أخبار وتقاريرمقالاتومضات

هل من عودة للتواصل الحقيقي؟

ليلى غليون

كل شيء في هذه الحياة بحاجة إلى رواء حتى يعيش ويستمر، وإلا فإن حالة من التصحر والجفاف تداهم هذه الحياة وتجعلها شبه ميتة لا طعم لها ولا لون، فإذا كان الماء أساس الحياة لقوله تعالى: (وجعلنا من الماء كل شيء حي) فإن التواصل الإيجابي بين الناس هو مياه القلوب والتي إن جفت منها أصبحت صحاري قاحلة، تربتها يابسة ومتشققة، وانعدمت فيها معالم الحياة.

نرى اليوم بيوتنا وقد شيدت على أحدث طراز، قائمة على الاسمنت والحديد الذي يضمن قوتها وصلابتها وتماسكها من الانهيار والسقوط، ولكن وللأسف الشديد نرى العديد من هذه البيوت يمكن أن نطلق عليها بيوت الثلج والجليد وقد لبست على مشاعر الكثير من الناس من برودها وقسوتها وصلابتها، وفصلت بين الأقارب والجيران والأرحام ،فهل بتنا في زمن المصلحة الذاتية والأنانية والفردانية؟!

فبالرغم من التقدم التكنولوجي الرهيب الذي من المفترض أنه يقرب المسافات البعيدة، إلا أن الصورة العكسية هي السائدة اليوم حيث البعد الشاسع بين الناس وبين التواصل الحقيقي بينهم.

يظن الكثير اليوم أن مجرد رسالة في الهاتف الخليوي تكفي للتواصل فيما بينهم ويؤدون ما عليهم من حقوق تجاه بعضهم من واجب تهنئة، أو واجب عزاء، أو حتى السؤال عن الأحوال. يقولون نحن في عصر التواصل الاجتماعي، ولكنه التباعد النفسي والشعوري والعالم الافتراضي وليس الحقيقي، والدليل المسافات بين القلوب تتسع والحواجز بينها ترتفع، أصبح هم الفرد في الغالب، كيف يحقق أكبر نجاح في عمله، في مهنته في زيادة أمواله. أما النجاح في علاقاته مع الآخرين فهو مرهون ومتوقف على الظروف إذا سمحت، وعلى الوقت إذا بقي فيه متسع، وعلى الفرص إذا سنحت، هذا إذا كان في الأصل لهذه الامور مكان في قائمة برنامجه.

أصبحت حياة الأغلب منا وكأنها سباق محموم مع الزمن فلا يكاد ينتهي من سباق حتى تبدأ فصول سباق جديد، فأين مكان العلاقات الاجتماعية ؟ وهل بقي للتواصل مكان في خضم هذا السباق؟

تسأل أحدهم أو إحداهن إذا التقيت به بعد طول غياب، وسكناه لا يبعد عن سكناك بضع مئات الأمتار أو أقل، أين أنت يا رجل؟ أين أنت يا فلانة؟ ليكون الجواب الجاهز: مشغول والحياة صعبة.

ورغم هذا تجد طعم الحياة في أفواه العديد ممزوجًا بالمرارة رغم ما تفرزه الحياة من نعم لا تعد ولا تحصى.

تجد فكر العديد من الأفراد مشغولًا وكأن هموم الدنيا اجتمعت كلها فيهم مع كل مظاهر الترف والبذخ التي تبدو واضحة على هؤلاء؟!

يغضب الواحد على أتفه الأسباب فتندلع ثورة عصبيته ويترجمها كلمات نابية وجارحة أكثر من السيوف والنبال، بينما في حالة الرضا يجلس في برجه العاجي ربما متعاليا ربما عاجزًا عن كلمات تقطر بالمحبة والجمال على من حوله سواء كانت زوجة أو ابن أو صديق.

فكيف تستقيم الحياة وتزهر إذا جدبت ونضبت منها مياه الحياة؟ أرأيت وأنت تشارك زوجتك أو ابنك أو صديقك أو جارك مشاعره، ألا ترى بأنك تشاركه حسه ونبضه وفكره؟! ألا ترى بأنك تتألم لألمه وتفرح لفرحه؟! ألا ترى أنك أصبحت هو في الإحساس والشعور؟!

فالتواصل والمحبة بالأصل شعور يزهر في القلوب، وهو ارتباط روحي بين الناس ينعكس على السلوك والمعاملات، إنه شعور يتغلغل في أعماق الوجدان ويبث في النفس طاقة وحيوية تدفعها إلى السلوك الحسن ، والمعاملة الطيبة الراقية البعيدة عن الأنا والمصلحة الذاتية الضيقة، كما يدفع نحو الإحسان والعفو والتسامح وكل القيم النبيلة السامية.

نحن بحاجة ماسة لعودة شلالات المحبة الصادقة والتواصل الحقيقي تصب في قلوبنا خاصة في هذا الزمن الرديء الذي انفصلت فيه عرى التلاحم والترابط، واعتلت الفردانية صهوة الحياة، وطغت المادة بل غرزت فيه أنيابها وتقطعت الأنفاس جراء اللهاث المحموم خلف المصالح والأنا.

نحن بحاجة لعودة ينابيع البر والتعاون والتواصل المحمود تتفجر في قلوبنا، فليس المشلول من ابتلاه الله تعالى بالعجز في قدميه ولكن المشلول من فقد القدرة على الإحساس بالآخرين، الذي تعطلت عنده لغة التواصل مع الآخرين، الذي جفت في قلبه أزهار المحبة لتصبح أشواكا واخزة.

فإياك أخي/أختي أن تكون مشلول المشاعر. اجعل من مشاعرك وأحاسيسك لوحة مشرقة مضيئة ملونة بألوان الربيع.

ترجم مشاعرك بابتسامة تلقى بها أخًا أو صديقًا أو مهمومًا تزيل عنه ما علق في قلبه من غبار الهم والحزن. ترجمها زهرة جميلة تهديها لزوجتك فتشم مع عبيرها عطر محبتك الذي ينساب إلى قلبها وروحها فتعيش في جنة على الأرض أنت من شيدها لها. ترجمها لمسة حانية تربت بها على كتف طفلك أو طفلتك تشعره بأن الدنيا كلها أصبحت ملك يديه وأن الأمان كل الأمان يسربله ويغشى قلبه ليحيا في واحة من الاطمئنان والسكينة. ترجمها زيارة لمريض تخفف عنه بعض آلامه وتشعره أن الدنيا لا زالت بخير لأن فيها أمثالك الذين يتألمون لآلام غيرهم ويعيشون بنبضات قلوبهم. ترجمها بالتواضع للغير الذي يرفع من قدرك وبه يعزك الله عز وجل. ترجمها بإطلاق سهام الليل تدعو فيها لإخوانك ولكل الناس لعل دعوة منك يتقبلها الله تعالى.

وقبل كل ذلك، ترجمها بعودة صادقة إلى الله تعالى وبصلح معه سبحانه، فوالله لن تستقيم لك علاقة مع أحد حتى تستقيم علاقتك مع الله عز وجل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى