مسدسي هو القانون

الشيخ رائد صلاح
(مسدسي هو القانون). هو اسم فيلم كاوبوي أمريكي كان يُعرض على الشاشة في سبعينيات القرن الماضي.
ويبدو أن فحوى اسم هذا الفيلم لا يزال يعرضها البيت الأبيض على شاشة الواقع حقيقة لا تمثيلًا في هذه الأيام، وكأن ترامب وزبانيته يقولون لأهل الأرض، وكل منهم قد وضع مسدسًا على جانبه الأيمن، وآخر على جانبه الأيسر: (مسدسي هو القانون).
وقد بات واضحًا لكل حر عاقل أن سلوكيات البيت الأبيض باتت توحي بذلك، حتى لو لم يصرح بذلك الناطق الإعلامي الرسمي في البيت الأبيض، حتى غدا هذا القول المارق (مسدسي هو القانون)، هو الذي يحكم أهل الأرض اليوم، وحتى غدا.
هذا القول المغرور (مسدسي هو القانون) فوق هيئة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، وفوق كل ما تفرع عن هيئة الأمم المتحدة من لجان ومنظمات ووكالات، وفوق محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية، وفوق مواثيق هيئة الأمم المتحدة، وقوانينها وقراراتها وأعرافها. وهكذا بات البيت الأبيض يفتل عضلاته على كل أهل الأرض، ويهدد بتوجيه لكمة قاضية إلى كل من يخالفه.
ولأنه بات كذلك، فقد بات يستبيح لنفسه هذه الحزمة من السلوكيات التي شرعنها بقوله: مسدسي هو القانون:
1. البيت الأبيض يقول لأهل الأرض: أنا الذي أعطي الموافقة لأي دولة تريد أن تجري أبحاثًا نووية، وأنا الذي أمنع دولًا أخرى من إجراء هذه الأبحاث النووية، حتى لو كان هدف هذه الأبحاث الاستفادة العلمية منها في الطاقة والكهرباء والخدمات الصحية. ومن خالف أمري، وواصل إجراء أبحاث نووية بعد أن قلت له: توقف فورًا عن إجراء هذه الأبحاث، فسأقوم بتدميره، حتى لو تسبب تدمير منشآته النووية إلى تسرب إشعاعات نووية قد تهلك الحرث والنسل وتفسد على الأرض المحيطة بالمنشآت النووية المدمرة قدرتها على الإنتاج الزراعي لقرون من الزمان، كي يذعن الجميع لأمري الذي لا يجوز أن يُعصى، لأن أمريكا العظمى فوق الجميع.
2, بات البيت الأبيض مزاجي الفهم والتقييم، ففي الوقت الذي أدان فيه إلحاق أضرار بمستشفى سوروكا بسبب الصواريخ الإيرانية، فقد سكت عن 700 هجوم عسكري مسلح على الكثير من المستشفيات بغزة، حيث تم هذا الرقم المهول من هذا الهجوم العسكري بأسلحة أمريكية. وهكذا بات البيت الأبيض يرى بعين واحدة، كما هو المسيح الدجال المنتظر ظهوره في قادمات الأيام.
فهو البيت الأبيض الذي بات يرى بإحدى عينيه الضرر الذي وقع على مستشفى سوروكا، ولا يرى بعينه الأخرى الضرر الذي وقع على عشرات المستشفيات والمستوصفات الطبية بغزة، وكأن هذه العين الأخرى باتت طافية كإحدى عيني الدجال، لا ترى شيئًا.
3, بات البيت الأبيض معدوم الموازين، فلا موازين يحتكم إليها في فهم الأحداث، حتى يميز الخبيث من الطيب، بل هو الذي بات يصف الأحداث كما يشاء، على اعتبار أن (مسدسه هو القانون).
وإذا قيل إن القوي المنتصر هو الذي يكتب التاريخ، فإن البيت الأبيض بات لسان حاله يقول: الآن القوي هو الذي يصنع القيم والموازين، ويفرضها على من يشاء، فهو الذي يحدد من هو المتحضر، ومن هو الإرهابي، ومن هو المتمدن، ومن هو الهمجي.
وعلى هذا الأساس بات البيت الأبيض مفضوحًا أمام كل عاقل حر في الأرض، عندما أدان قصف المدنيين في المدن الإسرائيلية، وسكت عن قتل أكثر من 20 ألفًا من الأطفال والرضع بغزة. ولا أدري هل يريد البيت الأبيض أن يقول عبر هذا الفهم المشوه: هناك رضيع دون رضيع، وهناك طفل دون طفل، وكأني به يريد أن يقول صراحة: الرضيع الفلسطيني هو دون الرضيع الإسرائيلي، والطفل الفلسطيني هو دون الطفل الإسرائيلي، ولا يستويان.
4, بات البيت الأبيض يتعامل مع وكالة الطاقة الذرية الدولية كأنها غير موجودة، ويجوز له ما لا يجوز لها، وهي تبع له، وليس هو تبع لها.
ولذلك في الوقت الذي كان من المفروض فيه أن تواصل هذه الوكالة بحثها في إيران، ثم أن تصدر تقريرها إلى مجلس الأمن إذا ما وصلت إلى طريق مسدود في مفاوضاتها مع إيران، ثم أن يبحث مجلس الأمن في هذا الحال الطارئ، ثم أن يعلن حكمه على إيران، إلا أن البيت الأبيض قفز عن كل ذلك، فهو صاحب شعار (مسدسي هو القانون)، وقام بقصف مركز (فوردو) للأبحاث النووية في إيران، إلى جانب قصف مركز (أصفهان) ومركز (نطنز) للأبحاث النووية في إيران، ثم قد يقول البيت الأبيض بعد ذلك : نحن نرحب بكل تقرير يصدر عن الوكالة الدولية للذرة، ونحن نرحب ببحث موضوع إيران في هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ونحن نمد أيدينا البيضاء الناعمة، لأنها أيدي الرجل الأبيض، إلى إيران لمواصلة المفاوضات السلمية الأخوية الحضارية معها حول مستقبل منشآتها النووية.
5, وكأن لسان حال البيت الأبيض بات يقول لأهل الأرض بعامة، وللأمة الإسلامية، والعالم العربي بخاصة، إحزروا (من كلمة حزورة) من سيأتي عليه الدور بعد إيران من أمة الهلال الرجعية المتخلفة التي يجب أن لا تحسن إلا رعي الجمال والأغنام والأبقار، والتي يجب أن تحافظ على دورها الأبدي كسقاة مياه، وحطابي أخشاب لنا، وإلا فالويل لمن رفع رأسه منها أكثر من الارتفاع المحدد له، فنحن البيت الأبيض قد دمرنا مشروع القذافي النووي في مهده، ثم دمرنا مشروع صدام حسين النووي في بداياته، ثم دمرنا مشروع ايران النووي، بعد أن كاد أن يصل إلى مبتغاه، وباقي مشاريع النهضة في دائرة الأمة الإسلامية، والعالم العربي على القائمة بالدور.
نعم، هكذا بات لسان حال البيت الأبيض، ولا أدري من سيأتي عليه الدور بعد إيران، هل عيون الصليبية العالمية والصهيونية العالمية تتجه إلى باكستان أم إلى تركيا؟ أم إلى غيرهما؟ وهل نحن أمام توسيع رقعة جغرافية الاحتلال الأمريكي للأمة الإسلامية والعالم العربي، وكأن البيت الأبيض اليوم يطمع بفرض انتدابه الأمريكي (بعد انتهاء الانتداب البريطاني والفرنسي) على الجزيرة العربية بقدها، وقديدها، وعلى مصر والمغرب العربي والسودان، والعراق وكل الشام ثم على تركيا وماليزيا وأندونيسيا، ثم على باكستان وبنغلادش وأفغانستان، ومن يدري؟ لعل جملة كل من بوش الأب، وبوش الابن، لا تزال تتردد في البيت الأبيض، عندما قال كل منهما للجيش الأمريكي، أنتم مقبلون على حرب صليبية.
6. سيتبارى الشعراء بينهم على صعيد عالمي، في قادمات الأيام القريبة حول القصيدة التي ستحسن وصف الغطرسة الأمريكية كما هي، دون أن تغفل عن جانب منها.
وحول القصيدة التي ستحسن وصف الأحجية الغامضة التي اسمها ترمب، ومن هو؟ وما سر تقلبه في القضية الواحدة عشرات المرات؟ ولماذا يمط فكيه عندما يتكلم لدرجة أن فمه يتسع كأنه فم تمساح؟ وهل هو الذي يحكم على نتنياهو؟ أم نتنياهو يحكم عليه؟ أم أن هناك ثالثًا يحكم عليهما وإن كنا لا نعرفه؟ وإلى أين يسير ترمب بأهل الأرض ما بعد تدمير مركز فوردو الذري الإيراني؟ وهل يستقي قراراته المصيرية من نبوءات العهد القديم والعهد الجديد، أم من مصدر آخر لا نعرفه؟ وهل وهل وهل هي أسئلة كثيرة.
إلا أن المتابع للأحداث يلاحظ أن البيت الأبيض الذي سخر من قرارات محكمة الجنايات الدولية حول كارثة غزة، وحول نتنياهو وجلانت، هو البيت الأبيض الذي قام بتدمير مركز فوردو النووي الإيراني دون الاعتماد على أي قرار دولي يشرعن ما قام به.
فهي هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن والوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومحكمة الجنايات الدولية، ومحكمة العدل الدولية، لم تقل كلمتها الأخيرة في ملف إيران النووي، ومع ذلك، هو البيت الأبيض الذي يقرر لوحده تدمير مركز فوردو النووي الإيراني، وهم الطيارون الأمريكيون، والطائرات الأمريكية، والصواريخ الأمريكية الذين نفذوا تدمير هذا المركز النووي، وكأن أهل الأرض تحولوا إلى قطيع مواشي في حسابات البيت الأبيض.
ولذلك أنا شخصيًا لا أستغرب على ترامب أن يطل علينا من على شاشة قناة الجزيرة، وهو يضع قبعته الحمراء على رأسه يقول لنا وكأن أهل الأرض أغيلمة يتقنون فهم المقروء بصعوبة في نظره: أدعو مجلس الأمن لانعقاد طارئ لبحث ملف إيران النووي وفق ميثاق هيئة الأمم المتحدة.
7. يا لنكد البشرية وشقاوتها وانحطاطها من غطرسة البيت الأبيض الذي بات مراهقًا، صليبيًا، يحمل بين يديه مفاتيح إطلاق الصواريخ النووية القادرة على تدمير الأرض، يا لهذه البشرية المنهكة، التي لا تزال تصلى نار غرور البيت الأبيض، بداية من مأساة الهنود الحمر، ووصولًا إلى مأساة شعبنا الفلسطيني، ولكن سأبقى متفائلًا، وسأبقى موقنًا أن الله تعالى سيرحم هذه البشرية من هذا الويل الذي تغرق فيه الآن، نعم سيرحمها الله تعالى بعودة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة التي ستملأ الأرض قسطًا وعدلًا، بعد أن ملئت ظلمًا وجورًا.