم تصدير الأزمات الداخلية إلى الخارج على هيئة حروب شكّلت عمليا أحد أسباب البقاء والاستمرار، ثم تحقيق الهيمنة من خلال اتفاقيات تطبيع مع الأنظمة الحاكمة في المنطقة بوسائل إبليسية لو كُشف عنها الغطاء لوجدت العجب العجاب، وفي التالي إفراغ المنطقة من أي احتمال لتشكيل تهديد حقيقي.
وهذا هو الحال الذي عايشناه طوال نصف قرن، منذ اتفاقية كامب ديفيد عام 79، وصولا إلى أوسلو عام 93، ثم وادي عربة عام 94، ثم اتفاقيات التطبيع مع الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، والحبل على الجرار. لكنْ تبقى عقبة كأداء واحدة ووحيدة، تختلف عن هذا كله، تجب إزالتها.
11)
هذه العقبة هي المقاومة بكل أشكالها، وخاصة المسلحة منها. من أجل ذلك يسعى نتنياهو وحكومته إلى إغلاق هذا الملف على الجبهة الفلسطينية في غزة بداية، ولكن في الضفة الغربية أيضا، دون إهمال الجبهة مع حزب الله في لبنان وجبهة إيران التي شهدت ذلك التصعيد غير المسبوق، ثم الجبهة مع سوريا بعد سقوط نظام آل الأسد، الحليف الصامت التاريخي.
12)
لقد شكلت أحداث السابع من تشرين الأول 2023 صدمة تاريخية للمؤسسة الإسرائيلية، غير أن امتداد الحرب على هذه المساحة الزمنية غير المسبوقة في حروب تل أبيب سببت صدمة أكبر، ليس لتل أبيب فقط وإنما للمجتمع الدولي برمّته. كيف يمكن أن يحدث هذا؟
هذا مشهد غير مسبوق وغير منطقي في العلوم العسكرية. فما الذي يحدث إذًا؟ أيعقل أنّ تلك البقعة المخنوقة منذ 17 عاما، والتي لا تملك من عناصر القوة المادية شيئا، والتي لا تكاد تُرى على الخريطة تصمد كل هذا الوقت، وتسبب كل هذا الوجع لدولة تملك أكبر ترسانة عسكرية في المنطقة وتحظى بكل هذا الدعم العالمي بكل أشكاله العسكرية والسياسية والاقتصادية والإعلامية؟ هنا تقفز لعنة العقد الثامن، وطموح البقاء مائة سنة أمام الجميع. أمعقول هذا؟!!!!
13)
لذلك، وطوال فترة المفاوضات على عقد الصفقة، كان واضحا أن نتنياهو سيبذل كل ما يملك من خبث سياسي من أجل عدم تحقيق صفقة شاملة تنهي هذه الحرب وتطوي صفحتها، دون أن ينسى إلقاء تهمة إفشالها على الجانب الفلسطيني، يعينه في ذلك حلفاؤه من قادة أمريكا وأوروبا وغيرهم.
14)
لا بد إذًا، من استمرار الحرب حتى اجتثاث المقاومة كليا، مهما كلف الأمر، حتى يتسنى تحقيق الهيمنة النهائية، لأنه إذا كانت النتائج غير ذلك، فإن نتنياهو لن يكون في استطاعته ضمان الوصول بالدولة إلى الاحتفال بمئوية دولته.
15)
لذلك يقيني أن الحرب الحالية لن تتوقف حتى تُحسم أمور كثيرة. فقد خرج المارد من القمقم ولن يرجع إليه ولن يستطيع أحد إرجاعه. قد تهدأ الجبهات هنا وهناك لفترات، وقد تحدث أمور مهولة وأحداث عظام، لكنّ الأمر كله بيد الله، الذي يدبر الأمر كله، ويهيئ له من خلقه من يشاء كيف يشاء ومتى يشاء.
16)
بسهولة أستطيع، وأنت أيضا تستطيع، تخيُّل ما يقال في الغرف المغلقة، في تل أبيب وواشنطن والعواصم الأوروبية والقاهرة وأبو طبي وعمّان وفي أروقة الأمم المتحدة، حول المشهد وعجائبه. لذلك نرى عيانا هذا التوحش في استهداف كل ما له علاقة بالحياة في غزة. وبينما نتخيّل هذا لا ننسى ما يردده نتنياهو منذ الطلقة الأولى لهذه الحرب: إنها معركة وجودية وحرب النهضة… وللحديث بقية.



