على أعتاب مخيميّ طولكرم ونور شمس

الشيخ رائد صلاح
سافرنا يوم الإثنين الموافق 21/7/2025 إلى مدينة طولكرم لزيارة مخيميّ طولكرم ونور شمس الواقعين فيها، وكنّا وفدًا باسم لجنة المتابعة العليًا في الداخل، وكان عددنا ثمانية أشخاص.
ويوم أن وصلنا إلى مدخل مدينة طولكرم، كان من المتوقع أن نعبر الحاجز العسكري الإسرائيلي، ثم أن نصل إلى المخيمين بعد مرور ربع ساعة، ولكننا وجدنا ذاك الحاجز مغلقًا، فاضطررنا أن نتنقل عبر طرق التفافية وترابية أو معبدة ذات حفر كثيرة، وبعد أن مضى علينا ساعة ونصف الساعة، وقفنا على أعتاب الدخول إلى المخيمين.
وخلال هذا التنقل الاضطراري رأينا الكثير من الأمهات العجائز الفلسطينيات يهبطن جبلًا أو يصعدن جبلًا، وهن يسرن ببطء شديد وحذر مقلق كي لا يتدحرجن بين الحجارة والأشواك بهدف أن يتنقلن من ريف فلسطيني إلى آخر قد تقطعت بينهن السبل، وخنقت أنفاسهن الحواجز العسكرية الإسرائيلية.
ولعل تلك الأمهات العجائز الفلسطينيات كانت إحداهن على موعد مع طبيب لإجراء فحص طبي لها، أو على موعد لعيادة مريض لها، أو على موعد للتعزية بوفاة قريب أو صديق، كما ومررنا خلال هذا التنقل الاضطراري على أسراب أطفال كالعصافير كانوا يجلسون على حافة الطرقات ويعرضون دلاء الصبر والتين والخيار والفقوس للبيع، ثم عندما وصلنا إلى مدينة طولكرم، وقبل أن نتوجه إلى المخيمين استقبلتنا الجمعية الزراعية في تلك المدينة، وكان قد سبقنا وفد من القدس المباركة، كانوا جلوسًا في مبنى تلك الجمعية.
وبعد أن صافحنا الجميع وجلسنا في ذاك المبنى استمعنا لشرح مسهب مسند بالأرقام والحقائق والشواهد عن مأساة هذين المخيمين (طولكرم ونور شمس). ولأن الشرح كان مفيدًا ومستفيضًا فها أنا أسجله عبر هذه الملاحظات:
1- عرفنا خلال ذاك الشرح الهام أن قوات الاحتلال الإسرائيلي قامت بهدم المئات من بيوت المخيمين، وخلال إجراءات الهدم قامت تلك القوات بشق طرق طوليّة وعرضية في كل من المخيمين، وتعمدت سلفًا ألا يقل عرض كل شارع منها عن أربعة عشر مترًا، وهكذا تم تشريد مئات الأسر الفلسطينية التي كانت تسكن في تلك البيوت، والتي كانت مشردة أصلًا. وهكذا انتقلت هذه الأسر الفلسطينية من تشريد إلى تشريد، وهكذا تمزقت رابطة الهمّ الواحد التي كانت تجمع بين تلك الأسر، وتشتت شملها ووجدت نفسها مضطرة أن تعيش في بيوت مستأجرة في مدينة طولكرم مع ندرة عدد هذه البيوت، أو أن تعيش في بيوت موزعة في الأرياف الفلسطينية المحيطة بمدينة طولكرم.
وهكذا تم تحطيم مجتمع هذين المخيمين، وكأن الهدف من وراء ذلك كان تحطيم التمسك بحق العودة الجماعي الذي اجتمع عليه مجتمع هذين المخيمين وورثه كابرًا عن كابر، طمعًا لدى القوى التي وقفت من وراء فرض هذا الهدم والتشريد على هذين المخيمين أن تغلق بذلك ملف حق العودة الذي يجسد الثابت الأساس في القضية الفلسطينية.
ولعل هذه القوى، التي قد تكون إسرائيلية أو أمريكية أو أوروبية، كانت تنتظر حتى تعرف ما هي نتائج هذا الهدم والتشريد. ولعل هذه القوى استعدت أن تفرك أيديها فرحًا أذا ما أيقنت أن خطتها المعيبة قد نجحت، وأن الهدم والتشريد الذي أُوقع على هذين المخيمين قد هدم الثوابت الفلسطينية لهذين المخيمين وقد شرّد الإصرار على حق العودة عند لاجئي هذين المخيمين.
ولعل هذه القوى ستفرض بعد ذلك خطة هذا الهدم والتشريد على سائر مخيمات الضفة الغربية، وهكذا ووفق أطماعها ستصل إلى ضفة غربية جديدة، هي فلسطينية نعم، ولكنها ضفة غربية بلا مخيمات لاجئين؛ أي ضفة غربية بلا تكتلات بشرية فلسطينية تصر على حق العودة، وتتمسك به وإن طال الزمان، وتتوارثه كأمانة لا يجوز التفريط فيها من جيل إلى جيل.
وألفتُ الانتباه إلى أمر هام بيّنه لنا أولئك المضيفون الكرام، ما مفاده أن مبعوثًا أمريكيًا قام بزيارة هذين المخيمين، وكان في صحبته بعض العناصر الإسرائيلية، وقد عُرض في حينه على لجنتي هذين المخيمين أن تنضم إلى موكب ذاك المبعوث الأمريكي بحجة أنها ستتحدث له مباشرةً عن مأساة هذين المخيمين، إلا أن ممثلي هاتين اللجنتين رفضوا بإصرار ورأوا أن انضمامهم إلى موكب ذلك المبعوث الأمريكي ممثل العم سام (ترامب) سيضفي شرعية على تلك الجولة، وفي نهاية الأمر سيضفي شرعية على أهداف خطة الهدم والتشريد التي أُوقعت على هذين المخيمين.
فيا لها من صدمة سمعتها من الإخوة المضيفين، بل وهناك صدمة أشد منها سمعتها أنا ووفد لجنة المتابعة العليا منهم، لكن لن أكتب عنها!!!!!!
2- واستمرارًا للشرح والتحليل الذي سمعناه من الإخوة المضيفين أواصل وأقول: عرفنا منهم أن قوات الاحتلال الإسرائيلي، بعد أن شقّت الشوارع الطولية والعرضية في كل من المخيمين بعرض لا يقل عن أربعة عشر مترًا، فقد أحالت كُلًا من المخيمين إلى مربعات سكنية، بمعنى أنه لن يقال في قادمات الأيام هذا مخيم طولكرم وهذا مخيم نور شمس، بل سيقال هذا المربع السكني الذي يحمل اسم (س) وهذا المربع السكني الذي يحمل اسم (ص) وهذا المربع السكني الذي يحمل اسم (م) وهذا المربع السكني الذي يحمل اسم (ن)، وهكذا سيتم تذويب هذين المخيمين على هيئة مربعات سكنية ستنضم تلقائيًا إلى مدينة طولكرم، وستتحول إلى حارات ذات أسماء كجزء من حارات مدينة طولكرم، وستكون جزءًا من الحياة اليومية لمدينة طولكرم، وكأنه ما كان في يوم من الأيام مخيم اسمه طولكرم أو مخيم اسمه نور شمس، وهكذا سيتم تصفية وجود كل من المخيمين اللذين كان يمثل كل واحد منهما حاضنة أبدية لحق العودة الفلسطيني.
وكأن الذين التقوا على خطة الهدم والتشريد التي أُوقعت على هذين المخيمين يطمعون أن يتحول كل من هذين المخيمين إلى مقبرة لحق العودة، بعد أن مضت عليهما عقود طويلة بليلها ونهارها، وصيفها وشتائها، وعسرها ويسرها، وكربها وفرجها، كان كل منهما يصر على أداء دور حاضنة حق العودة الفلسطيني.
ولفت انتباهنا المضيفون أن ما يقع على هذين المخيمين ليس ارتدادًا لما بعد 7/10/2023 كما يدّعي البعض، بل إن خطة الهدم والتشريد التي أُوقعت على هذين المخيمين هي خطة قديمة، وقد بدأت تطل برأسها منذ فترة رئاسة ترامب الأولى يوم أن بدأ يطالب بتعريف من هو اللاجئ؟ ويوم أن بدأت بعض الأصوات ترتفع وتطالب بإلغاء دور وكالة الغوث في مسيرة اللاجئين الفلسطينيين.
وكأن كل ذلك كان تمهيدًا للمأساة التي تقع الآن على مخيمي طولكرم ونور شمس، إلى جانب المأساة التي تقع الآن على مخيمات أخرى في الضفة الغربية كمخيم جنين ومخيم الدهيشة ومخيم بلاطة وبعض المخيمات المحيطة بمدن الضفة الغربية، وكأن المطلوب هو فرض خطة الهدم والتشريد على كل مخيمات الضفة الغربية، وتحويلها إلى مربعات سكنية، وضم كل مجموعة من هذه المربعات إلى أقرب مدينة في الضفة الغربية لتصبح جزءًا منها، وهكذا ستتحول الضفة الغربية كلها إلى مدن فلسطينية وأرياف فلسطينية دون وجود لأي مخيم فلسطيني فيها، وهكذا تبدلت القيم واختلت الموازين، وأصبح من المسكوت عنه إقامة مستوطنات إسرائيلية في الضفة الغربية، وتجريم استمرار وجود المخيمات الفلسطينية في الضفة الغربية.
3- خلال الشرح الذي سمعناه من الإخوة المضيفين قالوا لنا: لا تظنوا أن إجراءات هدم البيوت قد ارتفعت عن مخيمي طولكرم ونور شمس، حيث تحولت الإجراءات من إجراءات هدم بيوت إلى إجراءات حرق. وبات المستوطنون يحرقون عشرات بيوت المخيمين على مرأى ومسمع من قوات الاحتلال الإسرائيلي.
وهنا أنوّه وأقول: عندما قمنا بجولة ميدانية على أعتاب هذين المخيمين، رأينا بأعيننا ألسنة النار الطويلة وهي تأكل بعض بيوت المخيمين، وشممنا بأنوفنا رائحة البيوت المحترقة وهي تغلف أجواء كلا المخيمين، وهكذا لا يزال هذان المخيمان تحت وطأة الهدم أو الحرق ما قبل زيارة المبعوث الأمريكي وما بعد تلك الزيارة الملغومة، لأنه جاء لزيارة المخيمين -على ما يبدو- كي يطمئن أن خطة هدم وتشريد المخيمين التي بدأ بإعدادها العم سام (ترمب) تسير على قدم وساق في هذه الزيارة، فبئست تلك الزيارة! ويا لقلة عقل من توقع من ورائها خيرًا لهذين المخيمين.
4- لذلك المطلوب من الأهل في مخيمي طولكرم ونور شمس، ومن سائر شعبنا الفلسطيني التحلي الدائم بالصبر واليقين، والتزود الدائم بالفهم والوعي وحسن قراءة الواقع، وحسن استشراف المستقبل، وعدم الانجرار وراء سحرة السياسة ووراء حبالهم، حتى لو خُيّل للكثير أن حبالهم تسعى، بل هي حبال لا حياة فيها، وهم سحرة لا صدق فيهم، وكل ما يصدر عنهم هو الغش والوهم والاحتيال.



