أخبار وتقاريرمقالاتومضات

معركة الوعي (244) غزة بوابة القدس- أولا وآخرًا

من مسرحية الاعتراف بدولة وهميّة إلى دولة مهزوزة أضاعت البوصلة إلى دولة ستقلب الموازين

حامد اغبارية

(1)

“دولة واحدة في العالم تُغرق أعداءها بالمساعدات الإنسانيّة أثناء الحرب- وهي إسرائيل”!

هذا عنوان رئيس في موقع صحيفة “معاريف” العبرية قبل أيام. وهو عنوان واحد من مئات العناوين المضلِّلة التي تتصدر وسائل الإعلام العبرية يوميا في محاولة يائسة لتغطية الشمس بغربال.

جاء ذلك العنوان في موقع “معاريف” على خلفية مزاعم حكومة نتنياهو بأنها قررت إنزال مساعدات لأهل غزة جوًّا، بعد أن وجدت تلك الحكومة نفسها في وضع دولي لا تحسد عليه، بسبب تجويعها لأهالي غزة، ما أدى إلى استشهاد العشرات (حتى الآن) غالبيتهم من الأطفال!

إن حكومة نتنياهو، ومعها الدولة الإسرائيلية ومن خلفهما المشروع الصهيوني، تمر في أزمة أخلاقية غير مسبوقة، ليس منذ بداية الحرب الانتقامية المجنونة وحسب، وإنما منذ تأسيسها.

فقد كانت الماكينة الإعلامية الصهيونية قد نجحت طوال سبعة عقود في الترويج للأكاذيب والأضاليل التي تقبّلها القطيع الأعمى حول العالم، وتعاطف معها بلا تفكير، ودون التحقق من صحّتها، على الرغم من أن واقع الحال الذي رافق هذه الرواية طوال العقود السبعة كان يقول عكس ذلك تماما.

وهناك مئات المحطات التي يمكن التوقف عندها، وبقليل من الجهد يمكنك أن تكتشف الكذبة وحجمها، بدءا من “الأرض الموعودة”، و “شعب الله المختار”، ومرورا بممارسات العصابات الصهيونية عام النّكبة، ثمّ بكائية “الحق في الدفاع عن النفس”، ثم “الجيش الأكثر أخلاقية في العالم”، وما فعله ذلك الجيش طوال تلك العقود في سيناء والضفة وغزة ولبنان أثناء حروب “الدفاع عن النفس”!! وليس انتهاء بممارسات الجيش في غزة منذ قرابة السنتين، وممارساته في مخيمات الضفة الغربية، وجرائم المستوطنين التي اتّخذت في الأشهر الأخيرة طابعا دمويا يوميا في مختلف المدن والقرى الفلسطينية في الضفة المحتلة عام 67.

لم تنجح مسرحية إنزال المساعدات الإنسانية جوًّا، إذ سرعان ما تبين أنها محاولة يائسة بائسة لصدّ التيار الجارف الذي بدأ يحاصر حكومة نتنياهو من مختلف أنحاء العالم، جراء سياسة التجويع التي تمارسها تلك الحكومة ضد أهل غزة، والتي فضحت خفايا وخبايا ومكنونات صدر هذه الحكومة، إلى درجة أنّ حلفاءها التاريخيين والتقليديين، من أولئك لم يتركوا وسيلة تضليل ولا كذبة إلا واستخدموها لتبرير ما ترتكبه ضد الغزيين، قد افتُضح أمرهم وبدأوا يتذمرون من تلك الممارسات وتلك السياسة التي لم يعد في إمكانهم، إزاءها، الدفاع عنها أو تبريرها أو إقناع الرأي العام بما يصدر عن تلك العصابة من أضاليل.

لقد عمد جيش الاحتلال، منذ بدء الحرب، إلى سفك دماء المدنيين الفلسطينيين في غزة، بعد صدمة السابع من تشرين الأول 2023، وبعد أن فشل في المواجهة العسكرية، ذلك الفشل الذي اعترف به جنرالاته السابقون والحاليون، كما اعترف ويعترف به سياسيون من مختلف الطّيف السياسي الإسرائيلي. كما عمد إلى محاولة كسر شوكة الغزيين من خلال إغلاق المعابر ومنع إدخال المساعدات، بما فيها معبر رفح المصري الذي قصفته طائرات الاحتلال أكثر من مرة. ولما فشل في ذلك، ولم ينجح في تحريض الغزيين ضد أنفسهم، عمد إلى سياسة التجويع القاتل التي بدأت الشعوب وبعض الحكومات ووسائل إعلام غربية معروفة بولائها لتل أبيب ودفاعها عن جرائمها في غزة، تعبر عن رفضها لها واشمئزازها منها.

إنك لو طالعت مئات، بل آلاف العناوين والأخبار في وسائل الإعلام العبرية منذ بدء تلك الحرب ولغاية اليوم، لوجدت العجب العجاب، من حجم التضليل والكم الهائل من اختلاق المعلومات الكاذبة التي لا علاقة لها بالحقيقة.

(2)

وقفة متأنية عند التصريحات الأخيرة لنتنياهو ووزير حربه ورئيس أركان جيشه حول الحرب على غزة والصفقة واستعادة الرهائن وهزيمة حماس وما حول ذلك، وما خلف الكواليس، توصلك إلى نتيجة واحدة: دولة مهزوزة، أزمة عميقة، فقدان للثقة بالنفس، خوف من الوضع الحالي، وخوف أكثر من القادم، تردد، ارتباك، مؤشرات قوية على تضييع اتجاه البوصلة، شعور بورطة تاريخية، تناقضات، صراعات داخلية عميقة، حالة نفسية في الحضيض، عدم القدرة على استكشاف المخارج من وحل غزة، حشرجات خافتة تنمّ عن اعتراف ضمني بالفشل العسكري، وأهم ما فيها وأخطر ما فيها: عدم التأكد من المستقبل…!! وضع تحت هذه الجملة خطين أو أكثر. وإنّ من المتوقع أن يرتكب من يحمل شعورا كهذا حماقات دموية لا تُقارَن بما رأيناه حتى الآن طوال قرابة السنتين.

(3)

هل تصدقون أن فرنسا وبريطانيا وسائر الدول التي تطنطن منذ أيام بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، تقصد ذلك فعلا؟

وهل هناك حقا دولة فلسطينية يمكن الاعتراف بها؟

أين هي هذه الدولة؟ ما حدودها الجغرافية؟ ما علامات سيادتها؟

وهل كانت تلك الدول ستعلن نيتها الاعتراف بدولة فلسطينية كانت ستفعل ذلك لو شكّت للحظة واحدة، ولو بنسبة واحد بالمائة، أنها دولة حقيقية كسائر الدول ؟!

إنها “دولة” وهمية على الورق، تماما مثل- بل أسوأ- من تلك الدولة التي تحدث عنها قرار التقسيم عام 1947، والتي كان من نتائجها قيام دولة اعترفت بها كل دول الغرب والشرق والمتردية والنطيحة، لكنها لم تكن دولة فلسطينية.

إن هذا التحرك المشبوه هو وسيلة للضغط على حكومة نتنياهو من أجل التوصل إلى صفقة مع المقاومة الفلسطينية وإنهاء هذه الحرب التي عرّت السياسة الغربية المتواطئة. وحتى لا يُفهم الأمر خطأ، فإن السعي إلى وقف الحرب ليس من أجل عيون الشعب الفلسطيني، ولا من أجل إنقاذ أهل غزة، بل من أجل عيون تل أبيب وإنقاذًا لها من شر أعمالها. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة ألمحت، على لسان رئيسها ترامب، إلى عدم رضاها عن هذه الخطوة، إلا أنها ما كانت لتُتّخذ إلا بالتنسيق مع الإدارة الأمريكية.

إن هذه الدول، وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا هي ذات الدول الاستعمارية التي فتّتت العالم العربي وحولته إلى محميات تابعة للمشروع الاستعماري الغربي، وهي ذات الدول التي مكّنت للمشروع الصهيوني في فلسطين، وهي ذات الدول التي سخّرت كل مقدراتها المادية والعسكرية والسياسية لدعم المؤسسة الإسرائيلية، بل وأسهمت فعليا في حروبها ضد العرب والفلسطينيين طوال سبعة عقود.

تعلم فرنسا وبريطانيا وغيرهما من الدول التي أعلنت ذلك الإعلان المشبوه أنه ليست هناك دولة فلسطينية على أرض الواقع يمكن الاعتراف بها، ولو كانت هذه الدول صادقة فعلا لاعترفت بالدولة الفلسطينية – على الأقل- منذ التوقيع على “أوسلو”، تلك الكارثة التي مهرتها قيادات منظمة التحرير بتوقيعها، والتي خدعوا بها الشعب الفلسطيني يومها حين أوهموه أن “دولته” ستقوم خلال خمس سنوات!! خمس سنوات ما زال القطيع ينتظر انتهاءها منذ اثنتين وثلاثين سنة!

ولن تعجز تلك الدول التي أعلنت نيتها الاعتراف “بالدولة الفلسطينية” عن إيجاد وسيلة للتراجع عن نيتها تلك في اللحظة المناسبة، كما كانت تفعل دائما في مختلف الملفات المتعلقة بقضية الصراع على فلسطين.
ولو افترضنا أن هذا سيقع، وأن تلك الدول ستعترف بـ “الدولة الفلسطينية”، فإن هذا لن يعدو كونه حبرا على ورق، لا يُسمن ولا يغني من جوع، ولا يمنح الشعب الفلسطيني ما يطمح إليه، علما أن هذه الدول لم تسأل الشعب الفلسطيني عما يريده وعما يطمح إليه، وهو بالتأكيد – وهي تعلم ذلك- لا يبحث عن “بصلة” بعد أن صام دهرا.

إن هذه الخطوة إنما هي من خبائث المشروع الاستعماري، الذي يرى ما يجري في الميدان الآن، وبدأ يشعر بسخونة الوضع، وبألسنة النار تلسع جلده وجلد ربيبته في المنطقة. لذلك جاءت هذه الخطوة كمحاولة لاستباق الأحداث التي يمكن أن تقلب الموازين، وتغير أوراق اللعبة، وتنقلها من أيدي اللصوص إلى أيدي العدالة التاريخية.

مثل أمريكا، كذلك بريطانيا وفرنسا وغيرهما، بدأت تشعر بالخطر الداهم الذي بات يهدد المشروع الصهيوني ويقوّض أحلامه، خاصة أمام عجز أمريكا عن فعل شيء حقيقي لصالح الاحتلال الإسرائيلي. فبرغم التهديدات والعنتريات واستعراض العضلات التلفزيونية التي يطلقها ترامب على مدار الساعة، فإن أمريكا عاجزة عن فعل شيء حقيقي يخدم أجندة نتنياهو ومشروعه، وغاية ما تقدمه هو تهديدات فارغة من المضمون، ولا رصيد لها. وحتى عندما تسمع على لسان ترامب تهديدات يُشتمُّ منها التدخل العسكري في غزة، فإن هذا لا يعدو عن كونه مجرد كلام. فإن تجربة أمريكا في العراق وأفغانستان، وقبل ذلك في فيتنام، ماثلة أمامه. وأمريكا اليوم ليست أمريكا الأمس، وهزائمها العسكرية في تلك الدول والأثمان الباهظة التي دفعتها، وخروجها وهي تجرجر أذيال الخيبة تجعلها تفكر ألف مرة قبل أن تتورط من جديد. فما العمل في هذه الحالة؟ لا بد من إنقاذ تل أبيب من سلوكها المدمر وسياستها الحمقاء وحربها الخاسرة الأشد حمقا.

(4)

هكذا نجد أن “الشرق الأوسط الجديد” الذي يتحدث عنه نتنياهو إنما هو أضغاث أحلام، وما الجالسون على عروش إمبراطوريات الشر في واشنطن ولندن وباريس بتأويل أحلام نتنياهو بعالمين. لكنهم يعلمون أن “الشرق الأوسط الجديد” الذي يحلم به نتنياهو لن يكون، وأن ما سيكون فعلا هو “العالم الجديد” الذي سيشهد تحولا كونيا تتنفس فيه البشرية الصعداء بعد أن تتخلص من رجس الأوساخ الرابضة على صدورها.

وما يدريك؟! لعل الله يُخرج من تحت أنقاض غزة، ومن بين أطفالها المُجوّعين رجالا يكتبون المعادلة من جديد؛ رجالا يذكّرونك بخالد وسعد وألب أرسلان وسليمان القانوني ومحمد الفاتح ونور الدين زنكي وصلاح الدين وطارق ابن زياد ويوسف ابن تاشفين وسيف الدين قطز.

إن ما سيكون ليس مجرد دولة فلسطينية وهمية من تلك التي تريد بريطانيا وفرنسا وبضعة دول أخرى الاعتراف بها، بل امبراطورية تملأ الأرض قسطا وعدلا، بعد أن تطهرها من رجس جند الشيطان. ويغلب على ظني أنه عندما تقوم تلك الامبراطورية سيقول قائل: يا سبحان الله! كانت هناك دول لم تعد موجودة، وكانت هناك حدود قد أزيلت. إنها امبراطورية نرى- فيما يبدو لي- بوادر قدومها مما يحدث الآن ولمّا ينتهِ بعدُ. فلقد بلغ الظلم والطغيان والعلوّ مبلغًا عظيما، حتى إذا بلغ أقصى مداه، غدًا أبو بعد غد، تهاوت الأوهام التي نُسجت خيوطها في عصبة الأمم وسايكس- بيكو ومؤتمر بازل ومؤتمرات لندن وباريس وفرساي، وكُشف الحجاب عن الحقيقة.

(5)

وسط هذه الأحداث التي ستكون، أين ستكون غزة؟

لا يجوز أن نسأل هذا السؤال، لأن غزة موجودة أصلا، فهي البوابة…

تاريخيا كان الاستعمار الغربي، وقبله الصليبي والتتري، يعتبر غزة بوابة القدس. وهي فعلا بوابة القدس، فمن كان يريد أن يصل إلى القدس كان عليه أن يواجه غزة أولا. ولم يسجل التّاريخ، منذ فتح المسلمون عسقلان، أن غزة سقطت إلا ثلاث مرات، لا لضعفها، بل بسبب الخيانة: زمن الصليبيين، وزمن الاحتلال الإنجليزي، وفي عصر محميّات سايكس- بيكو. وفي المرات الثلاث كانت الخيانة عربية بامتياز.

وستكون غزة كذلك البوابة إلى القدس فيما سيأتي عندما يأتي…

(6)

إذا أردت أن ترى مخلوقات على هيئة البشر لكنّ سلوكها حيواني وفاشي متجرد من كل القيم الإنسانية، فأمامك القناة (14) العبرية.

قبل أيام، وفي خضم الحديث عن مشاهد تجويع الاحتلال لأطفال غزة حتى الموت، جلست تلك المخلوقات تتحدث عن طفل فلسطيني من غزة تحوّل إلى هيكل عظمي ووالدته المكلومة إلى جانبه. قال أحد تلك المخلوقات: كيف يمكن أن يكون هذا الطفل هيكلا عظميا بينما أمّه السمينة إلى جانبه؟ يعني لماذا هي سمينة؟!! وصاح آخر بسخرية واستهزاء: يبدو أن الأم ابتلعت الطفل… ثم انطلقت ضحكاتهم النُّباحيّة الساخرة المليئة بالتشفي. نحن أمام صنف من المخلوقات ليس له شبيه على كوكب الأرض.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى